الاستقامة والانحراف يتوقفان على الوازع الديني حضورا وغيابا
من المعلوم أن الله عز وجل أنزل الرسالات، وأرسل المرسلين إلى الخلق ليبلغ لهم الدين الذي هو عنده الإسلام ولا شيء غير الإسلام مصداقا لقوله تعالى : (( إن الدين عند الله الإسلام )) . وعند ما تأمل جوهر هذا الدين نجده في حقيقته وكنهه دين وازع . والوازع في اللسان العربي هو المانع والزاجر والرادع والكاف والحابس والناهي . وهذه المعاني توحى بوجود ما يقتضي في حياة الناس المنع والزجر والردع والكف والحبس والنهي بالضرورة . ومعلوم أن الإنسان إنما يخوض غمار الحياة بأسلوبين أو طريقتين على طرفي نقيض وهما إما الاستقامة أو الانحراف . ولو كان الإنسان في هذه الحياة قادرا على الاستقامة من تلقاء نفسه لما كانت حاجة إلى إرسال الرسل والرسالات . ولو لم ترسل الرسل وحصل للإنسان انحراف في الحياة لبحث عن عذر يبرر به ذلك ، وهو غياب الوازع الذي يكفه عن الانحراف . وحتى لا تكون للناس على الله عز وجل حجة ،أرسل الرسل صلواته وسلامه عليهم أجمعين من أجل هذا الوازع . ولا عذر للناس مع وجود هذا الوازع الذي لولاه لم يكن معنى لاختبارهم في هذه الحياة ومحاسبتهم ومجازاتهم بعد رحيلهم عنها . وكيف يحاسب من لم يحبس أو ينهى أو يكف أو يزجر أو يردع ؟ ومعلوم أن الوازع الديني، وهو وازع داخلي بالنسبة للإنسان ينشأ من خلال احتكاكه بالدين فهما واستيعابا وتنزيلا . ومن أجل فهم طبيعة هذا الوازع نعود إلى الوضع الذي كان عليه العرب في جاهليتهم ، وهو وضع الانحراف عن الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها ، وذلك في كل أحوالهم ومعاملاتهم ومواقفهم وسلوكاتهم . وتعكس كلمة جاهلية بدقة هذا الانحراف ، ذلك أنها كلمة مشتقة من الجهل، وهو يعني الاعتقاد بما هو مخالف للحقيقة ،الشيء الذي يترتب عنه التصرف المنحرف . ومعلوم أن كل تصرف يكون بالضرورة مسبوقا باعتقاد . وعلى قدر صواب الاعتقاد يكون صواب التصرف .وحينما نقول كانت العرب تعيش في جاهلية نعني أنها كانت تعتقد الاعتقاد المنحرف ، وتتصرف على ضوئه التصرف المنحرف . ومن اعتقادها المنحرف نسبة الألوهية والربويبية لغير الله تعالى . وقد ترتب عن هذا الاعتقاد المنحرف خوض منحرف لغمار الحياة حيث غابت عنهم الغاية من وجودهم وخلقهم وهي خضوعهم للاختبار في الحياة الدنيا ليحاسبوا ويجازوا بعد الرحيل عنها . ومعلوم أن حضور أو غياب فكرة المحاسبة والجزاء هي التي تتحكم في طريقة وكيفية خوض الناس غمار الحياة الدنيا ، ولهذا كان الدين وازعا بسبب حضور فكرة المحاسبة والجزاء فيه . وبسبب غياب هذه الفكرة كان العرب في جاهليتهم يرخون الأعنة لأهوائهم في كل أحوالهم فيصنفون أنفسهم إلى سادة أشراف فوق طائلة المحاسبة ، و رقاب أو عبيد أنجاس تحت طائلتها ، ويجعلون أنكحتهم أنواعا منحرفة منها المقت والشغار والسفاح أو البغاء والاستبضاع ... وكلها أنكحة منحرفة فاسدة ، ويجعلون الربا أساس معاملاتهم