حكايات طبيب في ألمانيا
حكايات طبيب في ألمانيا
(هذه حكاياتٌ كتبتُها في أثناء إقامتي في ألمانيا لعلاج ولدي (أحمد) رحمه الله وآنسه).
(1)
عاداتُ أهل البلد قاهرة لهم:
ذكرتُ لأخ عربيٍ طبيبٍ (هو الدكتور فوزي زكي توفيق- طبيب عراقي معالج في المستشفيات اﻷلمانية) ذكرتُ له دخولَ ممرضٍ على غرفة (أحمد) وأمِّه بلا استئذان، مع أنَّ الطبيبَ المختصَّ وضعَ لوحةً على الباب تطلبُ ممَّن يريد الدخول طرقَهُ والاستئذانَ، فقال لي:
هكذا عاداتُهم، وأنا في عملي أعاني من ذلك، وأحكي لك بعضَ اﻷخبار:
• تأتي مريضةٌ بحاجة إلى علاجٍ ويُطْلبُ منها كشفُ يدِها أو جزءٍ من ظهرها، فتضع عنها ملابسَها كلَّها!
• وقد نذهبُ إلى البيوت، ﻷخذ عينات من الدم، ونُفاجَأ ببعص النسوة وقد تعرَّتْ تمامًا في فراشها، واﻷمرُ ﻻ يتطلبُ ذلك!
• وبعضُ الناس يُعْطى ثوبًا حين سحبِ دمٍ منهم، له فتحةٌ وخيطٌ يُربط من الخلف، فيجعل الفتحة من اﻷمام، قصدًا أو خطأ، فاﻷمر ليس مشكلة لديهم، ﻻ سيما النساء.
• ومِنْ عملنا زيارةُ مرضى بمرضٍ مُزمنٍ في بيوتهم، ضمن برنامجٍ وضعته وزارةُ الصحة، ولديَّ ثمانية عشر مريضًا أزورُهم، ومِنْ ضمنهم امرأةٌ مدمنةٌ على الكحول وتشربُ كلَّ يوم زجاجتين!
ومرة وأنا ذاهب إليها قيل لي: هل تحمل إليها هذه الحاجة؟ وإذا هي زجاجتا نبيذٍ طلبت المريضة أنْ يُؤتى بهما إليها. فاعتذرتُ، وكنا في رمضان أيضًا، ووصل اﻷمرُ إلى المدير، فشرحتُ له حرمة هذا عندنا، فتفهم اﻷمر، ووجّه أن ﻻ أكلف بهذا بعد.
وبعد مدةٍ طُلِبَ مني إيصالُ شيءٍ مغلَّفٍ على أنه دواء. وتبيَّن أنه نبيذٌ أيضًا، فرفضتُ.
وجاءتْ مديرةُ نقابة الموظَّفين تسألني عن الموضوع، وقالتْ: لي صديقةٌ تركيةٌ مسلمةٌ تقول: لا يوجد نصٌّ في القرآن يحرِّمُ النبيذ.
فطلبتُ منها عنوانَها البريدي، وخرجتُ، وبحثتُ، فوجدتُ محاضرة باﻷلمانية تفصِّلُ الحكم، فأرسلتُها إليها، فجاءت في اليوم الثاني واعتذرتْ، وقالت: لن تُكلفَ بهذا بعد الآن.
وحكى لي الدكتور فوزي قال:
• وممّا حصلَ قبل أيامٍ أني دخلتُ إلى مكان العمل فرأيتُ ممرضةً تبكي بحرقة، فسألتُها عمّا بها فقالتْ: الكلب مريض، وﻻ يأكلُ، وعلاجُه يكلِّف أربعة آلاف يورو، وليستْ هذه المشكلة، ولكنَّ اﻷطباء يقولون: نسبة نجاح العملية 10%.
وأنتَ مسلمٌ فأرجوك أنْ تدعو له!
وأخبرتني بعدُ أنَّ اﻷطباء قالوا لها بأنَّ كلفة حقنه بمغذٍّ عن طريق الوريد تكلف (2000) يورو، وحقنه بإبرة الرحمة ليموت تكلف (1000) يورو.
أقول:
هكذا هي عاداتهم وهذه ثقافة بلادهم.
والقصدُ التعريف[1].
