(القِرَدةَ) و (الخَنَازِير) في القرآن الكريم
وردَ لفظا «القردة» ، و«الخنازير» في «القرآن الكريم» في مواضع عدَّة، مع اختلافٍ في «الصِّيغة»، مع التَّنبيه على أنَّ لفظ «القردة» لم يرد بصيغة «المفرد» في أي موضع، وإنَّما ورد بصيغة «الجمع» في ثلاثة المواضع التي نصَّ عليها القرآن الكريم، بخلاف لفظة «الخنازير» حيث وردت بصيغة «الجمع» مرَّة، وبصيغة المفرد أربع مرَّات، مع التَّنبيه أيضًا أنَّ هذه المرَّات الأربعة جاءت مضافة إلى لفظة «اللَّحم»، وفي مورد «التّحريم».
وإذا ما حاولنا البحث والتَّمحيص في كتبِ «التَّفسير» لمعرفة المعنى الذي تحمله هاتان اللّفظتان، فإنّنا نجدُها قد رجّحتْ لنا معنى واحدًا أصبح من «المسلَّمات»؛ بل من «المعتقدات» الثَّابتة في معنَيْهما، ولا يجوز الخروج عليه بحال.
فقد رجَّح المفسِّرون كـ«الطَّبري»، و«ابن عطيَّة»، و«الزَّمخشريّ»، و«البغويّ»، و«أبي حيَّان»، و«ابن كثير» وغيرهم أنَّ المراد من ذلك «مسخهم» إلى «قردة»، و«خنازير»، وهي الحيوانات التي نراها ونعرفُها؛ بل إنَّ بعضهم فصَّل وميَّز بين «أَصليهما»، فقال قتادة: «صار الشُّبَّان قردة، والشُّيوخ خنازير، فمكثوا ثلاثة أيَّام ثمَّ هُلكوا ولم يمكث مسخٌ فوق ثلاثة أيَّام، ولم يتوالدوا»([1])، وزادَ عليها «شيبان النَّحوي»: «فصار القوم قردة تَعَاوى، لها أذنابٌ بعد ما كانوا رجالاً ونساءً»، وفيه من العجب ما فيه!!
وذهبَ بعضهم إلى أكثر من ذلك فقال: «القردة أصحاب السَّبت، والخنازير كفَّار مائدة عيسى عليه السّلام»([2])، ونسبوا إلى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «أنَّ الممسوخين كلاهما من أصحاب السَّبت»([3]). واستطردَ آخرون ليرى التَّمييز واقعًا على «الزَّمان» فقال مجاهد: «بل مسخوا في زمنِ داود قردة، وفي زمن عيسى خنازير»([4]).
وذهب «ابن عطيَّة» إلى أنَّ صيرورتهم «قردة» و«خنازير» هو بسبب لعنتهم فقال: «وكانت لعنتهم أن مُسخوا خنازير وقردة، قاله قتادة، والحسن، والسُّدِّي»([5]).
وقال أبو حيَّان: «وظاهر القرآن مسخُهم قردة»([6])، ثمَّ أكَّد أنَّه قول الجمهور فقال: «والقول الأوَّل هو قول الجمهور»([7])؛ لكنَّه في الوقت نفسه أشار إلى عدمه كما يظهر من قوله معقِّبًا على قول الجمهور: «ويجوزُ أن يبْقي لهم فَهْمَ الإنسانيَّة بعد صيرورتهم قِردة»([8]).
وأظنُّ ظنًّا يزاحمُ اليقين أنَّ هذه الأقوال مبنيَّة على «القصص» التي رواها السَّابقون، ومدارُها على «القيل» و«القال»؛ لذلك اخْتُلفَ فيها كثيرًا، واضُطرب في تحديد معناها، ممَّا يدفُعنا إلى إعادة البحث ودراستها، استنادًا إلى الأصل «اللُّغويّ» الذي تشير إليه هذه «المفردات»، وإلى «السِّياق» الذي وردتْ فيه في «القرآن الكريم».
أولا: «القِرَدَة»: ذكر «ابن فارس» في «مقاييس» أنَّ «القاف والرَّاء والدَّال أصل صحيح، يدلُّ على تجمُّع في شيء مع تقطُّع. من ذلك: السَّحاب القَرِد: المتقطِّع في أقطار السَّماء يركب بعضُه بعضًا»([9]). وأضاف «ابن دريد» في «جمهرتِه» معاني محمولة على الأصل فقال: «والصُّوف المتلبِّد المتداخل بعضه في بعض، من ذلك أُخذ. ويقال: أقْرَدَ الرَّجل: إذا لصق بالأرض من فزع أو ذل»([10]). ومنه «القرد» المعروف من دون شكّ.
