نريد المواطن المتميز

اعجبتني القصة  واراها متكررة في كل زمان ومكان من الارض فيها ظالم وطاغية وفيها مناضلون وثوار وشعب فيه القوي الثائر  والمسكين والمغلوب على امره

اترككم مع الرسالة وشكري للدكتور خلدون بسماحه لي بنشرها على صفحتي 

هذا الكلام المؤلم المبكي وصلني من محام هو زميلي في العمل وهو مصري ☹️: 

بعد مذبحة رابعة والتي سفك فيها السيسي دماء المئات من أطهر وأنقي من أنجبتهم مصر

كانت جنازة ﻷخ شهيد بالمنصورة

حاول بعض البلطجية الهجوم علي النعش والتمثيل بجثة الشهيد

تردد البعض وتراجع إلا أن أحد البلطجية حثهم علي الهجوم قائلا

الواد ده أنا عارفه ..ده من اﻹخوان اﻹرهابيين

ده اللي كان بيجيب الزيت والسكر والمعونة المالية ﻷمي كل شهر

كان المشهد عبثيا وغريبا علي الناس

كيف يقابل اﻹحسان بمثل هذا الجحود والنكران

ولكن من يقرأ التاريخ المصري ..حتي القريب منه

سوف يري العجب العجاب

قصتان مؤلمتان مخزيتان حدثتا في فترة الحملة الفرنسية علي مصر

تصدي للحملة في اﻷسكندرية البطل محمد كريم وكان شبخ تجار اﻷسكندرية

وتصدي للحملة في القاهرة الحاج مصطفي البشتيلي وهو أكبر تاجر زيون ببولاق أبو العلا

فماذا كانت النتيجة

في اﻷسكندرية بعد القبض علي الزعيم محمد كريم

تم الحكم عليه باﻹعدام

ولكن نابليون بونابارت أرسل له وأحضره

وقال له يعز علي أن أعدم رجلا ﻷنه كان يدافع عن بلاده

أنت خصمي وعدوي ولكني أحترمك رغم كل شيء

ولا أريد أن يكتب التاريخ عني أني كنت أعدم أبطالا يدافعون عن بلادهم

ولذلك فقد عفوت عنك مقابل غرامة عشرة أﻵف قطعة ذهبية تعويضا للجيش الفرنسي

فقال محمد كريم ليس معي مال ..ولكن لي ديون مستحقه عند التجار تتجاوز المائة ألف قطعة ذهبية

