هناك شرفاء صادقون في حبهم لوطنهم معروفون بالنزاهة والتجرد والالتزام بخدمة الصالح العام
عنوان هذا المقال عبارة عن جملة استثنائية تخللت ما تضمنه خطاب العرش من انتقاد شديد اللهجة للمسؤولين المقصرين في واجبهم في القطاع العمومي وللأحزاب السياسية المخلة بمسؤولياتها . ولقد كان هذا الاستثناء عبارة عن شهادة اعتراف العرش بجهود الشرفاء الصادقين في حب الوطن والمعروفين بالنزاهة والالتزام بخدمة الصالح العام . ومعلوم أنه لولا هؤلاء الفضلاء من الرجال والنساء لتوقفت عجلة الوطن عن الحركة .
وإذا كنت قد خصصت ثلاثة مقالات للحديث عن نماذج الممارسات الفاسدة الصادرة عن مسؤولين وموظفين في القطاع العمومي ، وعن أحزاب سياسية ونقابات ، وهي ممارسات تعطل مسيرة التنمية في هذا الوطن ، فإن الموضوعية والإنصاف يقتضيان الإشادة بالشرفاء الصادقين في حب الوطن والذين يتفانون في خدمة الصالح العام . ومن هؤلاء مسؤولون في القطاع العمومي تختلف مواصفاتهم جذريا عن مواصفات المسؤولين الفاسدين ، ذلك أن أول ما يميزهم صفة التواضع ، ومن تواضع لله رفعه ، يستأنس المواطنون بتواضعهم الذي يبعث الأمل في النفوس خصوصا عندما يعتاد المواطنون التعامل مع المستكبرين من المسؤولين الذين يعتبرون الناس مجرد حشرات . وقد يغري تواضع المسؤولين الفضلاء بعض الجاهلين بهم ، فيرتابون في كونهم مسؤولين حقا لأنهم اعتادوا أن يروا الكبرياء علامة خاصة بالمسؤولين وملازمة لهم ، ولا يستقيم في أذهانهم أن يكون المسؤول متواضعا ، لأن التواضع صفة المستضعفين من خلق الله في نظرهم . وقد لا يفارق بعض المواطنين ترقب الكبرياء عند زيارتهم للمسؤولين ، فإن وجدوا من فضلاء هؤلاء تواضعا ذهلوا لذلك، وصاروا يحكون عنه كما تحكى الحكايات العجائبية . والمسؤول الشريف الصادق أول من يصل إلى مقر عمله ، ويبدأ بتحية الأعوان والحراس ويجاملهم ويسألهم عن أحولهم ، ثم يمر بالمكاتب يلقي التحية على الموظفين الذين لا يمكن أن يتخلفوا عن موعد العمل سواء منهم الجاد أم المتهاون لأنه لا يوجد تأخر عن العمل حيث يوجد المسؤول الذي لا يتأخر . ويعرف المسؤول النزيه من حال الذي يقف بباب مكتبه ، وقد لا يقف على بابه الذي يظل مشرعا أحد، بل يراه كل من يمر ببابه وقد شمر على ساعد الجد لا يرفع رأسه إلا ليرد على تحية أو ليستقبل وافدا عليه . وإذا اقتضى الأمر أن يقف ببابه بواب أمره ألا يترك أحدا واقفا به، بل يكلف مكتب استقبال خاص لتوجيه الزوار إلى مختلف الأقسام والمصالح قبل أن يكون هو آخر محطة يطرقها هؤلاء إذا لم تقض حوائجهم . ولا يتخذ المسؤول النزيه سكرتيرة ، وإن كان لا بد من ذلك اختار من تمثل تواضعه ودماثة خلقه ، ولم يطلق يدها في تقرير مصائر الناس كما يفعل المسؤول المتجبر المستكبر . وآخر من يغادر مقر عمله المسؤول النزيه ، وقد يجعله ذلك عرضة للسخرية من نماذج الموظفين المتهاونين الذين يعتبرون مغادرة مقر العمل قبل الأوان شطارة وذكاء . ويمتطي المسؤول النزيه سيارته الخاصة من بيته إلى مقر عمله ، ولا يشغل السيارة الوظيفية إلا إذا تحرك للقيام بواجب خارج الإدارة ، وقد يسخر أيضا من ذلك الانتهازيون الذين يرون السيارات الوظيفية مكاسب ، ولا يتقون الله في وقودها وفي صيانتها . ولا يشغل الموظف النزيه من التجهيزات إلا ما تقتضيه مهامه . وقد يخرج الموظف النزيه إلى طوابير الواقفين ببابه والابتسامة تعلو محياه وهو يطمئنهم بأنه سيستقبلهم جميعا ، فيبدأ بالعجزة وكبار السن بعد الاعتذار للجميع على هذا الفعل الذي يقتضيه واجب التعامل مع هذا الصنف من المواطنين . وقد لا يجلس المسؤول النزيه خلف مكتبه بل يجلس مقابل من يستقبلهم ليشعرهم بدفء اللقاء وليبعث الأمل في النفوس التي غالبا ما تزور مكتبه بعد انقطاع الأمل بسبب ممارسات المسؤولين الذين لا ضمائر مهنية لهم .