وقفة مع "موازين" وكل إناء بما فيه ينضح
دأب المغاربة منذ أن سنت سنة " موازين " على الخوض في موضوعها اتقافا أواختلافا، واستحسانا أواستهجانا ، ولا زالوا مختلفين في ذلك . ووقفتنا مع موازين تبدأ من هذه التسمية، ذلك أن موازين في اللسان العربي جمع ميزان ، وهو الآلة المعروفة التي توزن بها الأشياء لمعرفة مقاديرها . ومعلوم أن هذه الآلة تتكون من عود يسمى الشاهين تتوسطه إبرة تسمى اللسان ، وله كفتان مشدودتان إلى الشاهين بخيوط أو سلاسل . وهذا هو الميزان المادي ، ويوجد في مقابله ميزان معنوي كالميزان المذكور في كتاب الله عز وجل في مثل قوله تعالى : (( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا )) وقد اختلف في تأويل هذه الموازين، فقيل هي موازين حقيقية كموازين الحياة الدنيا ،وقيل هي موازين معنوية استعيرت للعدل في الجزاء لمشابهته الميزان بدليل ورود كلمة قسط .
ولسنا ندري أية خلفية كانت وراء تسمية برنامج سهرات باسم موازين . والمرجح أن القصد لم يكن العدل والقسط ،بل ربما كان القصد أوزانا من نوع خاص كأوزان الشعر وكالأوزان الموسيقية . ومهما يكن من أمر فإن إطلاق اسم موازين على سهرات فنية يذهب بالأذهان إلى نوع من الروز والامتحان لمعرفة الثقة والخفة فيها أو فيمن يتلقاها ، لأن قولهم في العربية وزن الشيء ـ بفتح الواو وضم الزاي ـ يوزن وزانة إذا ثقل وكان وازنا أي تام الوزن غير منقوص . فهل يقصد أصحاب هذه السهرات أنها وازنة تامة لا يشوبها نقص في مضامينها ؟ ويقول أهل العربية أيضا وزن الرجل ـ بفتح الواو وضم الزاي ـ واتزن، فهو وازن ووزين إذا كان أصيل الرأي راجحه ورزينه وأصيله ، ويقال امرأة موزونة أي عاقلة . فهل يقصد أصحاب هذه السهرات أنهم هم ومن يقبل على سهراتهم أصحاب رزانة عقل ورجاحته وأصالته لأنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه غيرهم بهذه السهرات ؟
ومما يجول في الخاطر أيضا أن هؤلاء ربما راموا وزن المغاربة لمعرفة من تستهويهم سهراتهم ممن يستهجنونها لقياس درجة الوعي في هذا الوطن لأن السهرات الفنية كالتظاهرات الرياضية تدخل تحت مسمى الحق الذي يراد به الباطل، ذلك أنها في المجتمعات التي تعاني من التخلف والفقر تسد مسد المخدر التي يحاول صرف الناس عن واقعهم البائس . والمعروف في المجتمعات البشرية عبر التاريخ أن السهرات والحفلات تكون مصاحبة لحسن الحال والرخاء أما حين يسود سوء الحال ،فمن العبث أن ينشغل الناس بتلك السهرات والحفلات . والمثل الشعبي المغربي المشهور يقول : " واش يخصك يا عريان ؟ فيحيب العريان الخواتيم يا مولاي " ويضرب هذا المثل للمحتاج الذي يهتم بالكمالي دون الضروري والحاجي . والسؤال المطروح على الذين تفتقت عبقريتهم ـ وهم أصحاب رجاحة عقل ـ فأبدعوا موازين هل تصلح السهرات لشعب فيه نسبة أمية وازنة ، وبطالة وازنة ، وفقر وازن ، وتخلف وازن ؟ أليس حال ووضع هذا الشعب كحال ووضع العريان الراغب في الخاتم عوض الحرص على الكساء الذي يستر عورته ؟ ألا يحسن أن تحوّل تكلفة السهرات إلى التطبيب والأمراض الفتاكة تفتك بشرائح طويلة عريضة من هذا الشعب المسكين ؟ أو تحوّل لمحاربة الجهل والأمية الضاربة الأطناب ؟ أو تحوّل لمحاربة البطالة المستفحلة في أوساط حاملي الشهادات وأوساط فاقدي الشهادات على حد سواء ؟ أو تحوّل لتجديد البنيات التحتية المهترئة للمدن والقرى والطرق وهي في حالات مزرية ؟ قد يكون الخاتم في إصبع العريان جميلا، لكنه حين ينظر إلى عورته ينصرف الناظر إليه عن جمال خاتمه إلى قبح عورته .
يا عباقرة موازين إن الاسم الذي اخترتموه لسهراتكم عليكم وليس لكم، لأن الميزان عبارة عن دفع الغبن في التعاوض ، فبأي مثقال أو سنج وزنتم الشعب المغربي وتأكدتم من أنه لا غبن له في سهراتكم ؟ وأنها تحظى برضا جميع هذا الشعب المنهمكة غالبيته في طلب لقمة عيش يخالطها العرق والجهد والمعاناة . وهل تخفف سهراتكم من جوع الجياع ، ويؤس البؤساء والمحزونين ؟ فأين رجاحة عقولكم ورزانتها ؟ ألا ترون أن موازين الريف على سبيل المثال لا الحصر قدر رجحت كفتها على كفة موازينكم وأن موازين هذا الريف البائس في حاجة إلى أموال موازينكم ؟ ألا تعلمون أن موازين الجهة الشرقية قد شحت أمطارها هذا الموسم وأن أهلها خصوصا صغار الفلاحين في أمس الحاجة إلى أموال ستبذرونها من أجل عبث سهراتكم ؟ وهل من رجاحة العقل أن تبذر الأموال في العبث؟ ولقد كان من المفروض أن تزنوا الشريحة القليلة الراغبة في موازينكم بسواد الشعب الراغب عنها، و هوراجح بها، فتنصرفوا عن موازينكم مغفورا لكم ومشكورين . ولا شك أن الذين حسنوا وثقلت موازينكم في عيونهم هم في عيشة راضية ، وأن الذين خفت موازينكم في عيونهم وشغلوا عنها بآلامهم يعانون معيشة ضنكا .
وتبقى كلمة أخيرة لبعض وسائل الإعلام التي تنفخ في " موازين " وتمد لها مدا في الدعاية الرخيصة ،أمن الوزن القسط أن تعشو عيونك أيتها الوسائل عن معاناة سواد الشعب وتفتح واسعة على " موازين " ؟ أليس لك في أحوال هذا الشعب ما يشغلك عن عبث موازين ؟ أم أنك انسلخت من نزاهة ونظافة وظيفتك ونبلها ، واستسلمت للمساومة ، و فضلت الوقوف إلى جانب النخبة بعيدا عن سواد الجماهير؟ وصدق من قال : " كل إناء بما فيه ينضح ".
وسوم: العدد 720