فقال له نابليون سمحت لك بتحصيل ديونك فأذهب للسوق وأحضر لي الفدية

فكان محمد كريم ينزل للسوق كل يوم مغلولا في قيوده وفي حراسة الجند الفرنسيين

فيطوفون به علي دكاكين التجار واحدا تلو اﻵخر

ويطالبهم بسداد بعض ما عندهم من ديون له ليدفع الفدية

ولكن لم يستجب له تاجر واحد بل وأنكروا عليه مقاومته للفرنسيين

وربما قالوا عنه ارهابي متهور تسبب في دمار اﻷسكندرية

وبعد عدة أيام عاد محمد كريم لنابليون بونابارت خالي الوفاض

وليس معه قطعة ذهب واحدة

فقال له نابليون كلمة مؤلمة جدا

قال له أنا آسف أني مضطر ﻹعدام بطل باسل مثلك

ولكني لا أعدمك ﻷنك قاومتنا ودافعت عن بلادك

ولكني أعدمك ﻷنك كنت تبذل حياتك دفاعا عن مثل هؤلاء التجار الجبناء

ويعلق المؤرخ الجبرتي علي هذه القصة المخزية

محاولا الدفاع عن التجار الجبناء

بأنهم خافوا أن تكون الحكاية حيلة من بونابارت لكشف من يتعاطف مع محمد كريم

فيكون من جيوب المقاومة والتي يبحثون عنها

طبعا عذر غير مقبول ولا يعتد به أبدا

أما في القاهرة فقد كان البطل الحاج مصطفي البشتيلي

وهو غير معروف مثل عمر مكرم أو محمد كريم

ولكنه كان بطلا بحق

وكانت نهايته مأسأوية أيضا

هذا الرجل نادرا ما يذكره أحد بالرغم من دوره العظيم في تاريخ مصر. أصله من قرية بشتيل بمحافظة الجيزة، عندما احتل الفرنسيون مصر عام 1798 كان مصطفى البشتيلي تاجرا ثريا يمتلك وكالة (محلا كبيرا) لبيع الزيوت في بولاق أبوالعلا ويعيش حياة مرفهة مع أسرته، لم يكن ينقصه شيء، لكنه قرر أن يقاوم الاحتلال الفرنسي فشرع يخزن البارود في براميل الزيت استعدادا ليوم الثورة ثم وشى به بعض جيرانه للسلطة الفرنسية التي أمرت بتفتيش الوكالة ولما وجد الفرنسيون البارود عنده قبضوا عليه وألقوا به في السجن بضعة أشهر ثم أطلقوا سراحه، كان من الممكن لمصطفى البشتيلي عندئذ أن يبتعد عن المشاكل ويعكف على تجارته المربحة، لكنه كان مصرًّا على مقاومة الفرنسيين.

في مارس عام 1800 عندما اندلعت ثورة القاهرة الثانية ضد الجيش الفرنسي تحول مصطفى البشتيلي إلى زعيم حقيقي يمد الثوار بالاسلحة وينفق من ماله لتلبية احتياجاتهم ويقودهم بنفسه في غاراتهم المستمرة على معسكرات الفرنسيين . كان نابليون بونابرت قد عاد إلى فرنسا وترك قيادة الحملة للجنرال كليبر الذي فوجئ بضراوة الثورة فعرض على المصريين الثائرين الصلح ولما رفضوا شن الجيش الفرنسي هجوما كاسحا على القاهرة استباح خلاله قتل المصريين وسبي نسائهم ونهب أموالهم ومتاعهم وقد انهمرت القنابل الفرنسية بغزارة فأحرقت حي بولاق بالكامل وأحياء أخرى كثيرة في القاهرة.

وفي النهاية تمكن الفرنسيون من اخماد الثورة المصرية وفر مصطفى البشتيلي هربا من الفرنسيين لكنهم نجحوا في القبض عليه. هنا حدثت واقعة مأساوية وفريدة من نوعها. لم يرد الجنرال كليبر أن يصدر قرارا باعدام مصطفى البشتيلي حتى لا يتحول إلى بطل في نظر الشعب فطلب من جموع المصريين في بولاق أن يعاقبوا البشتيلي بأنفسهم لأنه حرضهم على الفتنة التي أدت إلى احراق بيوتهم وقتل أقاربهم وسبي نسائهم.

لقد حمل الجنرال كليبر البشتيلي المسؤولية عن كل الجرائم التي ارتكبها الجيش الفرنسي لاخماد الثورة. الغريب أن المصريين اقتنعوا بهذا المنطق الشاذ وقاموا بتجريس مصطفى البشتيلي. التجريس عقوبة قديمة يتم فيها اجلاس الشخص المعاقب على الحمار بالمقلوب ثم يطوف بالشوارع فيبصق الناس على وجهه ويصفعونه ويشتمونه. قام المصريون بتجريس زعيمهم مصطفى البشتيلي وفي النهاية انهالوا عليه ضربا بالنبابيت حتى قتلوه. يحاول بعض المؤرخين التخفيف من هذه الواقعة المشينة فيقولون إن المصريين جرسوا البشتيلي وقتلوه خوفا من بطش الجنرال كليبر. هذا تبرير غير منطقي وعذر أقبح من ذنب. اذ كيف يخاف المصريون على حياتهم فيقتلون زعيمهم بأيديهم؟ واذا خاف بعضهم فارتكبوا هذه الجريمة الشنيعة فلماذا لم ينقذ بقية المصريين البشتيلي العظيم ووقفوا يتفرجون عليه وهو يتعرض للتجريس والقتل؟

