جهاد مهاجر .. وغرغرة الهوية
ببالغ الأسى والحزن أنعى إليكم وفاة ثقافتنا الموروثة، وعاداتنا الأصيلة، وتقاليدنا المعجونة بفطرتنا، عقب صراع مرير مع مرض عضال، استعصى على الأطباء، وحار فيه العلماء، فابتلع أجسام أبنائنا، وفتك بأفكارهم، وسمم عقولهم، كل ذلك وأكثر سبَّبه وباء سفّاح مهلك، اجتاح أمة مستعبدة، وشعوباً مسلوبة الحقوق مبتورة الإرادة، متعطشة للحرية، أطلق السياسيون على هذا الوباء اسم اللجوء أو النزوح أو التهجير القسري، مسميات عدة لداء واحد.
وأثر هذا الوباء تداخل الجديد على القديم، واختلط الحابل بالنابل، وامتزجت اللغات واللهجات، وضاعت الأم وتاه الأصل في بحر ثائر، تلطمه موجة وتخفضه أخرى، فصارت ثقافتنا كالإبرة في كومة قش، وذابت كمكعب سكر في كوب شاي، واستحال خلاصنا مما علق بنا.
فأصبحنا نُجذَب من كل صَوب، بينما ترانا نتأرجح في جهة الأقوى والأدسم.
ونتيجة هذا التجاذب إما تطاول مطاطي فكري وَهِن، أو انقطاع الأوصال وتمزق الأعضاء نتيجة الشدِّ المعاكس، أو تهجين ثقافي غير منتظم ينتج سُلالة مُنْحلّة.
حرب ذاتية وخارجية بآن واحد، تدور رحاها داخل فكر اللاجئ الـمُهجّر، وفي تفاصيل حياته اليومية، فإما ينتصر على خصمه الخارجي، أو يَهلك دونه، وكلا الحالين سيان لديه، فإن استطاع التأقلُم مع واقعه الجديد عاش بسعادة خُلَّبية مزيفة، حيث يُرغم على مسح ذاكرته وطي تاريخه بالكامل؛ ليستطيع العيش بالعقلية الجديدة.
وإن حافظ على مورثاته الأصيلة فبنى حجاباً عازلاً لأي اختراق يُحرّف ما نُشِّئ عليه كان مبتور الحال، منقطع التعايش، فظاً غليظاً، لا يَقبل التغير، جامداً لا يسمح للجديد أن يسري في دمه، فتغدو حياته علقماً لا يكاد يسيغه أحد.
وكما أنه ليس كل قديم نبيلاً، أيضاً فليس كل جديد شريفاً، فما يعيشه عصرنا الحالي من انفتاح لا محدود، يجعلنا نزداد هماً وتكديراً، حيث الثقافة الدخيلة، والانفتاح الفاضح، والعلاجات الـمُسكّنة، كل ذلك يجعلنا نقفز من زمن إلى زمن، فكثير من الأحيان أُشبِّه واقعنا بدولاب الزمن، الذي ينقلنا من حال إلى حال، ومن واقع إلى آخر بسرعة البرق.
أمور لا تصدق نعيشها، ومشكلات عويصة تؤرقنا،لم نتعرض لها ولم نسمع بها، فعندما ترى فلذة كبدك ينقلب إنساناً آخر غريباً،لم تسعى أبداً ليُصنع (بهذا الشكل) على عينك، ولم تضع فيه بذرة ذاك التحول، ستدرك وقتها حقيقة هذا الطور، وستدرك مقتل ثقافتك بخنجر (كل جديد مرغوب).
عندما ترى عائلتك تتنكر لأقوالك وأفعالك، وتتبرأ من تعاليمك ومبادئك، وأنت تقف مشدوهاً مذهولاً، تتردد في قلبك أصوات متداخلة، وأسئلة ذاتية:
هل أنا خَرِفت؟!
هل أنا مبالغ في ما أرى ؟!
هل بِتُّ لا أُحسِنُ التصرف في هذا العالم الغريب؟!
هل أنا من عالم آخر؟!
هل أنا في الطريق الصحيح ؟!
هل هل هل ؟!
وللأسف لا يسعفني جواب!!
عندما تسمع أهلك يرددون: أنت لا تعرف شيئاً يا أبي! أنت لا تدرك واقعنا يا زوجي! أنت غريب الأطوار يا والدي! عندها تدرك أنك غريب وحيد في هذا العالم.
عندما أرى زوجتي تعارضني في كل صغيرة وكبيرة على غير عادتها، وكأنها امرأة أخرى لا أعرفها، بعدما استجابت للمحدثات فطأطأت فكرها وأبدت استعدادها لقبول القادم المجهول (فقط لأنه جديد)، عندها سأعلم أن ثقافتنا قد وُئِدت.
عندما أرى أولادي يُبْهَرون بكل حديث برّاق، بل ينجذبون إليه تجاذب الفراش إلى النار، ولا أقوى على منعهم أو الوقوف دون انغماسهم في لهيبها، عندها أتيقن أني في حقل ألغام، الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود.
