شيوع عقلية الاستخفاف بالسلوكات السوية والإيجابية لدى الناشئة المتعلمة بالمؤسسات التربوية عندنا
يتبادل الناس في مجتمعنا المغربي وهو كباقي المجتمعات العربية عبر وسائل التواصل الاجتماعي الصور والفيديوهات التي تنقل أنواعا من السلوكات السوية والإيجابية في المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الأسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية ومجتمعات أخرى ، ويشيدون بها ويستشهدون بها على تخلفنا ويجعلونها حجة علينا لكنهم في الواقع تحكمهم عقلية الاستخفاف بمثل تلك السلوكات حين تمارس في مجتمعنا ،ويتعرض الذين يمارسونها للسخرية والاستهزاء، ويتندر بهم . وهذا سلوك غريب لما ينطوي عليه من تناقض صارخ إذ كيف يشيد هؤلاء بتلك السلوكات عند غيرنا، ويستخفون بها عندما تمارس عندنا ؟ ولا شك أن سيادة وطغيان السلوكات المنحرفة والسلبية عندنا هي التي تحمل هؤلاء على استغراب وجود السلوكات السوية والإيجابية في مجتمعاتنا .
ومن تلك السلوكات السوية والإيجابية التي يعجب الناس عندنا بها حين تمارس عند غيرنا ، ويستخفون بها حين تمارس عندنا على سبيل المثال لا الحصر تحية العلم وإنشاد النشيد الوطني في المؤسسات التربوية . من المعلوم أن التوجيهات التربوية الرسمية عندنا في المغرب تنص على واجب تحية العلم وإنشاد النشيد الوطني بالمؤسسات التربوية بداية ونهاية الأسبوع الدراسي . والملاحظ في مؤسستنا التربوية أن هذا الواجب لا يؤدى كما يجب ولا يتحقق بالجدية المطلوبة ، ذلك أنه كلما تقدمت الناشئة التربوية في العمر إلا وفقد هذا السلوك الوطني جديته ، فالأطفال في مراحل التعليم الأولي والابتدائي يحيون العلم وينشدون النشيد الوطني بصدق وبراءة لكنهم مع تقدمهم في السن في المرحلتين الإعدادية والتأهيلية لا يخفي معظمهم استخفافهم بواجب تحية العلم وبالنشيد الوطني وذلك بطريقة وقوفهم أمام العلم وبطريقة أدائهم للنشيد الوطني بسخرية واستهزاء . ولقد عاينت شخصيا حين كنت أشتغل كمفتش تربوي مثل هذا السلوك عندما يصادف وجودي إجراء تحية العلم في بعض المؤسسات التربوية الإعدادية أوالتأهيلية ، وكنت أسجل استنكاري الشديد لمثل هذا السلوك لدى رؤساء المؤسسات الذين كانوا بدورهم يعبرون عن استيائهم منه دون أن يجدوا وسيلة فعالة لتغييره . ولا يبلغ أداء واجب تحية العلم في المؤسسات التربوية حتى مستوى أدائه في ملاعب كرة القدم حيث يغلب على هذا الأداء شيء من الحماس مرده دون شك منافسة تفرضها لعبة الكرة والتي تجعل تحية أعلام الفرق الكروية المنافسة وعزف نشيدها الوطني أمرا تقتضيه تلك المنافسة .أما حين يحيى العلم وينشد النشيد الوطني في المؤسسات التربوية دون وجود تحية علم منافس ،فلا حماس ولا جدية في التحية بل استخفاف واستهزاء . ولا يخجل البعض من تبادل صور وفيديوهات فيها مقارنة بين تحية العلم عندنا وتحية العلم عند غيرنا وهم يضعون أيديهم على صدورهم وتدمع عيونهم خشوعا ، ويكون القصد من هذه المقارنة الإشادة بالغير والتعريض بالذات . وما أكثر تلك المقارنات في شتى المجالات التي يكون الهدف منها السخرية والتعريض بما عندنا مقابل الإشادة بما عند غيرنا، وهو سلوك يبعث على الأسف الشديد لأنه يعكس نوعا من الوعي السلبي الناتج عن فقدان الثقة بالذات واليأس من بلوغ شأو الغير . وقد يوظف بعض المحسوبين على فن الفكاهة من المهرجين هذه المقارنة لإضحاك الجمهور من خلال السخرية بالذات مقابل الإشادة بالغير فيضحك هذا الجمهور ملء الأشداق، ويصفق بحرارة وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنه لا يتعرض للإهانة من طرف أولئك المهرجين بل يستعذب الإهانة الصادرة عنهم وهم يرتزقون بكرامته، ولا يجدون حرجا في ذلك ، ويتظاهرون كاذبين بأنهم يمارسون النقد الاجتماعي الهادف، والحقيقة أن جمهورهم يستغرق في الضحك دون أن يشعر بوخز ضمير أو خجل، فالكل يسخر من سلوك ما وواقع الحال أن الجميع يمارسه ولا ندري عمن يضحكون ؟ وهم الضاحكون والمضحوك منهم في نفس الوقت ، وبهذا يبلغ الشعور باليأس من الذات ذروته ويبلغ أقصى درجة تتعذر معها إمكانية استرجاع الثقة بالنفس، علما بأن بلوغ مبلغ أو شأو الغير ليس بالأمر المستحيل .
