حَلَبَةُ الأبواق
عندما ترى البعض يقدمون غلى فعل أي شيء كي يتحوّلوا إلى أبواق، تشكر الشدائد والأزمات التي تُظهر أول ما تُظهر الناس على معادنهم الحقيقية.
أحياناً ترى نفسكَ مضطراً في موقف حَرِجٍ كي تردّ على مصافحة بوق، عندها لاتشعر أنك بحاجة كي تغتسل جسدك وتطهّره فحسب، بل تغسل وتطهّر كل قطعة ثياب ترتديها.
إن هؤلاء هم أكثر مخلوقات الله قَرَفاً وإثارة للاشمئزاز، خاصة عندما ترى بوقَين يتراوغان ويتنافقات في بعض وسائل الإعلام، أو صفحات التواصل الاجتماعي، فإن ذلك يكون من أكثر لحظات التعبير عن حجم الشيزوفرينيا في بعض النفوس الموبوءة بلوثة النفاق، وأحياناً تتخذ ذلك على سبيل الملهاة، كما لو أنك تتفرّج على فيلم كوميدي ساخر، وفقط عندما تنتهي الحلقة تشعر بأنك لم تكن أمام ممثلَين كوميديَين استأنَستَ بقضاء وقت مضحك مهما، بل كنتَ إزاءَ بوقَين.
وإذا نظرتَ إلى البوق، لاتجد شيئاً في حياته سوى الذي يبوّق له، فهو يتحوّل بالنسبة إليه إلى إله، وإلى عقيدة، وإلى ثقافة، فلا يرى شيئاً غيره، فكل وقته وفكره مكرّس له حتى أنه يتحوّل إلى مخلوق هَزَلي يثير الشَفقة.
لقد كثر المبوّقون بشكل ملفت، وهؤلاء هم أكثر خَطَراً حتى من الحروب ذاتها، لأنهم يؤجّجون الناس على بعضهم البعض، ويعتاشون من ذلك كونهم لايمتلكون أي مِهنة يمكن أن يمتهنونها، أو أي موهبة يمكن لهم أن يُبدعوا فيها، فوجدوا ضالّتهم في حلَبَة الأبواق.
في إحدى رواياتي المطبوعة منذ نحو ثلاث سنوات تناولتُ هذه المسألة من خلال المقطع التالي:
بينما كان رئيس البلاد يسترسل في الحديث لوزراء الحكومة إثر اجتماع رسمي بحضور بعض وسائل الإعلام المحلية، بغتة خرجت منه حركة مسموعة دون أن يتمكن من التحكم بها , ثم ما لبثت أن عقبتها رائحة كريهة شديدة النفوذ .
توقف عن الكلام لحظة وراح يتفرّس وجوه الوزراء التي سادها الوجوم ، حينئذ رفع قفاه قليلاً عن الكرسي ليعدل في جلسته، فلحقت حركة أخرى أختها ناشرة ذات الريح القوية شديدة الكراهية في الأجواء.
تنحنح الرئيس قليلاً ثم قال بأنه يعاني بعض الغازات منذ ليلة البارحة بعد أن تناول على العشاء كبة مقلية وطبقاً من شوربة العدس دون أن يعصر عليها الليمون، وما زاد الأمر سوءاً أنه تناول فجلتين أيضاً.
صمت قليلاً وهو يوزع نظراته على سحنات الوزراء الواجمة، ثم مدّ يده إلى علبة المحارم وسدّ أنفه عن الرائحة الكريهة التي ملأت أرجاء القاعة.
في تلك اللحظة هب وزير الصحة وهو يقول: أتعرف يا سيادة الرئيس أنني قبل أن أدخل القاعة كنتُ أعاني من ألم شديد في رأسي, ولكن بعد أن تبركنا بريحكم الكريمة زال الألم من رأسي.
وجّه إليه الرئيس نظرة استغراب وهو ما يزال يسد أنفه؛ ثم وزّع نظراته على وجوه الوزراء الذين ركنوا إلى صمت مهيب.
بعد لحظات قليلة نهض وزير البيئة من كرسيه وقال: يا سيدي لم يبق نوع من الورد من بلادنا, إلا وشممتُ ريحه, لكن أقسم لك بِشَرَفي أن أنفي لم يحظ قط بريح طيبة ومنعشة كهذه الريح الطيبة التي خَرَجَت مُباركة من بَدَنِ سِيادتكم, إنها أطيب من رائحة المسك, كيف لا وقد أتت من ولي نعمتنا، إنها ريح استثنائية؛ كيف لا تكون كذلك وقد أتت من رجل استثنائي، وزعيمٍ أوحدٍ لا مثيل له على الإطلاق في عصرنا، حيث هو القائد الأوحد للأمة، ومعلّمها الأول، ومحاميها الأول، وقاضيها الأول، ومصحح مسارها الأول.
ركز الرئيس نظراته في سماته وهو يصغي إليه، ثم أنزل قليلاً من المنديل عن أنفه.
عند ذاك هب وزير الأوقاف قائلاً: لو كان الأمر بيدي يا فخامة الرئيس, لقلت للطباخ أن يطعمكم أمسية كل اجتماع كبة مقلية, وشوربة، وفجلتين حتى تجودوا علينا بريحكم الطيبة المباركة التي أنعَشَت قلوبنا ونفوسنا، إنها أطيب من كل ريح تطيبنا به.
عند ذاك وقف وزير الثقافة وقال: اسمحوا لي يا سيادة الرئيس أن أدلو بدلوي في مأثرتكم الخالدة هذه وأنا الذي سمعتُ سيمفونيات العالم, وأعذب المقاطع الموسيقية، لكنني يا سيادة الرئيس لم أسمع من قبل أرق وأعذب مما جدتم به على أسماعنا, ولو كان الأمر بيدي وما دامت الكاميرات قد سجّلت هذا الحدث التاريخي, لأوعزت كي تـُدخل الفرقة الموسيقية الوطنية هذا الإيقاع العذب إلى نسيج نشيد بلادنا الوطني حتى يزداد المواطنون حسّاً وطنياً وهم يستمعون إلى عذوبة هذا التناغم الجميل.
عندئذ أنزل الرئيس المنديل عن أنفه وصار يتشمم لعله يحظى بنسمة من تلك الريح.
وسوم: العدد 735