ولا يخرج الزوار من مكتب المسؤول النزيه إلا والفرحة تعلو وجوههم والأمل يصاحبهم . ولا يرى المسؤول النزيه أثناء أوقات العمل في مقهى أو مطعم أو منتزه ، ولا يستغل فترة من وقت عمله لنقل الأولاد إلى المدرسة أو الزوجة إلى العمل أو الحمام أو السوق أو غير ذلك . وقد يحبس المسؤول النزيه نفسه في مقر عمله لساعات بعد انقضاء فترات العمل ، فلا يغادر مقر العمل إلا بعد ساعة متأخرة من الليل ، وقد يسخر منه المتهاونون بسبب ذلك، ويلومونه لأنه يتفانى في عمله ،ويضحي بوقته الخاص من أجل المصلحة العامة . وقد ينتقل معه عمله إلى بيته، فيسهر الليل لتصفيته ،ويحرم أهله وأولاده من حقهم فيه كرب أسرة ، ويفضل عليهم الصالح العام . وقد يجر عليه تفانيه في العمل نقمة من هم أكثر منه مسؤولية لأنه بممارساته المحمودة يجعلهم في حالة شرود خصوصا عندما يكونون من النوع المتهاون المتهافت على الامتيازات بكل أشكالها ، والذين يرون المسؤولية تشريفا لا تكليفا ، وتكبرا لا تواضعا . وقد يحرم المسؤول النزيه من حقه في الترقي، فيشتغل لسنوات لا تتحرك رتبته ولا سلمه ، ولا تعويضاته ، وهو لا يبالي بذلك، ويحتسب الأجر عند الله عز وجل . وقد ينقل لصلاحه من جهة أحسن التدبير فيها لأن مافيا الفساد فيها لا يناسبها تدبيره الحسن إلى جهة أخرى لا يدخر جهدا في حسن التدبير فيها كعادته ودأبه . وحين ينقل يودعه المخلصون بالدموع ،بينما يستبشر المفسدون برحيله ، ويجرحونه أيما تجريح ، ويسارعون إلى اغتيابه لدى من يخلفه خصوصا إذا كان من شرذمة المفسدين . ولا يتطلع المسؤول النزيه إلى منصات التشريف والتكريم أو إلى المنابر الإعلامية، بل لا يحب الأضواء الإعلامية أصلا لأن عمله ينوب عن الإعلام في التعريف بكفاءته وحسن تدبيره وإخلاصه في واجبه . وقد يرى المسؤول النزيه من يسطو على مجهوده ليرتزق به أمام الأضواء الإعلامية فلا يبالي به لأنه يخلص العمل لله تعالى ولا يبالي بحمد الناس . وقد يتنازل المسؤول النزيه عن تعويضاته من أجل الصالح العام ، وقد يعرضه ذلك أيضا لسخرية الساخرين الذين يتهافتون على التعويضات ويطالبون بتضخيمها ويأكلون ما كان منها سحتا محرما . ولا يشكو المسؤول النزيه من مشقة عمل بل يرى أنه دائما مقصرا ، ويعبر عن بالغ سعادته وهو منهمك في عمله، ويجد لذلك حلاوة لا يجدها في راحة أو استجمام . والمسؤول النزيه يجعل الوطنية من المقدسات بعد الدين ، ويرى التفريط فيها كالتفريط في الدين . ويحمل المسؤول النزيه هم الوطن والمواطنين ، ويعاني من أجل ذلك وقد يعرضه ذلك أيضا لسخرية الساخرين المتهاونين الذين لا يكفون بالدعاء على هذا الوطن بالخراب، ويتمنون إفلاسه . ولا يضيع مجهود الموظفين المخلصين العاملين مع المسؤول النزيه ، فهو يعرف قض وقضيض موظفيه ، والمحبوب منهم عنده أكثرهم إخلاصا في عمله . ويحرص المسؤول النزيه على ممتلكات الدولة وكأنها ملكه الخاص ، وقد يعرضه ذلك أيضا لسخرية الساخرين من المخربين الذي يغضون الطرف عن كل تخريب يلحق الممتلكات العامة .
هذه بعض نماذج تصرفات المسؤول النزيه الشريف الصادق في واجبه المتجرد والملتزم بخدمة الصالح العام كما وصفه خطاب العرش ، وكما يراه المواطنون الصادقون في وطنيتهم ، إذا أمسى كالا من عمله غفر له ، ويحييه الله عز وجل حياة طيبة ، ويبعثه مقاما محمودا لصدقه وإخلاصه في عمله . وبقي أن نشير إلى أنه يوجد على غرار المسؤول النزيه الموظف النزيه أيضا وهو بنفس الخصال ، والسياسي الشريف الذي قد يعاني وهو في حزب سياسي فيه الانتهازيون والوصوليون ، ولا يبالي بممارساتهم الفاسدة ، بل يعيش مستقيما طيلة حياته ،ويرحل عن هذه الدنيا وهو على استقامته لا يريد شكر الشاكرين بل يرغب في جزاء رب العالمين.
وسوم: العدد 733