وعلى غرار الاستخفاف بتحية العلم والنشيد الوطني، نجد الناشئة المتعلمة عندنا تستخف بالوقوف احتراما لمن يدخل عليها الفصول الدراسية ، فكم من مرة نبهت تلك الناشئة حين كنت أطوف بالفصول الدراسية لمراقبة سير الدراسة بها إلى هذا الاستخفاف حيث يتراخى المتعلمون في أداء هذه التحية التي تعتبر سلوكا تربويا عاديا داخل المؤسسات التربوية يعكس سلوك وتربية المتعلمين بل يعتبرون ذلك إهانة، فيقفون حين يؤمرون بالوقوف ساخرين مستهزئين ، وكنت أسألهم عن دلالة ذلك الوقوف فيجيبون بأنه يدل على الاحترام ، وكنت أرد عليهم بالقول بل يدل على أن تربية الواقف احتراما للغير تعكس سمو تربيته ولا تعني بالضرورة استحقاق هذا الغير للاحترام عسى أن يبعث ذلك فيهم الوازع الأخلاقي .
وعلى غرار الاستخفاف بتحية العلم والنشيد الوطني والوقوف للزائر تستخف الناشئة المتعلمة عندنا بالزي المدرسي أيضا والذي يعتبر من مقتضيات التمدرس والذي يميزها ويضفي عليها وقارا . وإذا كانت الإناث تقبل على ارتداء الزي المدرسي عن مضض والذي لا يزيد عندنا عن وزرة بينما يكون زيا كاملا في مجتمعات أخرى ، فإن الذكور يرفضون ارتداء الوزرة ويعتبرونها إهانة ومساسا بذكورتهم . وبالرغم من أن وزير التربية عندنا وهو حديث عهد بهذه المسؤولية ألح على ارتداء المتعلمين إناثا وذكورا الوزرة ،فإن الواقع عكس ما أراد الوزير خصوصا بالنسبة للذكور دون أن تتخذ الإجراءات الملزمة لهم بالانصياع لقرار الوزارة .
وعلى غرار الاستخفاف بما تقدم تستخف الناشئة المتعلمة أيضا بحسن السيرة والسلوك وبالجد والاجتهاد حيث يتندر بأصحاب السيرة الحسنة والمخلقين ويسخر بالمجدين والمجتهدين ،بينما يعتبر أصحاب السلوك السيء والمتهاونين في الدراسة أبطالا، ويستطيعون التأثير في غيرهم بينما لا يوجد أدنى تأثير للمخلقين والمجدين ذلك لأن الجو العام السائد في المؤسسات التربوية هو جو العبث والتهاون والتراخي حيث لا تخلو لحظة من لحظات الدراسة من العبث ومن الاستهتار بالقيم وبالواجبات، وهو ما يحير المربين ويستغرق منهم يوميا وقتا معتبرا من حصص التعليم للنهي عن هذا العبث وإدانته ، وهو ما يجعلهم موضوع تندر أيضا لدى المتعلمين الذين لم يعودوا يعرفون معنى للجدية المفروضة والمطلوبة في التمدرس .