وإذا ما أردنا تتبُّعَ ورودها في «القرآن الكريم» فإنَّنا نجدُها قد جاءت في ثلاثة مواضع، اثنان منها خلت من لفظ «خنازير»، فقال تعالى في الموضعين: ﴿ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾، مع اختلاف السَّبب السَّابق لكليهما، ففي سورة «البقرة» ذكر أنَّ السَّبب هو «الاعتداء» في يوم «السَّبت» فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين﴾، وفي سورة «الأعراف» ذكر أن السَّبب هو استكبارهم عمَّا نهوا عنه فقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾. مع التَّنبيه على لفظ «كونوا» في هذين الموضعين، بينما في الموضع الثَّالث الذي جاء مقرونًا بـ«الخنازير» فقد وردَ بلفظ «جَعَل» الدَّال على «الصَّيرورة» و«التَّغيير»، فقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ ﴾.
واعتمادًا على «الأصل» اللُّغوي لكلمتي «قرد»، و«كان» في الموضعين الأولَيْنِ نكاد نجزم أنَّ المراد معنَى مختلفًا عمَّا رجَّحه «المفسِّرون»، وأنَّ المراد منه «الذلُّ»، و«الخنوع»، دلَّ عليه أمران:
الأوَّل: ما ذكرَه «أهل اللُّغة» من أنَّ «كون» لفظٌ دالٌّ على «الحدث» يكون بين النَّاس، وأنَّ «أقَرَد» الرَّجل: إذا لصقَ بالأرض من فزعٍ وذلّ.
الثَّاني: ما نصَّ عليه «القرآن الكريم» نفسه من معنى «الذُّل» و«الخنوع»، وخير ما يفسَّر به القرآن «القرآن» فقال تعالى عنهم في سورة «البقرة»: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾، وفي سورة «آل عمران»: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ﴾، وقد بيَّن سبب ذلك في الموضعين فقال تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾، ثمَّ أكَّد ذلك «الذُّلّ» بما يفيد من وصْفٍ فقال تعالى في الموضعين: ﴿خًاسِئِين﴾. أي: مبعدين مطرودين.
أمَّا الموضع الثَّالث فقد جاء مقرونًا بلفظ «الخنازير» ليدلَّ على معنًى آخر غير المعنى المراد في الموضعين السَّابقين، من «ذلٍّ» و«خنوع»، فقال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾، والذي يدفعُنا إلى القول بذلك أمور في هذه الآية:
أولها: أنَّها جاءت بلفظ «جعل»، وهي تدُّل على «التَّغيير» و«الصَّيرورة» بخلاف ما ورد في الموضعين السَّابقين بلفظ «كونوا».
ثانيها: أنَّها جاءت مقرونة بـ«الخنازير»، بخلاف الموضعين السَّابقين اللذين عقَّب عليهما بالوصف، بقوله: ﴿خاسئين﴾.
ثالثها: أنَّها جاءت مقرونة ﴿عبد الطَّاغوت﴾، مما يؤكِّد أنَّ ثمَّة معنى جديدًا في هذه الآية.
وبالنَّظر إلى الآيات السّابقة من سورتي «البقرة»، و«آل عمران» نجدُ أنَّ معنى «الذِّلَّة» واضحٌ جلي من خلال السِّياق الذي وردت فيه «القردة» في الموضعين الأوَلين، إلا أنَّ معنى «المسكنة» ظلَّ غامضًا، لا يُعرف معناه، فجاءت هذه الآية لتدلَّ عليه، وتُبيَّنَ التَّغيير الذي طرأ عليهم، وهو على ثلاثة أنواع:
الأوَّل: جعل شعورهم متلبِّدة، معقودة الأطراف، دلَّ عليه لفظ ﴿القردة﴾.
الثَّاني: جعل عيونهم حولاء، دلَّ عليه لفظ ﴿خنازير﴾، ممَّا يؤكِّد نوع التَّغيير الحاصل هنا.
الثَّالث: جعلهُم عبيدًا لكلّ «جبَّار» دلَّ عليه قوله: ﴿عبد الطَّاغوت﴾، و«العبد» لفظ يُطلق على الإنسان «حرًّا» كان أم «عبدًا» ما لم يُقيَّد، ولم يشتقُّوا منه «فعلاً»، وهنا جاء التَّقييد بلفظ ﴿الطَّاغوت﴾، فأصبحوا عبيدًا لكلِّ جبَّار قويّ، ومحال أن يكون المراد من «عبوديَّتهم» العبودية المعروفة، إذ لا يُعقل أنَّ الله يأمرُ بأن «يُعبدَ» أحدٌ من دونِه جلَّ وعلا فبان أنَّ المراد ما ذكرتُه.