(2)
وقال د. فوزي زكي توفيق أيضًا:
كنتُ عند مريضةٍ وهي في اﻷنفاس اﻷخيرة، وعندها ابنتُها وهي تبكي بحرارة، ولم أكن رأيتُ أحدًا من اﻷلمان يبكي بهذه الحرارة على مَنْ يفارقهم، فدفعني الموقفُ إلى مواساتها بأنَّ أمَّها مريضة، وحالتها ميؤوس منها...وقلتُ لها: إنه الموت، ويجب أنْ ترضى بهذا القدر...
فقالت: ﻻ يا دكتور، أنا أبكي ﻷني في نفس اليومِ والوقتِ قبل مدةٍ ماتتْ قطة لي، كانتْ معي عشر سنوات، فتذكرتُ موتَها - وأنا أشاهدُ موت أمي - فبكيتُ لذكراها!
وقال أيضًا:
حكى لنا مديرُنا نفسُه اليومَ في اجتماع عملٍ أنَّ طبيبةً لديه اتصلتْ به وهي تبكي، واعتذرتْ عن عدم دوامها يومَ غدٍ لموتِ أحدِ أفرادِ عائلتها.
فقال لها: ﻻ بأسَ، وهل ستداومين بعدَ غدٍ؟
فقالت: لا، أنا متعبة نفسيًا جدًّا، وأحتاجُ أن أبقى في البيت أسبوعًا كاملًا...
فقال لها المدير: عليكِ أنْ تذهبي إلى طبيب العائلة وتأخذي إجازة مرضية.
ثم دفعه الفضولُ إلى سؤالها: ولكنْ مَن المتوفى: اﻷب أم اﻷم أم اﻷخ أم اﻷخت؟
فقالت: ﻻ، كل هؤلاء ميتون، وإنما المُتوفّى قطتي... وهي من العائلة أيضًا...
وضحك المديرُ الراوي، وضحك الحاضرون...[2]
(3)
وقال د. فوزي أيضًا:
كُلفتُ يومًا أنْ أتصلَ بذوي امرأةٍ تُوفِّيت في المستشفى، فرجعتُ إلى ملفها، وعلمتُ أنَّ لها ابنة، وقد ذُكِرَ رقما هاتفيها: اﻷرضي والجوّال.
اتصلتُ بها على البيت في السابعة صباحًا، فردَّتْ ذاكرةً اسم العائلة -كما هي العادة هنا- ثم قدَّمتُ أنا نفسي، وقلت لها: آسفُ ﻹزعاجكم، ولكن ﻻ بُدَّ لي مِنْ ذلك، فالوالدة قد تُوفيت.
فقالت: آسفة، ﻻ أستطيعُ الحضور، وأرجو الاتصالَ بشركة الدفن، وعنوانُها في الملف. وشكرًا.
وانتهت المكالمة.
كانت هذه أول تجربةٍ لي من هذا النوع، فأحسستُ بانهيار، وجلستُ على كرسي قريبٍ مذهوﻻً، فمرَّتْ ممرضةٌ ورأتني هكذا فسألتني عمّا بي، فذكرتُ لها ما حصل.
فقالت: ﻻ تستغربْ، هكذا تجري اﻷمورُ هنا.
وهذه زميلتنا الممرضةُ (ر)، لها أمٌّ لم ترَها منذ عشرين سنة، وهي اﻵن في دار العجزة وﻻ تزورها... مع أنَّ لها كلبة صغيرة ﻻ تدعها في البيت وحدها، فإذا خرجتْ إلى العمل تضعُها عند الجيران -بمقابلٍ ماديٍّ متفقٍ عليه- حتى تعود، فتأخذها وتخرجُ بها في نزهة قصيرة، ثم ترجعُ إلى البيت لتستريح من عناء العمل...[3]
(4)
وقال د. فوزي زكي توفيق أيضًا:
كنتُ عند مريضةٍ مُقعدةٍ فقالتْ لي: افحصني جيدًا فإني أريدُ الخروجَ اليوم.
قلتُ: هل المسافة بعيدة؟
قالتْ: لا، سأذهبُ إلى بيت ابني وهو على بُعْد 2 كم، وقد اتصلتُ اليوم به، وأخذتُ منه موعدًا ﻷشاركه الاحتفالَ بعيد ميلاده.
قلتُ: لماذا لا يأتي هو إليك وتحتفلان هنا؟
قالتْ: قد مرَّ هو بظرفٍ نفسي جعله يتعاطى الكحول، ويعيش وحده، وأنا مِنْ عشر سنوات لم أره، وأتصلُ به كلَّ سنة ﻷسأله عن وضعهِ، وهو اﻵن جيد، وأريدُ أن أذهبَ إليه...[4].
وسوم: العدد 723