فَساد الفرد يؤذي .. وفَساد الرمز يدمّر!
*) الفرد العادي ، قد يرتكب معصية ، أو خطيئة ، أو جريمة ، يؤذي بها نفسه ، وبعضَ مَن حولَه ، مِن أهل ، أو جيران ، أو أقارب ، أو أصدقاء، أو غرباء ..في المجتمع الذي يعيش فيه. وجرائم الأفراد العاديين معروفة، محصورة في أنماط معيّنة من السلوك ، وفقَ التصنيفات القانونية والاجتماعية . فهي لا تعدو كونَها جريمةَ : سرقة ، أو قتل ، أو اغتصاب ، أو تزوير، أو تهريب , أو انتحال شخصية ، أو اقتناء سلاح بلا رخصة ، أو مخالفات مرورية ، أو نحو ذلك .. ممّا صنّفه رجال القانون في قائمة الجرائم..! وقد تكون جريمةَ زِنى ، أو ميسِر، أو سكر ( في المجتمعات التي تعدّ هذه الأفعال جرائم!). وقد يرتكب الفرد الواحد ، جريمتين أو أكثر، في وقت واحد ، أو أوقات متقاربة ، أو متباعدة. وقد صنّف رجال القانون ، الجرائمَ الفردية ، ثلاثةَ أصناف، هي : الجنايات ، والجنَح، والمخالفات .. ووضعوا لكل صنف منها ، ما يناسبه من العقوبات ، المخفّفة والمشدّدة، حسب نوع الجريمة ، وظروفها ، وطبيعة مرتكبها . وتظلّ جرائم الفرد ، مهما كثرت وتنوّعت ، واشتدّ خطرها وضررها، محصورةً في إطار معيّن ، لا تكاد تجاوزه ، حتى لو قتَل الفرد مئة نفس ، أو مئتين ، أو ألفاً، وحتى لو سرق مئات الملايين ، من أموال الناس..!
*) أمّا جريمة الرمز ، سواء أكان رمزاً سياسياً ، أم دينياً ، أم ثقافياً ، أم اجتماعياً.. (إذا كانت في الإطار الذي يَبني عليه رمزيتَه ، ويَستمدّ منه قيمة هذه الرمزية) فهي كارثة حقيقية ، على الشعب والوطن ، والأجيال القادمة! ذلك أن هذه الرموز، وضِعت في مواقع القيادة والرعاية للأمّة ، فما تَنتظر هذه الأمّة ، مِن قادتها ورعاتها ، إلاّ النفع والخير والصلاح ! فإن بادَروها بالغشّ والفساد والإفساد ، كانوا سبب ضياعها ودمارها ، وكانت أوزارهم أثقل من أوزار الآخرين ، من أفراد الأمّة .
والأمثلة الحيّة ، من جرائم الرموز، التي نراها أمامنا كل يوم ، صباحَ مساءَ، أكثر من أن تحصى !
1) السياسي الدجّال ، الذي يتاجر بالشعارات ، ويضلّل الأمّة ، ويقودها من إخفاق إلى ضعف ، إلى هزيمة ، إلى مصيبة ، إلى نكبة .. فيدمّر وطناً ويهلك شعباً.. هذا السياسي بأيّ مقياس يقاس ، بين أصناف المجرمين، وبأيّ ميزان توزن جرائمه ، بين الجرائم !؟ أيّ قاتل محترف ، أو لصّ خطير، أو مزوّر متمرّس ، أو مغتصِب دنيء .. يَرقى ، إلى مستوى إجرام هذا السياسي الخبيث !؟ وأيّة مومِس ، أو بَغيّ ، تصل في سلوكها الإجرامي الرخيص ، إلى مستوى هذا السياسي!؟
2) الرجل المعمّم ، الذي َيثقَف شيئاً من علوم الدين ، ويتزيّى بزيّ عالم الدين، ثم يبيع دينَه ، بعرَض مِن الدنيا يسير، أو يبيع دينه بدنيا غيرِه ، فيفتي للحاكم ، بما يمليه عليه الحاكم ، مِن فتاوى تضلّل الناس ، وتزيّف عليهم أمورَ دينهم ودنياهم .. ويَخطب على المنابر، في بيوت الله ، مزيّناً سلوك الحاكم الظالم الفاسد ، ومقدّماً له شهادات البراءة ، والطهارة ، والنقاء، والعبقرية ، والتقى ، والصلاح .. ليلتفّ الناس حول هذا الحاكم ، ويسبّحوا بحمده ،وهو أكذبُ مِن مسيلمةَ المتنبّئ الدجّال ، وأخبث من شيطان رجيم ! عالِم الدين الدجّال الرخيص هذا، بأيّ ميزان يوزَن ، مِن موازين المجرمين المحترفين !؟ وأيّ سمسارِ أعراضٍ نذل ، يصل أذاه ، إلى عشْرِ مِعشار الأذى ، الذي يلحِقه هذا المعمّم الأفاك، بشعبه ووطنه ، وأجيال أمّته اللاحقة !؟ وأيّة فاجرة ، مِن بغايا الدنيا كلها ،على امتداد الزمان والمكان ، يمكن أن تؤذي أمّة ، أو شعباً ، أو وطناً ، بعُشْر ما يسبّبه هذا المجرم ، للناس والأوطان ، باسم الدين ..!؟
3) المفكّر المثقّف ، الذي يضع النظريات الضالّة المضلّة ، التي يزيّف بها وعيَ الناس ، ويخدع عقولهم ، ويصوّر لهم زيفَ الحاكم الفاسد المجرم، هدىً وصلاحاً ، وعبقرية ، وإخلاصاً ووطنية فوق مستوى الشبهات ..! وهو يعلم أن الحاكم لصّ محترف ، خائن لشعبه ووطنه ، يبيع البلاد ومَن عليها ، وما عليها ، بيوم واحد يجلس فيه على كرسي الحكم ، أو بحفنة من الدولارات ، يودعها في البنوك الأجنبية ، أو يصرفها على بعض الليالي الحمراء ، في أوكار الرذيلة ..! هذا المفكّر المثقّف ( الكاتب، أو الأديب ، أو الإعلامي ) أين يوضَع في سِجلّ المجرمين المحترفين: اللصوص ، ومهرّبي المخدرات ، والبغايا ، وتجّار الأجساد الرخيصة ، والقتلة ، والمزوّرين ..!؟ ولو جمِعت جرائمهم كلها، فإنها لا تَعدل سطراً واحداً ، في سجلّ إجرامه الأسود الدنيء !
