جولة كوشنير وتجميل الاحتلال
لم تغادر جولة جيرارد كوشنير، كبير مستشاري البيت الأبيض، وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في المنطقة مربع السعي إلى مفاوضات حول سبل الوصول إلى المفاوضات. وهو أسلوب لجأت إليه السلطة الفلسطينية، وأطراف دولية، منذ توقف المفاوضات الدوّارة بين الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، في محاولة لإحياء الوهم بإمكانية العودة إلى مفاوضات قد تلد جنينًا، بعد أن تُحلّ الأمور العالقة التي استعصى حلها في مفاوضاتٍ سابقة، ضمن إطار مفاوضات العودة إلى المفاوضات، وفي مقدمتها، بحسب الجانب الفلسطيني، الموقف من الاستيطان ومن حل الدولتين، وهو الأسلوب الذي يوفر للسلطة مبررًا لبقائها واستمرارها، بذريعة أنّ ثمّة حراكًا سياسيًا تجري متابعته، وأنّ أبواب الوصول إلى حل عادل في هذا الطريق ما زالت مفتوحة بمقادير.
لكن، ومع مجيء الإدارة الأميركية الجديدة والمنحازة بشكلٍ تفوقت فيه على ما سبقها، هناك متغيّرات أساسية، كان على السلطة، ومن خلفها عرب لاهثون نحو إقامة علاقات تطبيعيه مع الكيان الصهيوني، ملاحظتها. ذلك أنّ البنية الأساسية التي استند إليها مفهوم حل الصراع العربي الصهيوني على أساس حل الدولتين وفق حدود عام 1967 مع تبادلٍ (طفيف) بالأراضي، وإيجاد حل لمشكلة اللاجئين وفق القرارات الدولية، قد انهار تمامًا مع السياسة الجديدة للرئيس الأميركي الذي اقترح إطارا للحل يقوم على ما يتفق عليه الطرفان؛ لينسف بذلك كل القرارات والمرجعيات الدولية التي كان يستند إليها الإطار السابق.
وتعني صيغة "ما يتفق عليه الطرفان" وضع الحَمَل أمام الذئب، وفرض هذا الحل على
الفلسطينيين بالقوة والإجبار. ويدرك كل من تبقى له بعضٌ من العقل والفطنة أنّ هذا صعب الحدوث، ما لم تتدخل أطراف عربية وإقليمية لفرض الحل على الفلسطينيين، ضمن صفقةٍ شاملة أُطلق عليها اسم "صفقة القرن"، والتي تقوم على تطبيع العلاقات الصهيونية العربية أولًا، وإعادة دور إسرائيل عاملا فاعلا في المنطقة، ومن ثمّ يأتي فرض صيغة حل، لن تتعدّى حكما ذاتيا محدودا ضمن التجمعات السكنية الكبرى والمعزولة عن محيطها، وقد يتضمن ذلك ترتيبات تشاركية مع دول مجاورة.
يخالف هذا التصوّر كليًا جميع ما كان يدور من أطر للمفاوضات ومرجعيات قانونية وقرارات دولية، وصولًا إلى المبادرة العربية وأوهام "أوسلو" التي افترضت أنّ الحل مع الفلسطينيين هو بوابة العلاقات العربية الإسرائيلية.
استقبل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كوشنير بمزيد من قرارات الاستيطان ومصادرة الأراضي، وهي عادة درج عليها المسؤولون الصهاينة كلما استقبلوا مبعوثًا دوليًا؛ للتأكيد على عزمهم وإصرارهم على مواصلة الاستيطان، وتكريس أمر واقع في الأرض المحتلة. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد قرّرت أن تضاعف من موظفي ما تسميها الإدارة المدنية في الضفة الغربية (إدارة الحكم العسكري)؛ كي تشمل خدماته وصلاحياتهالمستوطنين، ما يُعدّ مؤشرًا جديدًا على ضم هذه المناطق مستقبلًا، بل وعلى نقل المفاوضات القادمة من مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية على الانسحاب من المناطق المحتلة إلى مفاوضات بين المستوطنين والفلسطينيين على إدارة الضفة الغربية.
تأكيدًا لما سبق، لم تُسمع كلمة واحدة خلال الزيارة عن وقف الاستيطان أو حل الدولتين، في حين شغل الملف السوري الحيّز الأكبر من المحادثات مع نتنياهو، أمّا الوضع في المناطق المحتلة فلم يتعدّ الحديث عنه تحسين الظروف الإنسانية لمعيشة السكان، عبر تسهيلات ومساعدات اقتصادية، وهذه رُبطت باستمرار بأداء السلطة دورها في مكافحة ما يُدعى الإرهاب (استمرار التنسيق الأمني)، والطلب إليها وقف صرف مخصصات الأسرى وأُسر الشهداء.
المطلوب أميركيًا هو تجميل وجه الاحتلال وتكريسه، والإبقاء عليه وعلى مستوطناته، والسعي الحثيث إلى زيادة مظاهر التطبيع العربي، ومنح إسرائيل دورًا في الوضع الإقليمي ونزاعاته، وفي حماية الأنظمة التي بات بعضها على قناعةٍ بأنّ الحصول على شهادة حسن السلوك الأميركية يمر عبر البوابة الإسرائيلية، حتى صدمنا، بعد الزيارات واللقاءات من بعض الدول الخليجية مع القادة الصهاينة، أنّ سياسيًا سودانيًا يشغل منصب نائب رئيس الوزراء يتشدق بديمقراطية إسرائيل وشفافيتها، ويعزو ذلك إلى أنّ أصول اليهود المهاجرين إليها الأوروبية والأميركية هو سبب "تفوقها"؛ مع كل ما يعنيه ذلك من تجميلٍ لصورة الاستعمار وتصور عنصري لتفوق الجنس الأبيض، متناسيا دور إسرائيل في تقسيم السودان في محاولة مرذولة لرفع العقوبات الأميركية المفروضة على السودان عبر البوابة الإسرائيلية.
هل يمكن مواجهة ذلك؟ الإجابة اليقينية هي نعم، بالإمكان مواجهة صفقة القرن والتطبيع العربي مع إسرائيل، بإقامة أوسع تحالف شعبي عربي ودولي ضد الاحتلال الإسرائيلي ونظام الأبرتهايد والتمييز العنصري، هذا النظام الذي وصفه، أخيرا، تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) بأنّه لا يمكن الخلاص منه إلّا عبر تفكيك منظومته القانونية والدستورية والاجتماعية كاملة، واعتبره جريمةً ضد الإنسانية، لا يعاقب القانون الدولي مرتكبها فحسب، وإنّما كل من يتعامل وإياه أو يعترف به أو يطبع معه.
لنترك السلطة الفلسطينية تدور في دائرة وهم جديدة هي دائرة مفاوضات من أجل العودة إلى المفاوضات، فمن العبث التعويل عليها، ولعلّ الأجدى الشروع في تشكيل هذه الجبهة الشعبية العريضة، وتحذير الساعين إلى التطبيع، أو اللاهثين وراء صفقة القرن، بأنّ ما يقترفونه ليس سوى جريمة سيُعاقبون عليها إن لم يكن اليوم ففي الغد، والغد لناظره قريب.
وسوم: العدد 736