إيران وتوطين تكنولوجيا الإرهاب
هناك تصور ساذج وعن قصد، تسوّقه أطراف عربية، وإقليمية، ودولية ، بعضها يطرح نفسه كقوة معادية لإيران، بأن إيران دولة راعية للإرهاب، وفي أحيان أخرى يستبدل المصطلح بصيغة أخرى فيقال : إن إيران دولة داعمة للإرهاب، وأحياناً أكبر دولة راعية للإرهاب الدولي.
لا ضرورة للعودة إلى تاريخ قديم، لكن تسليط ضوء على أحداث العالم الغربي وخاصةً ما جرى بين كوبا والولايات المتحدة منذ وصول الرئيس الكوبي، فيدل كاسترو إلى السلطة عام 1959م، يمكن الجزم بأن عصر اختطاف الطائرات في العالم تمّ تدشينه من المطارات الأمريكية إلى كوبا، وبدأ منها نحو هافانا، وتمّ تسجيله كاختراع كوبي لمعارضي السياسة الأمريكية تجاه نظام الرئيس كاسترو، ولا صلة له لا بالعرب، ولا بالتطرف الإسلامي، مع أن بعض الأفراد المنتمين إلى بعض فصائل المقاومة الفلسطينية قد لجأوا إليه، ولم يكن بينهم فصيل واحد بتوجهات إسلامية في ذلك الوقت، وعلى العموم لم تكن تلك العمليات لترتقي إلى حد وصفها بالعمل الممنهج، والذي اكتسب قواعد تنظيمية راسخة، ولكن أحداً لم يكن ليطلق وصف الإرهاب المسيحي على ما كان يحصل كما هو الحال في وصف كل الأعمال بأنها إرهاب إسلامي.
ولكن مجرى التاريخ شهد انعطافة كبرى منحدراً إلى قيعان عميقة بعد 11/2/1979 أي بعد وصول الخميني إلى السلطة في إيران محملاً بكثير من عقد التاريخ وأحقاده وأوهام مختزنة في الذاكرة الجمعية لبلاد فارس، فكان ذلك اليوم مؤشر خط الانتقال من أمن كامل داخل المجتمعات "هذا إذا استبعدنا الحروب النظامية" كانت شعوب العالم شرقاً وغرباً تعيشه بطمأنينة واستقرار إلى قلق، وترقب لموت مفاجئ لا يعرف الإنسان البسيط من أين تخرج له رسله، وهذا كله تمّ؛ لأن (الخميني) وظفّه تحت ذريعة محاربة الاستكبار العالمي، فقد ركزّ (الخميني) من الأيام الأولى لوصوله إلى الحكم على تشكيل جهاز إرهابي عابر للحدود والقارات باسم "مكتب حركات التحرر" ، وأناط مسؤوليته إلى أحد المقربين إليه، وهو هاشمي رفسنجاني، وذلك من أجل وضع شعاره الذي ارتفع في سماء إيران عالياً، وهو شعار "تصدير الثورة".
ومنذ ذلك التاريخ، غادر الإرهاب طابعه الفردي وعلى مستوى الدول، وتحوّل إلى عمل لا يعرف الانتماء إلى جنسية محددة، وصار نشاطاً مؤسسياً منظماً وكامل الاستحضارات، واستقطب إلى صفوفه كل من يحمل في داخله شعوراً بالغبن والظلم من حكومة بلده أو من ظلم خارجي، وهذا الظلم يمكن النظر إليه على أنه أكبر مفقس ومزرعة للتطرف، وصار الإرهاب الجديد تحت إشراف دولة ذات موارد هائلة ، وخصصت له جانباً كبيراً من ميزانيتها كتخصيصات مالية مع جهاز إداري متفرغ ومعسكرات متكاملة للتدريب والتجهيز تستضيف في ساحاتها شباباً من مختلف الجنسيات ممن أضاعوا بوصلتهم السليمة، وانساقوا وراء سراب الشعارات الزائفة، حتى صارت العمليات الخارجية لمكتب حركات التحرر صبغة طبعت مختلف المجتمعات بصبغة لون واحد، وإن تعددت اللافتات التي تقف تحتها، فتحولت أنشطتها إلى منهاج رسمي تضطلع به كل موارد الدولة الإيرانية ومؤسساتها العسكرية والمدنية، وبهذا فإننا نستطيع القطع بأن إيران لم تكن راعية للإرهاب الدولي إلا لفترة وجيزة من وصول الخميني إلى الحكم في إيران، فبعد أن تمكنت من توطين تكنولوجيا الإرهاب وتطوير أدواتها، وباتت أكثر دول العالم خبرة في هذا الميدان؛ "لأنها وربما لمدة سنة واحدة من عمر ما يسمى بالثورة الإسلامية كانت تستورد الخبرة في هذا المجال قطعة وراء أخرى"؛ ولأن هذا النمط من السلوك العدواني الشاذ ينسجم تماماً مع طبيعة النفسية الإيرانية المنطوية على نفسها، والتي تبطن ما لا تظهر والتي لا تستطيع الانتقام لنفسها بصورة مباشرة بل تبحث عن أدوات تفعل لها ذلك كي لا تتحمل المسؤولية الأخلاقية والجنائية عما حصل، فقد أبدعت إيران الثورة والدولة الإيرانية الجديدة في تطوير مهارات النشاط الإرهابي الخارجي عبر تجنيد حركات ومنظمات خارجية، فنحن مثلاً لا نستغرب عندما نجد أن الساحة العراقية تعج بأكثر من 60 مليشيا طائفية كلها تتحرك بريموت كونترول إيراني يمسكه الجنرال (قاسم سليماني) وبتوجيه من الولي الفقيه، وكلها تتنافس بنفاق لا مزيد عليه لكسب ودّ إيران، وتزايد على بعضها في الإيمان بولاية الفقيه والولاء للمرشد، وهنا سيطرح سؤال فوري... ما الذي يجعل إيران تفضل هذا التشتت في أدوات كلها تتحرك بأمرها من دون أن تصدر لها أمراً بالتوحد في مليشيا واحدة، وهو أمر لا يحتاج إلى أكثر من ساعة لتنصهر تلك المليشيات في بوتقة واحدة ويمضي زعماؤها إلى المجهول؟.
