حريم الطاووس
هشام النخلي
صورت رواية مسلسل "حريم السلطان"، للكاتبة ميرال أوكاي - التي توفيت بالسرطان-السلطان سليمان القانوني بأنه محارب و أمير المجاهدين في الظاهر، لكنه داخل دهاليز قصوره لا يتعدى أن يكون عربيدا يلتذ شرب الخمر،و يغازل زوجاته حيث قلائد الماس تبرق حول أعناقهن الزرافية كسبائك الذهب الخالص،و التيجان المرصعة بالياقوت و الزبرجد فوق هاماتهن،و يعاشر الجواري من روميات،و فارسيات،و مجريات،و إفرنجيات ،وشركسيات ،و غجريات... الحابسات لخصلاتهن السنبلية داخل قلنسوات مطرزة بخيوط الذهب- المعانقات للعود كمعانقة الأمهات لرضعهن، والمعالجات لأوتار العود بأناملهن البيضاء المعجونة من لوز و قمر، و الضاربات للدف بباطن أكفهن الدسمة المشتعلة حمرة و بياضا- يستبدلهن كما لو يستبدل خواتم أصابعه،ويتنقل بينهن كطاووس، لا شغل له سوى دخول غرف الحرملك الفخمة الكثيرة النقوش، والمرصعة الحيطان بالفسيفساء الأصيلة، والمؤثثة بالأرابيسك الفاخرو ريش النعام و الشمعدانات الذهبية و الفضية الضخمة المترامية في كل الزوايا،والبلاط المفروش بالسجاد السندبادي، و المرايا المحبوسة في إطارات الذهب، حيث الأميرات يلبسن أجمل الثياب ، فتارة يظهرن باللباس الأحمر ككرزات ناضجات،و تارة بالأخضر كباقة حبق ،و بالأزرق كسماء صيفية .و يهيم السلطان بالشهوات الشبقية للصبيات الجميلات المكحولات العيون، الطويلات القامة كعيدان الصندل أو قضبان الخيزران ،يبتسم الخوخ فوق وجناتهن، و يتقاطر ماء الورد من عيونهن الواسعة، ويلمع الرخام على جباههن، يتقافزن كغزالات أمامه في حدائق قصوره ،و الأساور ترتج برصوغهن، و تتطاير نظرات العيون الزرقاء و الخضراء و البنية إلى قلبه مثل عصافير الحسون ،يرتشف منها كوثر الرمان و لب الإجاص ،ويعشق سماع رنين القهقهات المشمشية والوشوشات الهامسة لسلطانة قلبه هيام ، فتستقر في أذنيه كفراشات مزركشة ، و ينظر إلى الجمر المتقد من شفتيها القرمزيتين وهما تذيبان قضمة البقلاوة المعسلة باللوز المجروش، يتأمل يديها الجبنيتين و هي تناول البندق و الفستق نحو منقار ببغاء شغفه، و يهيم العاشق الولهان سليمان بالنظر عميقا إلى العيون المغموسة في العسل و موج البحر و اللبلاب ، ،ويسهو أمام فواكه الوقواق المطلة عليه من فتحات قمصان صدورالحرملك المطعمة بحرير الساتان، فيسكر عطرهن الفواح أنوف الأغاوات و الحراس و الحاشية،وينطلق قوس القزح من كل المشربيات، و ينصت السلطان للنميمات المعسولة و الوشايات المنمقة، ويقرر على ضوئها: جز رقاب التماثيل، و قطع أوتار كمان رفيقه الإفرنجي ، وإصدار الفرامانات... هكذا صورت الدراما التركية السلطان سليمان القانوني ،بتوابلها الإخراجية السحرية و أحلامها المخملية المعجونة بالدمقس والديباج ، ورصدته عدسات الكاميرات التي فاقت كل الخيالات،صورته رجلا اسفنجيا و زجاجيا و رخو القلب ، حولته جاسوسة صفوية برقصها الفنتازي المغناج و كلماتها العذبة المرشوشة بالسمسم و ماء الورد، من طود شامخ إلى قشرة موز ناعمة...