ونكتفي بهذه النماذج ، في هذا المجال ، فهي تدلّ على النماذج الأخرى، الواقعة في سياقها ، وتغني عنها !
*) المجرم العادي ، تنقطع جرائمه بموته . وإن بقيتْ لها تداعيات معيّنة ، فهي محدودة ، ولا تلبث أن تتضاءل مع الزمن ، وتضمحلّ ، وتتلاشى ..! أمّا المجرم الرمز، الذي يرتكب جرائمه بحقّ وطنه وشعبه وأمّته ، فإن جرائمه لا تنتهي بموته ، لأنها مدوّنة في عقول الناس وقلوبهم ، فساداً وضلالاً ، يورثها الآباء للأبناء ، ويعلّمها المربّون والمعلمون ، لِمن يتولّون تربيتهم وتعليمهم . وهي محفوظة في كتب وصحف وأشرطة ، تؤتي أكلَها الفاسد في كل حين ، وتداعياتُها الفتّاكة المدمّرة لا حصرَ لها..! وإذا لقوا ربّهم ، حاسَبهم على ضلالهم ، وضلال مَن يضِلونهم من الخلق ، على مرّ السنين . قال رسول الله (ص) : (مَن سَنّ سنّة حسنة ، فله أجرها وأجر مَن عَمل بها ، إلى يوم القيامة . ومَن سَنّ سنّة سيّئة ، فعليه وزرها ، ووزر مَن عَمل بها ، إلى يوم القيامة) .
*) وغنيّ عن البيان ، أن الجريمة التي يرتكبها الرمز ، بصفته فرداً عادياً ، لا صلة لها برمزيته ، أو موقع التوجيه ، أو الرأي ، أو القرار، الذي هو فيه .. أن هذه الجريمة ، لا تخرج عن كونها جريمة عادية ، يحاسَب عليها كما يحاسَب سائر المجرمين ! وإن كانت الجرائم العادية ، ممّن كان في موقع القدوة ، تؤثّر سلباً في نفوس الناس ، وتقلّل مِن ثقتهم بالقدوة، وبالأفكار والمبادئ التي يحملها !
*) ومعلوم ، كذلك ، أن الضرر الذي تسبّبه جريمة الرمز ، يزداد شدّة وخطراً، كلما ارتفع مقامه ، وعلا منصبه ، واتّسعت دائرة شهرته بين الناس..! فجريمة رئيس الدولة ، أعظم خطراً، وأشدّ ضرراً، من جريمة أحد وزرائه.. وجريمة الوزير ، أخطر من جريمة موظّف في وزارته ! وكذلك الأمر، فيما يخصّ الرموز المحسوبة على الدين ؛ فجريمة المفتي العامّ في البلاد ، أشدّ وأخطر تأثيراً وضرراً ، من جريمة عالِم صغير، في مدينة أو قرية ..! وبين الأعلى والأدنى درجات ، يحمل صاحب كل درجة منها ، من الوزر ، ما يناسب درجته. والأمر ذاته ، ينسحب على العاملين في مجال الثقافة والأدب، والتفكير والتنظير ، والإعلام ، وصناعةِ الكلام عامّة .. وتسويقِه بين الناس ، ليسهِم في توجيه عقولهم ، ومواقفهم، وتصرفاتهم..!
ولقد رويَ عن رسول الله (ص) ، أنه قال: ( ربَّ كلمة يلقي بها الرجل لا يلقي لها بالاً ، يهوي بها في جهنّم سبعين خريفاً !). أمّا إذا قال الكلمة ذاتَها، وأخبثَ منها ، عامداً متعمّداً ، ليضلّ بها الناس ، لقاءَ منصب ، أو مال ، أو جاه ، أو شهرة ، أو رضىً مِن سيّده الحاكم ومَن في فَلكه .. فإن ثِقل وزره ، عند الله ، ممّا لا يحتاج إلى بيان ، قياساً إلى الكلمة العابرة التي لا يلقَى لها بال . كما أن حقّ الناس عنده في الدنيا ، ممّا يَصعب التسامح به ، أو العفو عنه ..! (ولكلّ أجلٍ كِتاب).
وسوم: العدد 739