لا شيء يخيف إيران من وجود قوة كبيرة واحدة حتى إن كانت تابعة لها خشية من أن يقع المحذور فتجد في نفسها الأهلية اللازمة لرفع كلمة لا بوجه إيران خاصة إذا ما استرجعنا تاريخ بلاد فارس المليء بالمؤامرات التي ينفذها الأمراء لقتل آبائهم الملوك، استناداً إلى هذا التاريخ المزدحم بعقد الماضي وسحبه على تعامل إيران مع الساحات الأخرى، لهذا نجد أن جيش المهدي عندما أصبح قوة مسيطرة على الشارع الشيعي بعد احتلال العراق عام 2003 ، وبات يحمل مشروعاً يزعم تمثيل شيعة العراق، وقعت معركة النجف عام 2004 التي شنها (إياد علاوي) عندما كان رئيساً للوزراء بدعم من القوات الأمريكية ومليشيا (بدر) قبل أن تتغول، وتنسلخ عن "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق"، ولكن هذه العملية، وإن كانت قد كسرت اليد اليسرى لجيش المهدي إلا أن عموده الفقري بقي على ما هو عليه من قوة، فجاءت عملية صولة الفرسان التي شنها (نوري المالكي) في ربيع عام 2008 في البصرة، وامتدت إلى مدينة الثورة والشعلة في بغداد اعتقاداً من حزب الدعوة أن هاتين المنطقتين هما الخزان البشري للتيار الصدري، وجيش المهدي، ولكن العمليتين لم تقتلعا جيش المهدي من جذوره، هنا وضعت إيران خطة محكّمة لتمزيق أوصال مليشيا (مقتدى الصدر)، إذ دعمت أو بالأحرى حركت (قيس الخزعلي) لتشكيل ما يسمى بـ(عصائب أهل الحق) مما أدى إلى نشوب نزاعات دموية بين الطرفين واشتباكات غذتّها حكومة المالكي ومن ورائها دولة الولي الفقيه.
ليس هذا فقط هو ما حصل بل إن إيران لم تكن لتتردد في دعم أطراف من مختلف الشرائح والمكونات في الخارج حتى خصومها وأعدائها في تشكيل منظمات مسلحة كما هو الأمر مع حركة الجهاد الإسلامي، وحماس الفلسطينيتين ليس إيماناً بالقضية الفلسطينية، وإنما لإيجاد بؤرة انقسام داخل الملف الفلسطيني، وكانت تصل إليهم عبر أطراف ثالثة أو عبر وسطاء لا يمكن أن يتصور أحد أنهم مرتبطون بإيران أو يتعاملون معها، وعندما تحاول تلك المنظمات والتشكيلات الانسحاب من مأزقها التاريخي، تجد نفسها غارقة في حقول ألغام متتالية لا يمكن الخروج منها بلا تضحيات جسيمة.
إيران باختصار شديد، ليست كما يزعم العالم دولة راعية للإرهاب، إيران دولة مصنعّة للإرهاب بكل حلقاته المستوردة والمبتكرة محلياً بخبرة عقول مريضة لا تشعر بالراحة إلا عندما ترى العالم يعيش قلقاً مزدوجاً بأعلى درجاته، ولكن العالم وللأسف الشديد ولحسابات العلاقات مع الدولة الإيرانية والصفقات التجارية والتسليحية أو لتجنب غدر بلاد فارس، على استعداد للتغاضي عن تشخيص الدور الإيراني في الترقب الإنساني لموت من أي مصدر متوقع أو غير متوقع، وأسوأ ما يمارسه الإعلام المنحاز ضد العرب خاصة، أنه يخفف من أي دور لإيران في نشوء الإرهاب الدولي، ويلقي باللائمة على منفذين مغامرين متعطشين للدماء، أو مخدوعين بشعارات عالية الرنين، من دون أن الرجوع إلى جذر الأزمة والذي يتمثل بالمدرسة الفكرية التي تخرجوا منها، وهي مدرسة (الولي الفقيه)، وشعار تصدير الثورة حتى لو زعموا أنهم ضدها، فما أكثر من ينتمون إلى مدرسة فكرية أو سياسية ولكنهم يجهلون ذلك.