جل المشاهدين صفقوا عن جهل للافتراءات المقصودة و الأكاذيب الضالة ،على أنها الواقع ، ولم يفطنوا لتلاعب كاتبة السيناريو و المخرج بمعطيات التاريخ ،ضد رجل دولة قدم الكثير للأمة، وبهتت نساء الدنيا بهسهسة فرو الأميرات،و بألوان فساتين الحرملك السلطاني، من أصفر مستردي ، و أحمر قرمزي،وأخضر ليموني،و أزرق لازوردي...
يظهر من خلال المسلسل أن أوكاي حولت سيرة السلطان سليمان إلى شذرات و ومضات سردية انحرفت عن سياق الحقائق التاريخية ، ويمكنك تلمس سيطرتها على خواطر الشخصيات ،و هيمنتها من البداية إلى النهاية على أفكارهم و أحاسيسهم ،و أنها تمتلك الرواية و تتحكم فيها ،و لم تترك الشخصيات تقول الحقيقة ،ويظهر وجود الكاتبة أيضا من خلال تدخلاتها الفاضحة في حوارات مرتكزة على الوهم السرابي و الخيال الضبابي ،جاعلة من الشخصيات ظلالا و أصداءا لأفكارها الحاقدة على السلطان وعلى حريمه،و كشفت عن العلاقات الخفية بينه و بين زوجاته و جواريه و خدمه و حاشيته و آخرين، ورصدت حركة أذهانهم ولا شعورهم و الحالات النفسية الداخلية التي لا يعلمها إلا الله ،لتخلق التشويق الروائي و المتعة الفنية و الجاذبية السردية،و تتحدث الكاتبة في كل مرة على لسان الشخصيات،معتقدة أنها قدمت رواية فنية موضوعية،هدفت من خلالها تحقيق التأثير على الوعي و الإقناع الأدبي ،لكنها في الواقع هندست نصا روائيا يلبي رغبة المنتجين التجاريين ،و نجحت فعلا في إبهار المشاهد -الجاهل لتقنيات و أساليب العمل الروائي – بالصور الخادعة على أنها الحقيقة، نقلت كما هي على شاشات الفضائيات.
و الحقيقة أن التاريخ فند هاته الأكاذيب و جزم بأن السلطان سليمان كان أكثر السلاطين رهبة و هيبة و حزما ،تولى الخلافة و هو ابن الستة و العشرين ربيعا، كان طويل القامة،حسن الوجه ، والده السلطان سليم الأول هو أول خليفة مسلم لقب بخادم الحرمين الشريفين،بعدما تنازل له آخر خليفة عباسي في القاهرة عن الخلافة،و أرسل له مفاتيح الحرمين. قضى ثلاثين سنة و لم يترك حصانا حتى ركب آخر،كان فارسا مغوارا و بطلا كرارا،و لمع سيفه العريض الصمصام في يده كثيرا تحث شمس المعارك، رافعا سارية بيرق مرسوم بداخله نسر الرسول الحبيب، تبوأت تركيا في عهده لقب سيدة العالم،و جعل من الدولة العثمانية دولة عظمة و مجد و رفعة،في عصره وضعت العديد من القوانين الإدارية أهمها قانون الدولة العثمانية المسمى "دستور السلطان سليمان"، الذي استمد من الشريعة الإسلامية باجتهاد من العلماء الربانيين وعلى رأسهم قاضي اسطنبول أبو السعود أفندي صاحب كتاب"إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" ،و جعل منصب الإفتاء أرفع درجة وفاعلية في تنظيم القضاء، بعد منصب الخلافة،و سمي القانوني لأنه أناط بنفسه تطبيق القوانين الموضوعة من طرف المشرعين. ازدهرت الفنون و الآداب و الهندسة العمرانية الشاهدة على منجزاته إلى يومنا هذا.
