بنو أمية... حفيد يدافع عن أجداده
قد يرحل الإنسان عن هذه الدنيا وهو مُلمٌّ بكثير مما هو حوله، لكنه أكثر جهلاً بنفسه التي بين جنبيه، فوعي الذات ووعي النفس مقدمة حقيقية ليعي المرء ما حوله من قضايا كبرى تواجهه؛ وإلا سيظل يفهم العالم بعيداً عن هويته ووعيه وتاريخه وذاته.. تذكرت هذا وأنا أدخل إلى الشام بعد ثلاثة عقود من الهجرة والغربة، إذ كنت أحاول اكتشافها من جديد، فاكتشاف المكان من شخص في الخمسين ليس كاكتشافه يوم غادره في الثامنة عشر.
تمر بقبر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- قرب معرة النعمان، فتبدأ جيناتك الأموية تتحرك، ويتحرك معها أشواق تلك الحقبة التي حكمت من غانة إلى فرغانة، فظل إشعاعها لمئات السنين يشع في الأندلس وما بعدها، على الرغم من سقوط دولتهم على يد العباسيين بعد ثمانين عاماً تقريباً على حكمهم، وحين تتجه إلى الشام وغوطتها الغناء يبدأ الحديث عن سعي يزيد خلال حكمه من أجل شق قناة من نهر بردى إلى بادية حمص، بردى الذي حولته العصابة الأسدية خلال فترة حكمها إلى مرمى للقاذورات والأوساخ، وحولت معه الغوطة الغناء إلى عشوائيات، ومرابض لطيران الموت بينما كان بمقدورها أن تنشئ مطار مرج السلطان على بعد ثلاثين كيلومتراً فقط في البادية، لكنه الحقد على الشام وأهلها وحاضرة بني أمية.
نتذكر أمجاد بني أمية الذي عين رسول الله صلى الله عليه وسلم أول عامل له على مكة بعد فتحها منهم، ونتذكر معه ستة ولاة تولوا أمر الأمصار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا غرابة في ذلك فقد كانوا أهل تجارة وسفر، وهو ما محّضهم اتصالاً بالحضارات والأماكن فكانوا خير سفراء للدولة الإسلامية يتقنون فن التواصل مع العالم وقادته ونخبه.
وحين عيَن أبو بكر الصديق معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- أميراً على دمشق واصل إمارته إلى ولاية عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم أجمعين- فحكم عشرين عاماً كأمير، وتأقلم مع بيئة تحاذي أعتى إمبراطورية في يومها وهي إمبراطورية الروم، وحين التقاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو يرتدي اللباس الجميل فسأله كيف لك أن تلبس ذلك، فردّ عليه بأنني جئتك من بلد الحمامات المواجهة للروم، والأمر يتطلب ذلك لنري منهم قوة الإسلام فأجابه العبقري عمر رضي الله عنه: "لا آمرك ولا أنهاك"، ومنها انتزع الإمام ابن تيمية رضي الله عنه بأنه يجوز خلط الخلافة بالملك أحيانا.
في دمشق تحدثك حجارتها ومسجدها الأموي وشوارعها عن الروح الأموية التي تسري هناك على الرغم من سعي البوم والغربان بنعقهم غير ذلك، تحدثك كيف أن أول جيش يغزو القسطنطينية بحراً مغفور له انطلق من هنا في عهد معاوية -رضي الله عنه- الذي كان له الدور في بناء أول أسطول بحري إسلامي، ومن هنا نجح الملك عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- في جمع السنة بعد أن نجح عثمان بن عفان الأموي -رضي الله عنه- من قبله في جمع القرآن الكريم وهي مهمة شرفية لا ينالها إلا العظام.-.
كيف لا أُدافع عن هؤلاء الذين جعلوني سيداً للعالم قبل قرون، ولا تزال حضارتهم ومدنيتهم مفخرة أفتخر بها.. أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع.
أنا أموي، ومن لم يفتخر منا بذلك فما الذي لديه أن يفتخر به، لا حاجة لبني أمية أن يدافع عنهم أمثالي فهذه حضارتهم وتاريخهم يدعونا إلى آثارهم، وما كنا بحاجة إلى كل ذلك، لولا التلفيق والكذب والافتراء الذي طاول كتب التاريخ المزيفة هذه الأيام، فجعلت الكذب ديدنها، والنفاق شعارها وجعلوا من الجبن والخور سياسة وحكمة، ومن القبول بالمحتل والمستبد حفاظاً على بيضة الدين والأمة، ولله في خلقه شؤون.
همسة أخيرة وهي الهوية الأموية الشامية المهددة اليوم بسبب فقدان جيل كامل تعليمه، فضلاً عن خطف كثيرين من قبل مناهج روسية وتافهة كما يحصل بفرض المنهاج الطائفي البرميلي الكيماوي الأخير، ولا ننسى جيل التشرد والهجرة الذي يعيش حالة اغتراب واستلاب وتنازع هوية شامية أموية مع هويات المجتمعات التي يقيم فيها.. حفظ الله الشام وأبقاها ذخراً للأمة وشوكة في حلوق شانئيها.
وسوم: العدد 742