عندما أجد نفسي وحيداً دون مُعين أو مُساعد أو مُؤيد، والجميع ينفر مني نفرة المشمئز المستغرب من تصرفاتي، عندها أدرك أني في بئر يوسف، أو في حوت يونس، أو في بلوى أيوب، عليهم السلام جميعاً.
عندما أسمع أولادي يتأففون من لغتهم الأم اللغة العربية، لغة القرآن والحديث، لغة التفسير والعلوم، لغة النبي والأصحاب، لغة الأجداد والآباء، لغة الشعراء والخطباء والأدباء، عندها سأقول ليت أمي لم تلدني.
عندما أعظ أهل بيتي وأمنيهم بأننا سنعود عاجلاً غير آجل إلى شامنا الحبيب، أقرأ تلميحات الاستنكار في عيونهم، وتمتمة استهزاء في ألسنتهم لِمَا أرنو إليه، عندها أعلم أننا قد سُلبنا أحلامنا ونُهبنا آمالنا.
عندما أرى حقيقة أن الناس بُدّلت، والأفكار زُيفت، والأوراق خُلطت، والمفاهيم حُرفت، والحيرة تأخذني ذات اليمين مرة، ومرة ذات الشمال، عندها أجزم أنني معتقل سياسي في منفردة تحت الأرض، لا يُعلم ليلها من نهارها.
ماذا يجري ؟ هل أنا أحلم ؟! هل دخولي المعتقل جعلني أفقد ذاكرتي؟ هل غُسل دماغي في سجون الأسد؟ حتى بِتّ كأنني فاقد الذاكرة، أستغرب أفعال من حولي، في حين أنهم يتصرفون بانسجام واعتياد دون حرج (بالنسبة لهم)، فهذا يأخذني إلى ما قبل ثلاثين سنة قد مضت، حين كنَّا صغاراً وكنا نفتعل تمثيلية في المدرسة على بعض الأساتذة، فيقوم أحدنا فيقول له: خيراً أستاذ لماذا يبدو وجهك أصفر؟
ويقول الآخر كأنك ترتجف يا أستاذ ؟!
ويتبعه ثالث:لم تقل لنا ذلك يا أستاذ، ويؤيده باقي الطلبة..
ثم يقولون له: أستاذ صوتك ضعيف مرتعش لا نسمعه، لعلك مريض؟!
ويبقى الحال هكذا عشر دقائق، حتى يتسلل الظن إلى قلب المعلم أنه مريض، مع أنه سليم صحيح، بعدها لا يتوانى في مغادرة الصف معتذراً عن إكمال الدرس لآلامه وشعوره بالإرهاق والتعب.
وهكذا تنجح خطتنا في إدخال الوهن إلى جسم المعلم.
فهل وقعتُ بنفس الشراك التي نصبناه لذلك المعلم ؟!
وهل أهل بيتي يمثّلون عليّ ؟! أم أنه واقع لا مفر منه ؟!
لا جواب يريحني.
ليتهم يفهمون رؤيتي للحياة:
الحياة جميلة، والتجدد مهم، والحداثة مريحة، والتطور ضروري، كل ذلك لا غبار في فهمه، ولا بأس في حاجته إن توافق مع شرعنا الحنيف، ولكن أليس لكل حضارة تراث، ولكل أمة قوانين وأنظمة، ولكل بيئة خصوصيتها؟
إن كان الجواب نعم. فلم تُنكرون عليَّ حُبّي واحتفاظي بما أملك من تَركةٍ ثقافية خاصة بأهلي وناسي؟!
ولم تستغربون حبي لوطني وأحبابي؟ ألم يقل نبينا الأعظم عن مكة المكرمة حين فارقها: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرضٍ إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك ؟!
فهل غيّر نبينا الكريم عاداته وأفكاره في مهجره الجديد؟! وهل تخلى عن مبادئه في المدينة المنورة؟! الجواب هو لا. لم يغير شيئاً نشأ وشب عليه البتة، فهو رسول الوفاء والمروءة.
فلماذا تنكرون حبي وتمسكي بمنشئي؟ ولماذا تعتبون شوقي إلى أرضي ووطني وأهلي؟! فهل عُدم الوفاء لديكم؟! أم خارت مروءتكم ؟!
ولماذا تسأمون من سماع الحنين إلى البلاد والعباد والأصول؟
ولماذا تنددون بأي عبارة تُنعش فينا فكرة الرجوع إلى منبتنا الطيب وجذرنا النبيل؟!
أولادي الأعزاء ..
زوجتي الكريمة ..
أقول لكم بأعلى صوتي جازماً وبكل إصرار: لن أنس موطني، ولن أغير ثقافتي، ولن أخلع ردائي، ولن أتخلى عن لغتي، وكما يقول أجدادي: من يخلع ثوبه يبرد.
سأبقى كما أنا.. لن تتمكن سموم التغير من تمزيق ثقافتي، ولن تستطيع رياح التجديد طمْر هويتي، ولن تقوى قوى الانفتاح السلبي على الفتّ في عضدي، فأمل العودةِ لديَّ أكبر من مغريات الحداثة، وأنتظر تلك اللحظة (الآتية حتماً لا ريب فيها) التي أعود فيها إلى بلدي وأهلي وأحبائي وأرضي، بكم أو بدونكم.
وسوم: العدد 728