وعلى غرار الاستخفاف بحسن السلوك والجد والاجتهاد تستخف الناشئة المتعلمة من أداء الواجبات والفروض والاختبارات والامتحانات حيث يمتد العبث الذي يسود الحصص الدراسية إلى حصص أداء الفروض والاختبارات والامتحانات ويستهزأ بالمتعلمين المجدين، بينما يعتبر العابثون أبطالا ، ويتفننون في أنواع الغش، ويبتكرون ويبدعون في ذلك خصوصا مع توفر الهواتف الخلوية التي حلت كوسائل غش محل الوسائل التقليدية ،الشيء الذي خلق مشكلة بل معضلة للوزارة التي عجزت عن وضع حد لظاهرة الغش المستفحلة بشكل غير مسبوق.
وعلى غرار عبث وتهاون وسوء سلوك الناشئة المتعلمة داخل المؤسسات التربوية يستمر منها ذلك خارج أسوار تلك المؤسسات، فلا يسمع منها إلا الكلام النابي فيما بينها ، وهي تعرّض بالسابلة ، وتسخر منها وتتندر بها في الأماكن العمومية وعلى متن وسائل النقل العمومي، ولا توقر كبيرا ولا صغيرا ، وقد صار تحرش الذكور بالإناث سلوكا منتشرا بشكل غير مسبوق ، ويعتبر بطولة محمودة بالنسبة لهم . ومن الغريب أن يصدر عن بعض الإناث مسايرة منهن ومطاوعة لهذا التحرش إلى درجة فقدانه دلالته المعروفة إذ لا بد من لفظ آخر يعوض لفظ التحرش حين يصدر من أنثى تجاه ذكر. وتجلب هذه السلوكات المنحرفة للآباء والمدرسين النقد واللعنة أيضا حيث تلعن السابلة هؤلاء كما سمعت من الناشئة المتعلمة كلاما نابيا أو عاينت سلوكا منحرفا صادرا عنهم، وقد صارت عبارة : " الله يلعن اللي ربّاكم " متداولة يوميا عندنا في الأماكن العمومية ،وهي تعكس مدى الانحدار الخلقي للناشئة المتعلمة ، وتفضح فشل الأسر والمؤسسات التربوية في تربية تلك الناشئة .
و لا أريد الخوض في موضوع الحال التي تصير عليها تلك الناشئة عندما تنتقل إلى مؤسسات التعليم العالي حيث تنتقل معها سلوكاتها المنحرفة ، وتزداد انحرافا حيث لا توجد رقابة في تلك المؤسسات كالتي توجد في المؤسسات التربوية الابتدائية والثانوية ، وإن كانت الرقابة في هذه الأخيرة لا تسمن ولا تغني من جوع كما يقال، وهي رقابة فاشلة كما يشهد على ذلك الواقع المزري . ففي المؤسسات الجامعية يتنصل الطلبة من كل القيم الدينية والخلقية والوطنية، ويتصرفون وكأنهم في محيط لا يحكمه ضابط أو قانون ، وفي هذا المحيط تستباح كل القيم ، وتستباح الأعراض أيضا ، وتفوق حصص التظاهرات والإضرابات والتجمعات حصص الدرس والتحصيل مما حول المؤسسات الجامعية إلى أماكن لتزجية الوقت بل لقتله ، وينعكس ذلك سلبا على الشواهد التي تسلمها تلك المؤسسات مع شديد الأسف والحسرة .
ومقابل هذه الحال المزرية والتي يؤسف لها أشد الأسف و يتحسر لها أشد الحسرة نجد الناشئة المتعلمة تتبادل فيما بينها عبر وسائل التواصل الاجتماعي الصور والفيديوهات المشيدة بالناشئة مثلها في مجتمعات أخرى متحضرة دون أن تخجل من نفسها ومن تخلفها بل تتندر به وكأن الأمر لا يعنيها، وعليها تنطبق العبارة العامية المشهورة عندنا " الله يلعن اللي ما يحشم أو اللي ما فيه حياء " .
فمتى سننتقل من طور التباكي على حالنا المزرية ونقدها إلى القطيعة معها لنبلغ شأو غيرنا الذي نشيد به مقابل التعريض بأنفسنا لنجعل من ذلك صك غفران يعفينا من المسؤولية عما نحن فيه من تخلف ؟
وسوم: العدد 739