التجارية ، وهو معاملة منحرفة ، ويجعلون الحروب والاقتتال والعدوان وهي انحرافات شغلهم الشاغل ، ويجعلون الحرام أكلهم وشربهم وهو انحراف استهلاكي ... إلى غير ذلك مما تشمله انحرافات الحياة الجاهلية . ولقد كان دين الإسلام هو الوازع الذي زجر العرب ونهاهم وكفهم وحبسهم ونهرهم عن هذه الحياة المنحرفة عن الفطرة . ولقد كانت طريقة غرس الوازع في النفوس هي أولا هدم الانحراف العقدي وتصحيحه ،وذلك باستبداله بالاستقامة العقدية ، وقد قضت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي دعوة الإسلام ما يزيد عن نصف عمر البعثة في عملية تصحيح الاعتقاد بمكة المكرمة قبل أن تقضي النصف الآخر في تعديل السلوكات والمعاملات والعلاقات والمواقف في يثرب على ضوء عملية تصحيح الاعتقاد . وهكذا انتقلت العرب من حياة الجاهلية إلى حياة الإسلام ، وكانت النقلة عبر الوازع الديني الذي نشأ بداخل كل فرد تم تصحيح اعتقاده ، وصار وازعا داخليا يقوم بدور الردع والمنع والنهي والكف والحبس ، وارتبط هذا الوازع بالرقيب الأعلى جل جلاله الذي يراقبه كل ذي وازع ديني، وقد ترسخ في ذهنه الاعتقاد الراسخ بأنه مراقب ومحاسب وينتظره جزاء . ولقد كان الوازع الديني هو السر وراء تحول العرب من حياة الجاهلية التي كانت نتيجة اعتقاد منحرف إلى حياة إسلام وفق ما أراده الخالق جل في علاه .
وعلى غرار تجربة العرب مع الوازع الديني غيابا وحضورا تقاس حياة البشر في كل عصر ومصر ، ولا يشذ عن هذه التجربة أحد من الناس . ويخوض الناس في عصرنا في موضوع الاستقامة والانحراف في الحياة كل خوض ،ولكن في غياب الحديث عن دور الوازع الديني في غالب الأحيان . وفي سيادة المعتقدات المنحرفة عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وتعطيل الدين الذي هو عند الله الإسلام، استفحل أمر الانحراف في كل مجالات الحياة . وانتقلت عدوى هذا الانحراف من أصحاب الاعتقاد المنحرف إلى الذين من المفروض أن يكون اعتقادهم سويا مستقيما . ويمكن القول أن هذا العصر هو عصر خلط بين المعتقدات المنحرف منها والمستقيم، الشيء الذي ترتب عنه خلط في السلوكات والمعاملات والعلاقات والمواقف . وقد ينتقل بعض الناس من الاعتقاد المنحرف إلى الاعتقاد المستقيم ولكن بآثار باقية من الاعتقاد المنحرف تجعل سلوكاتهم تعكس تناقضا صارخا بين ما صاروا عليه من اعتقاد مستقيم وما ظلوا عليه من اعتقاد منحرف سلوكا . وتعيش الأمة المسلمة اليوم اضطرابا كبيرا فيما بخص التوفيق بين مستقيم الاعتقاد ومنحرف السلوك ، ومرد ذلك إلى تأثيرات المعتقدات المنحرفة فيها . ومعلوم أن المعتقدات المنحرفة تخوض حربا صريحة مع معتقد الإسلام الذي صار مستهدفا بشتى الطرق والأساليب ، وفي كل مجالات الحياة . ويبدو وكأن الأمر هو عودة إلى ما كانت عليه البشرية من انحراف عقدي قبل نزول الرسالة الخاتمة ،والشاهد على ذلك الحال التي هي عليها الأمة الإسلامية اليوم . ولقد انخرطت الأمة