السباق مع كوريا الشمالية
في العام الماضي، زار أحد السائحين العرب كوريا الشمالية، ثم عاد ليروي بعض تفاصيل رحلته.
والقصص عن كوريا الشمالية عادة ما تثير ابتسام القارئ، لما فيها من طرافة، فسكان كوريا الشمالية الذين يبلغ عددهم حوالي 25 مليون نسمة، منفصلون عن العالم تماما، ويعيشون في عزلة تامة، حيث لا إنترنت أو اتصال بالعالم الخارجي.
روى السائح العربي أنه كان مضطرا لتوقيع إقرار يفيد بأنه ليس صحفيا، وبأنه لن يمارس أي نشاط ديني، وظل تحت رقابة اثنين من موظفي الحكومة طوال فترة إقامته.
وهي تفاصيل تبدو أشبه برواية 1984 لجورج أورويل.
ويبدو أن البلد هناك يعاني من معدلات تخلف حضاري مذهلة، حيث نشر أحد المواقع صورة ملتقطة من الفضاء لكوريا الشمالية، وهي مظلمة تماما، ما يعطي فكرة لا بأس بها عن مدى تخلف الخدمات الإنسانية الطبيعية الذي وصلت له.
الأطرف من كل هذه التفاصيل، هو أن بوسعك دون أي مجهود تصور الأحلام الرومانسية التي تراود عسكري الانقلاب في مصر، حين يسمع عن كوريا الشمالية. فلا ريب أن لهذه الحكايات وقع كوقع الموسيقى على أذنيه.
في إحدى كلماته، قال إن عبد الناصر كان محظوظا، فقد كان الإعلام كله معه.
والإعلام الذي يقصده هنا، هو صوت العرب وقناة تليفزيونية واحدة.
إعلام يستطيع إقناع ملايين عدة (أعتقد أن سكان مصر وقت هزيمة 67 كان 30 مليونا) أن جيش عبد الناصر الذي سحقه العدو الصهيوني في ساعة من نهار ورقدت طائراته على الأرض محطمة، يشق طريقه إلى تل أبيب.
فقط راجع أرقام هزيمة أكتوبر 1973، حين وصل العدو إلى مسافة أقل من 100 كيلومتر من العاصمة، وأسر ما يزيد عن ثمانية آلاف، ثم استمع إلى أي شخص عادي وهو يحدثك عن الانتصار المذهل.
أو عد بالزمن إلى وقت هزيمة 67، حين كان اُتْخِم جيش العدو بأسرى جيش عبد الناصر، فصار يبدل ضباطه مقابل بطيخة وشمامة، كما روى لواء المخابرات الحربية السابق فؤاد حسين في كتابه "الخيانة الهادئة".
ثم استمع لتفاصيل الأيام الأولى من فم من عاصروا الهزيمة، لتدرك أن المسافة بين مصر تحت حكم العسكر وبين كوريا الشمالية تحت حكم كيم جونغ إيل ليست كبيرة إلى هذا الحد.
ولو قُدِّرَ لكيم جونج إيل رئيس كوريا الشمالية السابق أن يسمع بأحمد سعيد صاحب الطلعة الإذاعية الأولى في هزيمة 67، لربما قرر تحضير روحه أو استدعاءه لكوريا الشمالية (لو كان حيا)، ومنحه الجنسية الكورية الشمالية، وتعيينه مسؤولا عن الإعلام هناك.
لا ريب أن قدرة محمد الغيطي على إقناع بعض جمهور الانقلاب بنكتة أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي، وإبداعات أحمد موسى الإعلامية الذي عرض مقطعا من لعبة فيديو على أنه فيديو لقصف روسي، ستصيب كيم جونج إيل بالذهول.
المسافة بين كوريا الشمالية وأختها (في الكار) مصر المنكوبة بالعسكر، ليست بعيدة إلى الحد الذي قد يتصوره البعض. مصر تعيش مرحلة كوريا الشمالية منذ انقلاب 1952.
ولم يأت قرار الانقلاب بحجب عدد من المواقع الإلكترونية، منها الجزيرة وعربي21، إلا لمحاولة ترميم الفقاعة العازلة التي تشققت جدرانها كثيرا، وكأنهم يحافظون على مكانتهم في السباق مع شقيقتهم كوريا الشمالية.
وهي مكانة تضررت كثيرا بعد ظهور الإعلام البديل ومواقع التواصل الاجتماعي، وبعد أن صارت أكاذيب العسكر مهددة بالانقراض، في عصر يمكنك فيه بضغطة زر معرفة كل ما ترغب.
فعسكري الانقلاب يريد أن يسمع الناس أكاذيبه فقط، وقد قالها صراحة في إحدى كلماته بلغته المتعثرة (اسمعوا كلامي أنا بس، ما تسمعوش من غيري).
وظني أن فضيحة التدخل العسكري في دارفور، وأسر السودان لأكثر من 164 مدرعة تابعة لجيش العسكر، كان لها أثر في تعجيل قرار الانقلاب بحجب المواقع الإلكترونية.
فلا العسكر ولا مؤسساتهم مؤهلون للحياة في هذا العصر، ولابد أنهم يشعرون بالغربة مع كل تلك التفاصيل والحركة الدائبة، والمواقع الإخبارية النشطة، التي تنشر الأخبار على مدار الساعة.
لا ريب أنهم يتحسرون على زمن الخمسينيات الجميل، وعهد أحمد سعيد، وإذاعة صوت العرب، ولا ريب أنهم يشعرون بالخطر على أكاذيبهم التي يقيمون عليها نظامهم المتداعي.
فالعسكر ينتمون فكريا لمدرسة فرعون، إذ قال لقومه: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
وسوم: العدد 722