كيف نسي المصريون فضل هذا الزعيم الذى ضحى بكل شيء من أجل استقلال بلاده ..؟ كيف طاوعتهم أنفسهم على قتله وهو الذى كان يدافع عن حريتهم وكرامتهم..؟ ماذا دار بذهن مصطفى البشتيلي وهو راكب على الحمار بالمقلوب والمصريون يبصقون عليه ويشتمونه ويضربونه بالنبابيت..؟ هل ندم على اشتراكه في المقاومة وهو يرى المصريين الذى دافع عن حريتهم يهينونه ويضربونه..؟ ان مقتل مصطفى البشتيلي المأساوى يعلمنا أن المصريين، منذ قرون، يحملون رؤيتين متناقضتين للحياة.

لقد كان مصطفى البشتيلي مثل مصريين كثيرين رجلا ثوريا يهتم بأحوال بلاده بنفس قدر اهتمامه بأسرته وهو لا يطيق الحياة اذا كانت بلاده محتلة أو ذليلة، انه يفضل الموت على الحياة بلا كرامة ولاحرية. بالمقابل فان الذين جرسوا البشتيلي وقتلوه، مثل مصريين كثيرين أيضا، ينتمون إلى نوع المواطن المستقر الذي يفضل الاستقرار على أي شيء في الحياة، ان كل ما يهمه أكل عيشه حتى لو ضاعت كرامته وحريته. الأهم عند المواطن المستقر أن يكسب ويأكل ويشرب ويمارس الجنس بكفاءة مع زوجته ويربي أولاده ويعلمهم ويزوجهم. ان انتماءه منحصر في أسرته وهو لايهتم اطلاقا بما يحدث خارجها. المواطن المستقر يعتبر السلطة قوة قاهرة يجب أن يخضع لها تماما لأن مقاومتها ستكلفه ثمنا لايريد ولايستطيع أن يدفعه انه يطيع الحاكم المستبد ولسان حاله يقول: "ارفسنا بقدمك ودعنا نعيش". المواطن المستقر يعتبر الثورة ضد الظلم حماقة ويكره المناضلين من أجل الحرية ويعتبرهم مثيرين للفتن ويحملهم مسؤولية وقف حاله وقطع رزقه.

كل تقدم أحرزته مصر نحو الاستقلال والحرية يرجع الفضل فيه للمصريين الثوريين مثل البشتيلي وكل اخفاق حدث للثورات المصرية كان سببه الأول خنوع المواطن المستقر وأنانيته وضيق أفقه. ان مشهد تجريس الزعيم مصطفى البشتيلي وقتله بأيدي المصريين الذين دافع عن حريتهم لازال قادرا على الهامنا لنفهم المشهد في مصر اليوم. ألا يشبه شباب الثورة مصطفى البشتيلي..؟ لقد ثاروا في يناير 2011 دفاعا عن حرية وكرامة المصريين فكان جزاؤهم القتل وفقء الأعين بالخرطوش وكثيرون منهم قابعون في السجون يتعرضون لتعذيب بشع وبرغم ذلك لازالوا ثابتين على مبادئهم، وبالمقابل هناك مصريين ينتمون لطائفة المواطن المستقر مثل قتلة البشتيلي. هؤلاء لا تعنيهم الثورة ولا يريدونها أساسا وهم يفضلون لقمة العيش على الحرية والكرامة ويعيشون متوائمين مع الظلم والفساد ولايدركون أن من يتنازل عن حريته من أجل لقمة العيش سيخسر لقمة العيش والحرية معا.لن تتقدم مصر الا اذا طالب المواطن المستقر بحريته وتخلص من خوفه واذعانه للاستبداد

وسوم: العدد 731