ولفظ «المسكنة» دلَّ على ما يشير إليه أصله من «سكون ولزوم»، فقال «ابن فارس»: «السِّين والكاف والنُّون أصل واحدٌ مطَّرد، يدلُّ على خلاف الاضطراب والحركة. يقال: سكنَ الشَّيء يسكون سكونًا فهو ساكن» ([11]). وقال «ابن دريد»: «والمسكين: الذي لا شيء له، والنَّاس يجعلون المسكين في غير موضعه، فيجعلونه الفقير»، ولا شكَّ أنَّ في هذا دلالة واضحة على أنَّ «المسكين» شيء، و«الفقير» شيء آخر. لذلك قال «أبو عبيدة»: «الفقير الذي له شيء، وإن كان قليلاً، والمسكين الذي لا شيء له» ([12])، وإليه ذهب بعض «المفسِّرين» ونصُّوا على أنَّ «المسكين»: «أشدُّ فقرًا عند أكثر أهل اللُّغة، وهو قولي أبي حنيفة رضي الله عنه»([13])، ممَّا يجعل قول «الشَّافعيّ»: «الفقير أسوأ حالاً» من «المسكين» مخالف لما عليه أكثر «أهل اللُّغة».
ثانيًا: «الخنازير»: أشرنا إلى أنَّ لفظ «الخنازير» لم يرد بصيغة «الجمع» إلا في موضع واحد من «القرآن الكريم»، وهو الذي وضَّحنا معناه من قبلُ، وهو «الحَوَل»، وأصله «الخين والزّاي والرَّاء»، وهو أصلان كما نصَّ «ابن فارس» فقال: «أحدهما: جنس من الطَّبيخ، والآخر: ضيقٌ في الشَّيء»([14]). ومنه «الخزرة» وهي: «انقلاب الحَدَقة نحو اللِّحاظ، وهو أقبح الحول، والخنزير مأخوذ من الخزر؛ لأنَّ ذلك لازمٌ له»([15]). ومنه قول الشَّاعر:
لا تفخرُنَّ فإنَّ الله أنزلَكُم بأخزر ثعْلبَ دارَ الذلِّ والعارِ
«يعني: يا خنازيرُ، وكلُّ خنزير: أخزر»([16]).
بينما وردَ في مواضع أربعة بصيغة «المفرد»، ولا شكَّ أنَّه في هذه المواضع الأربعة يُراد به «الحيوان» المعروف، لإضافته إلى لفظ «اللَّحم»، الواردِ موردِ «التَّحريم»، ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ﴾.
ولا نزعمُ أنَّنا نبتدعُ هذا المعنى من تلقاء أنفسنا، وإن كنَّا ننسبُ التَّفصيل إلينا، فإنَّ بعض «المفسَّرين» قد ذهب إلى عدم القول بـ«المسخ»، وهو «مجاهد» فقال: «مُسخت قلوبهم حتَّى صارت كقلوب القِرَدة، لا تقبلُ وعْظًا، ولا تعي زَجْرًا»([17])، ولا يخفى على أحدٍ أنّ المراد بـ«القلوب» هنا «العقول»؛ لأنَّها محلُّ قبول «الوعظ»، واستيعاب «الزَّجر» إن وُجد فلْيُتنبَّه عليه.
وقد أوردَ «الرَّازيُّ» كلام «مجاهد» بشيء من التَّفصيل، فقال: «الْمَرْوِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَسَخَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْنَى الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ؛ لَا أَنَّهُ مَسَخَ صُوَرَهُمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً﴾، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْأُسْتَاذُ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تَعْلِيمُهُ: كُنْ حِمَارًا.
وَاحْتُجَّ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ هَذَا الْهَيْكَلُ الْمُشَاهَدُ، وَالْبِنْيَةُ الْمَحْسُوسَةُ، فَإِذَا أَبْطَلَهَا وَخَلَقَ فِي تِلْكَ الْأَجْسَامِ تَرْكِيبَ الْقِرْدِ وَشَكْلَهُ، كَانَ ذَلِكَ إِعْدَامًا لِلْإِنْسَانِ، وَإِيجَادًا لِلْقِرْدِ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْمَسْخِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَعْدَمَ الْأَعْرَاضَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَجْسَامُ إِنْسَانًا، وَخَلَقَ فِيهَا الْأَعْرَاضَ الَّتِي بِاعْتِبَارِهَا كَانَتْ قِرْدًا، فَهَذَا يَكُونُ إِعْدَامًا وَإِيجَادًا لَا أَنَّهُ يَكُونُ مَسْخًا.
والثَّانِي: إِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَمَا أَمِنَّا فِي كُلِّ مَا نَرَاهُ قِرْدًا وَكَلْبًا أَنَّهُ كَانَ إِنْسَانًا عَاقِلًا، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الشَّكِّ فِي الْمُشَاهَدَاتِ»([18])، ثم بنى كلامًا على وراح يفنِّد قول «مجاهد».