أما منجزاته العسكرية، فشهد بها أعداؤه اللدودين ،تم في عهده وقف تمرد حاكم الشام الغزالي،وقضى على الدولة الصفوية في بلاد فارس،و ضم الجزائر و طرابلس الغرب، و أقام أسطولا بحريا ضخما بقيادة خير الدين بربروس و أخوه عروج ،وحرر تونس من قبضة السلطان حسن الحفصي ،و أوقف زحف البرتغاليين نحو مراكز إستراتيجية بمنطقة شبه الجزيرة العربية،و أمر بتجهيز أسطول بحري هائل للذهاب لمواجهة البرتغاليين الطامحين لنبش قبر الرسول صلى الله عليه و سلم،و ضم العديد من العواصم الخليجية قاطعا الطريق أمام توغلهم،و فتح جزيرة رودس،و سمى كلا من القرم و الأفلاق ولايات عثمانية،و فتح مدينة بلغراد و المجر،و حاصر فيينا ،لكنه انسحب مضطرا بعد نفاذ الذخيرة و حلول فصل الشتاء القارس.
العديد من الروايات رمت زوجته خرم(هيام)- الذي يعني باللغة التركية الباسمة - بأنها أفعى سامة مجلجلة وساحرة شريرة، دبرت المكائد و الدسائس للتخلص من رفيق صغره و وزيره الأعظم إبراهيم باشا، و ولي عهده الأمير مصطفى ، لكن الروايات التاريخية أكدت أنها امرأة فاضلة تقاطرت يديها جودا و كرما على الرعية المستضعفة،فقامت بأوقاف و أعمال خيرية،و بنت المساجد و المستشفيات في تركيا و فلسطين و الحجاز،و وفرت الكتب و المصاحف التي لا زالت أوقافا لطلبة العلم،و يحكى أيضا أن لها الفضل في إكمال عيون الماء التي قامت بها السيدة زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد إلى مكة المكرمة،و أن ما قيل في حقها هو محض افتراء و بهتان.
توفي السلطان سليمان عن سن أربع و سبعين سنة و الحرب على أشدها بأحد قلاع سيكتوار المجرية ،أصاب أحد المدافع خزانة البارود في الحصن فكان انفجارا ضخما أطار جلاميد صخور الحصن،و ارتفع الدخان إلى عنان السماء،و ضربت طبول الحماس البطولي،و اندفع الجنود العثمانيين و هجموا فوق الأسوار ،و فتحت القلعة، و رفعت الراية السليمانية،و أعلم السلطان سليمان بالنصر و هو في سكرات الموت فقال: الآن طاب الموت.وتوفي وطارت روحه خضراء متلألئة عطرة، امتدحتها كل الأرواح الطيبة، نحو برزخها ،إلى مصاف الشهداء و الصديقين.
أثناء تشييع جثمانه، أوصى بوضع صندوق معه في القبر ... تحير العلماء وظنوا أنه مليء بالمال فلم يجيزوا دفنه معه وقرروا فتحه ... أخذتهم دهشة عظيمة عندما رأوا أن الصندوق ممتلئ بفتواهم ... فراح الشيخ أبو السعود يبكي قائلا : "لقد أنقذت نفسك يا سليمان ، فأي سماء تظلنا ،وأي أرض تقلنا إن كنا مخطئين في فتاوينا ؟!"
بعد سقوط الدولة العثمانية في سنة 1923 ، تقدمت فتاة اسمها "كريمان خالص" ممثلة لتركيا العلمانية في مسابقة لاختيار ملكة جمال أوربا في أنقرة ، لابسة البيكيني،عارضة فخديها و حمالتي صدرها و هي مفتخرة بذلك ،فقال رئيس لجنة تحكيم المسابقة و هو يمتدحها: " ... إن هذه الفتاة هي تاج انتصارنا، ذات يوم من أيام التاريخ انزعج السلطان العثماني "سليمان القانوني" من فن الرقص الذي ظهر في فرنسا، عندما جاورت الدولة العثمانية حدود فرنسا، فتدخل لإيقافه خشية أن يسري في بلاده، ها هي حفيدة السلطان المسلم، تقف بيننا، ولا ترتدي غير "المايوه"...