الإسلامية اليوم في كل مجالات الحياة بكل انحرافاتها وعلى طريقة أصحاب الانحراف العقدي الذين يتصرفون في غياب فكرة المحاسبة والجزاء الأخرويين ، ذلك أن أصحاب هذا الانحراف صنفان : صنف كأنه قد اتخذ عند الله عهدا بأنه لن يحاسب وهؤلاء هم أصحاب الرسالات السابقة التي أكدت الرسالة الخاتمة أنها منحرفة ، وعن هذا الانحراف نتجت فكرة إلغاء المحاسبة والجزاء ، وفي اعتقاد هؤلاء أنه يكفي أن يكون الإنسان يهوديا أو نصرانيا لينجو من المحاسبة والجزاء ، أما الصنف الآخر فيقصي الدين من حسابه ،ومن ثم يقصي فكرة المحاسبة والجزاء كما هو شأن العلمانيين . ويلتقي الصنفان معا عند إلغاء المحاسبة والجزاء، وذلك تعطيل للوازع الديني . وقد يجمع البعض بين موقف الصنفين معا وهو جمع بين ادعاء الاعتقاد بالرسالات السابقة وبين الممارسة العلمانية للحياة وعلى هذا غالبية أمم الغرب على سبيل المثال . ولقد نشأ في الأمة الإسلامية أيضا هذان الصنفان حيث يوجد صنف يعتقد بموجب الوازع الديني بفكرة المحاسبة والجزاء ، كما يوجد صنف يتبنى العلمانية بالرغم من وجوده في دائرة الانتماء الإسلامي متنكرا لفكرة المحاسبة والجزاء وفكرة الوازع الديني . وقد يقول قائل إن هؤلاء لهم وازعهم أيضا، وهو غير الوازع الديني ، كما أنهم مقتنعون بفكرة المحاسبة والجزاء ولكنها محاسبة وجزاء دنيويين لأن اعتقاد هؤلاء هو خوض غمار الحياة لذاتها وليس من أجل حياة أخرى . وعلى غرار الخلط الذي يقع لأصحاب الرسالات السابقة بين اعتقاد ديني تنسفه ممارسة علمانية للحياة ، يقع بعض أصحاب الرسالة الخاتمة في نفس الخلط ،فيعيشون باعتقاد ديني نظريا وبسلوك علماني عمليا . ولهذا يحار الحليم في هذا الزمان حين يرى مظاهر التدين عند أمة الرسالة الخاتمة من خلال ممارسة العبادات ، وفي نفس الوقت يرى ممارسة الحياة وخوض غمارها بطرق خارجة عن إطار ما تحدده هذه الرسالة الخاتمة من سلوكات ومعاملات وعلاقات ومواقف ، وهذا يعني وجود انفصام لدى الشخصية المسلمة في هذا العصر . وأخيرا نشير إلى أن غياب الوازع الديني هو السر وراء ظهور سلوكات وتصرفات غريبة عن تعاليم الرسالة الخاتمة كما هو الشأن بالنسبة لدعوات الردة التي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة ، والشذوذ الجنسي المعروف بالمثلية ، والانحراف الأخلاقي المعروف بالرضائية ، والتجاسر على العبادة من قبيل الإفطار العمد والعلني في رمضان، فضلا عن استمرار ظاهرة تعاطي المسكرات والمخدرات ، وممارسة اللصوصية والسطو على ممتلكات الغير ، والارتشاء ، والمعاملات الربوية ، والقمار ، والغش والتدليس ، والاحتكار ،والمضاربة ، والتزوير ... إلى غير ذلك من السلوكات والتصرفات المنحرفة التي تطبع حياة المسلمين اليوم كل ذلك بسبب غياب الوازع الديني ، وهو وازع لا بد من حضوره إذا كانت الأمة تريد الخروج من وضعها الهجين بين اعتناق الإسلام نظريا وممارسة غيره عمليا وإجرائيا.
وسوم: العدد 723