وذكر «أبو حيَّان» أنَّه «روي في بعض قصصهم أنَّ الواحد منهم كان يأتيه الشَّخص من أقاربِه الذين نهَوهم فيقول له: ألم أنهكَ؟ فيقول: برأسه: بلى. وتسيل دموعه على خدِّه، ولم يتعرَّض في هذا المسخ شيء منهم خنازير»([19]).
وقد ذهب بعضُ الرَّواة يُسرفون في «تصوير» حالة «المسخ»، ويبنون عليها «قصصًا» أخرى، فنراهم يتجاوزُون مسخ بعضهم «قردة» و«خنازير» ليجعلوه «فأرًا» على نحو ما رواه «البخاريّ» في «صحيحه» برقم «3305»، و«مسلم» في «صحيحه» برقم «2997»، و«أحمد» في «مسنده» برقم «7197»، وغيرهم حيث جاء، واللَّفظ كما في «البخاريّ»: «فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ يُدْرَى مَا فَعَلَتْ، وَإِنِّي لاَ أُرَاهَا إِلَّا الفَارَ، إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ، وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ»، وذهب بعضهم إلى القول بأنَّ «الشَّيطان» مسخه الله «عنكبوتًا» كما في «الجامع الصَّحيح» لـ«لسِّيوطيّ» برقم «5739»حيث جاء: «العنكبوت شيطان مسخه الله تعالى فاقتلوه».
وأرى أنَّ الذي جعلَ رأي وقول «مجاهد» شاذًا مخالفًا لرأي الجمهور مع أنَّه الأقرب إلى الصَّواب، والأرجح أنَّ «المفسِّرين» درجوا على ما يرجِّحه «الطَّبريُّ» في تفسيره، على اعتباره «شيخ المفسِّرين»، وقد ردَّ «الطَّبريُّ» نفسه قول «مجاهد»، وعلَّله بعلل لا تنهضُ دليلاً له في ردِّه فقال:
«وهذا القول الذي قاله مجاهد، قولٌ لظاهر ما دلَّ عليه كتاب الله مخالفٌ. وذلك أنَّ الله أخبر في كتابه أنَّه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطَّاغوت، كما أخبر أنَّهم قالوا لنبيِّهم: ﴿أرنا الله جهرة﴾، وأنَّ الله تعالى ذِكْرُه أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربّهم، وأنَّهم عبدوا العجل، فجعل توبته قتل أنفسهم، وأنَّهم أمروا بدخول الأرض المقدَّسة فقالوا لنبيِّهم: ﴿اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا هاهنا قاعدون﴾، فابتلاهم بالتِّيه، فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جلَّ ذكره أنَّه جعل منهم قردة وخنازير، وآخر قال: لم يكن شيء ممَّا أخبر الله عن بني إسرائيل أنَّه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم والنكال والعقوبات التي أحلَّها الله بهم، ومن أنكر شئيًا من ذلك وأقرَّ بآخر منه سُئل البرهان، وعورضَ، فيما أنكر من ذلك بما أقرّ به، ثم يسأل الفرق بين خبر مستفيض، أو أثر صحيح، هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجَّة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه، وكفى دليلاً على فساد قوله إجماعها على تخطئته»([20]).
ونحنُ قد بيَّنا البرهان فيما نُعارضُ فيه، ولا مبرِّر لما أنهى به «الطَّبريّ»؛ لاحتمال «الخطأ»، و«الكذب» على مَن ذكر، إذا ما علمنا أنَّه من أخبار «السَّابقين»، ولا دليل مشاهد عليه، ممَّا يجعل «النَّص القرآنيّ» حجَّة على الجميع، إذ لو أراد «المسخ» لجاء بلفظ «مسخ» الدَّال على ذلك.
([1]) معالم التَّنزيل للبغوي: 5/105، وأحكام القرآن للقرطبي: 1/440، والبحر المحيط: 1/397.
([2]) معالم التَّنزيل للبغوي: 3/75.
([3]) معالم التَّنزيل: 3/75.
([4]) المحرر الوجيز: 2/261.
([5]) المحرَّر الوجيز: 2/77.
([6]) البحر المحيط: 1/397.
([7]) البحر المحيط: 1/397.
([8]) البحر المحيط: 1/397.
([9]) مقاييس اللغة: 5/70.
([10]) جمهرة اللُّغة: 2/98.
([11]) مقاييس اللغة: 3/66.
([12]) جمهرة اللغة: 1/478.
([13]) مفاتيح الغيب للرازي: 3/588.
([14]) مقاييس اللغة: 2/144.
([15]) العين: 1/309.
([16]) العين: 1/309.
([17]) البحر المحيط: 1/397.
([18]) مفاتيح الغيب: 2/514.
([19]) البحر المحيط: 1/397.
([20]) جامع البيان: 2/65.
وسوم: العدد 724