عقدة الأبدية عند السوريين
عندما أطلق حافظ الأسد شعار ( إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الأسد ) ، كنت في أول فتوتي ، ضحكت في داخلي ساخراً من ذلك الشعار بادئ الأمر ، قلت كم سيعيش ذلك المخلوق ؟ سنة ، عشرة ، خمسين لكنه سيموت في نهاية المطاف، فكيف سيحكمنا إلى الأبد ؟.
و بدأ النظام السوري عبر إعلامه و استخباراته و كل مؤسسات الدولة و النقابات المهنية بتكريس فكرة أن حافظ الأسد ليس مجرد إنساناً عادياً ، بل هو مخلوق استثنائي ، بحكمته و ذكائه و جماله و أدبه و و .
كل صباح يصلي السوريون في مدارسهم ،و في جامعاتهم ، وفي وظائفهم ،و في بيوتهم ،إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الأسد.
تفتح التلفاز فلا تجد صورة إلا صورة حافظ الأسد ،و لا تجد خبراً إلا عن حافظ الأسد ،و لا تجد معلومة علمية أو أدبية أو سياسية أو طبية أو أو أو إلا عن حافظ الأسد.
كل الجرائد و كل المجلات لا بد إلا و أن تكون إفتتاحيتها عن حافظ الأسد، و صورة الغلاف تزينها صورته لكي تبارك يوم السوريين.
لم يتوقف الموضوع عند هذا الحد ،بل تطور الموضوع الى مرحلة التقديس و رفع مكانة حافظ الاسد الى مرحلة الربوبية و الأولوهية.
حيث أنه إذا ذكر اسمه و لم تصفق بحرارة ، حتى لو كان الأمر بينك و بين زوجتك فتوقع في أي لحظة أن تأتي المخابرات و تذهب بك من سرير الزوجية إلى خارج حدود الشمس.
حتى أن المخابرات اعتقلت موظفاً بتهمة أنه صفق لإسم حافظ الاسد في إحدى الندوات ، لكن التصفيق لم يكن حماسياً بالمستوى الذي يليق بذلك الرب.
في المقابل كان سب و شتم الذات الإلهية على ألسنة الكثير من السوريين و خاصة رجال الجيش و المخابرات ، و في كثير من الأحيان يعتبر ذلك العمل شهادة وطنية ، فبقدر بعدك عن الله و قربك من حافظ الأسد تكون أكثر وطنية من غيرك.
كان السوريون يحاذرون أن يضعوا طعامهم على جريدة رسمية خشية أن تكون صورة حافظ الأسد أو اسمه موجودا تحت الطعام و بالتالي فأنت تستهزئ بذلك الإله و قد يكون مصيرك في ظلام أقبية الإستخبارات السرمدي و إلى الأبد أيضاً.
في ذات الوقت لا أحد يلقي لك بالاً لو مزقت أو أهنت أوراق المصحف و القرآن الكريم في أي موضع كان.
كانت تنتشر صور و تماثيل حافظ الأسد في كل زاوية و في كل شارع و في كل بيت و تحاط تلك الصور و تلك التماثيل بقدسية أصنام قريش في زمن الجاهلية لا بل أكثر من قدسية الله.
عندما يلقي حافظ الأسد خطاباً ، يبقى المحللون السياسيون و الأدباء و العلماء يحللون كل حرف و كل وقفة و كل همسة في ذلك الخطاب لأسابيع عديدة ، يستنبطون مدى الحكمة و العبقرية في تلك الشذرات، و من ثم تنزل الكلمة في مناهج الدراسة في العام التالي.
و عندما التقى حافظ الأسد بالرئيس الأمريكي كلينتون ، روج نظام الأسد بأن الصحف الأمريكية عنونت افتتاحيتها في ذلك اليوم تحت عنوان (رئيس كبير لدولة صغيرة يلتقي برئيس صغير لدولة كبيرة ).
و لكي يكرس نظام الأسد مفهوم الأبدية لشخص حافظ الأسد و نظامه و عدم فتح أعين السوريين على مفهوم التغيير قام حافظ الأسد بالمحافظة على حكومته و وزرائه و مدراء الدوائر و المؤسسات و انتهاء بمدراء المدارس على مناصبهم لسنوات طويلة.
و بما أن الأبدية لا يمكن أن يتصف بها مخلوق بحد ذاته تم تعميم ذلك على عائلة الأسد و هنا بدأت تظهر خفايا شعار (إلى الأبد إلى الأبد يا حافظ الاسد ) ، و مع تقدم السن بالرب المصطنع حافظ الأسد و اقتراب أجل الموت حسب سنة الحياة ، بدأ نقل ورثة الربوبية إلى الابن باسل كإبن يحمل صفات الرب الأب.. إلا أن الموت الذي لا يعرف أبدية إلا لخالق الحياة و الموت أطاح بحياة الابن قبل الأب ، لكن سرعان ما تم معالجة الأمر لكي يظهر الابن الأبله بشار وريثاً مناسباً لربوبية آل الأسد على سوريا.
و مع اندلاع الثورة السورية المباركة، أول ما تحطمت هالة الألوهية و انسحقت هامة القدسية التي تحيط بآل الأسد ، و أهين بشار الأسد و عائلته و نظامه بشكل لم يسبق له مثيل و ذلك نتيجة إحتقان دام عشرات السنين داخل صدر الشعب السوري لتلك الأشياء المنافية لطبيعة البشر.
و لقد تجلى ذلك الموقف بوضوح عندما قام المتظاهرون في مدينة حماة بتحطيم صنم حافظ الأسد و وضع حماراً مكانه.
عقدة الأبدية التي تعشش داخل السوريين أفسدت ثورتهم ، لم يعد لدى السوريين ثقة بأي أحد يحكمهم فكلما ظهر اسم أو قائد في الثورة ، كان السوريون يظنونه القائد الأبدي الجديد لسوريا ، فسرعان ما يسقطون شخصه على واقعهم و يرفضونه في عقلهم الباطن و من ثم يرفضون وجوده على الأرض ، و لأجل ذلك لم يفلح أحد في أن يقنع السوريين بأنه جدير بقيادة أي كتلة ثورية ، كل ذلك بسبب عقدة الأبدية لكلمة رئيس أو قائد.
من جانب آخر فإن كل من تولى منصباً أو مكاناً ثورياً ، ظن في نفسه أن من حقه أن يستمر بذلك الموقف لسنوات طويلة كأي مسؤول كان.
سلبية أخرى ظهرت لدى السوريين في ثورتهم نتيجة عقدة الأبدية ، أن بعض القيادات الثورية حاولت أن تمارس سلطة جائرة على الناس و ذلك نتيجة عهود ظلم أبدي يعشش داخلهم من حقبة آل الاسد .
لا يزال السوريون يعيشون كابوس الأبدية في دواخلهم سواء بوعي أو بدون وعي ، و هذا الكابوس لن ينزاح حتى ينزاح آل الأسد عن عرش السلطة في سوريا و يمر على ذلك فترة من الزمن.
وسوم: العدد 737