واللافت أن إيران الآن، وفي الماضي تتصرف كأي لص يقتل، ويسرق، ثم يخفي رأسه، خاصة في ضوء متغيرات على مزاج الرأي العام الدولي بعد أن عرف عن يقين أن إيران هي الطرف الأكثر تهديداً للأمن الدولي من خلال أذرعها التي زرعتها ووزعتها بدقة على أهم مناطق العالم التي تستطيع من خلالها ممارسة الضغط النفسي على أعصاب العالم الذي يتطير من أي تهديد لمصادر الطاقة أو لخطوط الملاحة الدولية.
ولعل جريمة اختطاف الصيادين القطريين التي نفذها (حزب الله) العراقي، والمرتبط مباشرة (بقاسم سليماني)، ويتحرك بأوامره، وشكلاً بالقائد العام للقوات المسلحة "حيدر العبادي" بحكم كون المليشيا المذكورة جزء من "الحشد الشعبي" ، وهو الذي اعتبره القانون جزء من القوات المسلحة، لعل هذه الجريمة الإرهابية التي كان يجب أن تأخذ بعدا أكثر مما أخذته حتى الآن، لا سيّما، وأنها كانت جريمة هدّدت حياة أبرياء دخلوا العراق بتأشيرة دخول رسمية "وإن كنا نتحفظ في واقع الحال على هذا الترف غير الأخلاقي لبعض أثرياء الخليج العربي في البحث عن لذة رخيصة في بلد ينزف دماً، ويعيش انفلاتاً أمنياً غير مسبوق جاءوا في الوقت الخطأ والمكان الخطأ"، ولكن هذا شيء وتنفيذ هذه الجريمة شيء أخر خاصة؛ لأنها لم تكن ذات بعد مالي فقط " وإن كان هذا الأمر ليس خارج خطة المخططين للعملية أو المنفذين لها"، وإنما لها أهداف سياسية رسمتها إيران بدقة؛ لتفرض إجراء تغييرات ديمغرافية في سوريا والإفراج عن مجرمي حرب من حزب الله اللبناني، تمّ أسرهم من جانب المعارضة السورية في ساحة المعركة، وليس في شوارع الضاحية الجنوبية من بيروت، ومما يؤسف له أن أصل الجريمة تمّ طمسه، وأصبح الحديث عن الفدية المالية الهائلة التي دفعتها الحكومة القطرية، وهل دخلت بصورة مشروعة أو هل هي عملية غسل أموال، وتمّ التركيز على مخالفة الحكومة القطرية لقوانين تحويل العملة، أما الجهة المنفذة للجريمة والتصميم الإيراني الدقيق لها فأصبح حديثاً بلا قيمة ولا جدوى، وكأنها خطة لاستبعاد إيران من صورة المشهد بكامله.
أما ما حصل في اسطنبول أواخر شهر نيسان الماضي وذلك باغتيال المعارض الإيراني (سعيد كريميان)، ومعه أحد الأثرياء الكويتيين في أحد شوارع المدينة، فهو دليل على أن إيران لن ترتدع عن مواصلة الإرهاب على المستويين الفردي "أي عمليات القتل غيلة وغدراً" ، أو العمليات الإرهابية الكبيرة والعابرة للحدود والقارات، لمجرد إبداء النوايا الطيبة تجاهها والوعود التي تطلق لها بمزايا الاندماج مع الأسرة الدولية المتمدنة، فردع إيران بالقوة هو وحده الكفيل بأن يجعل العالم أكثر استقراراً وأمناً، أما الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية، فهو وهم كبير؛ لأن كثيراً من شركات البلدان التي ترسم مسار هذه العقوبات هي التي تتحايل عليه، وتخرقه حيثما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
العالم لن يعرف الاستقرار ما لم تذق إيران بعضاً من طعم الدم الذي استحّلته في كل الأرجاء، وهناك ملفات كثيرة يمكن مباشرتها قبل التلويح بها ضد دولة (الولي الفقيه)، وخاصة قضية إقليم الأحواز وإقليم بلوشستان وقضايا الأقليات القومية والمذهبية، وإلا فإن إيران لن تتوقف عن برنامجها الاستثماري باللعب بأمن الشعوب واستقراراها.
د. نزار السامرائي
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 718