بعد هذا السقوط و الانهيار، تفتت العالم العربي إلى فسيفساء من دول متنافرة ،بلا حيلة و لا قوة ، إثر اتفاقية سايكس بيكو التي فرضها المنتصرون، حولت دولة الخلافة القوية المترامية الأطراف ، إلى دول قومية قزمة متمزقة ...، و بعد حلول الربيع العربي ، تفتتت الدول -التي اجتاحتها الثورات - و تشردمت إلى أقليات و طوائف متطاحنة فيما بينها،ليسود التطرف الأعمى، و الفوضى الهدامة، و التخلف المفتعل ، و التبعية لصناع القرار الأشباح، و الانحطاط على جميع الأصعدة...
كخلاصة لا بد منها، و إنصافا للرجل المفترى عليه، و ردا على الأقواس الخبيثة التي رمته بسهام التزييف و التحريف و الحقد ، لابد من الوقوف إجلالا أمام هذا السلطان العملاق المصدام، الذي لم يكن طاووسا للحريم ،بل كان نسرا شامخا صنع أمجاد الأمة، وأسدا هصورا أمضى معظم حياته على ظهر خيول المعارك، معانقا سيفه مع سيوف أعداء الملة و الدين،كان عندما يزأر في اسطنبول،يتزلزل الكرسي الرسولي الكنسي بروما،و يخدش بمخالبه من وقت لآخر جدران حصون شرلكان.
إن الرسالة التالية الموجهة إلى ملك فرنسا فرانسوا الأول تظهر شموخه و عزته وشدة بأسه:
- "الله - العلي - المعطي - المغني - المعين -
بعناية حضرة عزة الله جّلت قدرته وعلت كلمته ، وبمعجزات سيد زمرة الأنبياء ، وقدوة فرقة الأصفياء محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم الكثيرة البركات ، وبمؤازرة قدس أرواح حماية الأربعة أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وجميع أولياء الله .
أنا سلطان السلاطين وبرهان الخواقين ، أنا متوج الملوك ظلّ الله في الأرضين ، أنا سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر والأناضول والروملي وقرمان الروم ، وولاية ذي القدرية ، وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام ومصر ومكة والمدينة والقدس وجميع ديار العرب والعجم وبلاد المجر والقيصر وبلاد أخرى كثيرة افتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر ولله الحمد والله أكبر .
أنا السلطان سليمان بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد .
إلى فرنسيس ملك ولاية فرنسا .
وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه مع تابعكم فرانقبان ، وأعلمنا أن عدوكم أستولى على بلادكم ، وأنكم الآن محبوسون ، وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم ،وكل ما قلتموه عرض على أعتاب سرير سدتنا الملوكانية ، وأحاط به علمي الشريف على وجه التفصيل ،فصار بتمامه معلوما . فلا عجب من حبس الملوك وضيقهم ، فكن منشرح الصدر ، و لا تكن مشغول الخاطر .
فإننا فاتحون البلاد الصعبة والقلاع المحصنة وهازمون أعدائنا ، وإن خيولنا ليلا ونهارا مسروجة ، وسيوفنا مسلولة ، فالحقّ سبحانه وتعالى ييسر الخير بإرادته ومشيئته . وأما باقي الأحوال والأخبار تفهمونها من
تابعكم المذكور ، فليكن معلومكم هذا .
تحريرا في أوائل شهر آخر الربيعين سنة 932 من الهجرة النبوية الشريفة 1525 من الميلاد
بمقام دار السلطنة العلية
القسطنطينية المحروسة المحمية. "
لقد سطر السلطان سليمان ملاحم خالدة بمداد من الفخر و السؤدد، و رفع بيارق النصر عالية مرفرفة حركتها رياح البطولة و الإقدام، في عهده عرفت البلاد قمة الرفاهية و الازدهار، ووصلت فيه الدولة إلى قمة استعلائها الحضاري .