خُبث اللسان : كاشِف لخُـبث القـلب ، أم مـُنشئ له !؟
احتلف فقهاء القانون ، حول (العَقد) ؛ هل هو كاشف لإرادة المتعاقدين ، أم هو منشئ لها !؟ وكل منهم تناول الأمر من زاوية رؤية معيّنة ، له فيها حجّة وبرهان ..!
فهل خُبث اللسان ، الذي يقذف بالشتائم هنا وهناك ، ولا يبالي بأيّة لفظة هابطة ، أو متدنّية ، يلوكها في فمه ، ثم يقذفها في وجوه الناس ، ويجرج بها أشخاصهم وأعراضهم .. هل خبث اللسان هذا ، كاشف لخبث القلب ، أم هو منشئ له ، ابتداء ، ولم يكن موجوداً ، من قبل !؟
في هذا الأمر بعض التفصيل ، يختلف عن تفصيل فقهاء القانون .. فنقول :
*) ثمّة فرق ، بين مايقوله المرء بلسانه دون تعمّد ، على سبيل اللغو ، أو العبث .. أو تحت وطأة انفعال طارئ .. ثم يعود فيعتذر عنه ، حين ينبّه إلى مافيه ، من خطأ ، أو سوء ، أو ضرر.. أو يستغفر الله منه ، إذا كان من أهل الإيمان ، وكان الزلل الذي وقع فيه يجرح إيمانه ؛ كأن يتلفّظ بكلمة كفر، يتحرّج منها في الأصل ، في حالته العادية الطبيعية ، ثم يعود فيستغفر الله منها .. وربّما يدفعه الإحساس بالذنب ، إلى دفع صدقة أو كفّارة ، وإلى البكاء على ذنبه ، الذي وقع فيه ، دون أن يتمكّن من ضبط انفعاله وكلامه ! وفي القرأن الكريم إشارات واضحة ، إلى الفروق بين ما تلقي به الألسنة، لغواً أو سهواً، وبين ماهو ناجم عن فعل إرادي مصمّم ، منبعث من قلب ، يَعي ما بداخله ، من رصيد لهذه الكلمة !
*) الزوج الذي يحبّ زوجته ، ويرغب باستمرار الحياة معها ، قد ينفعل في لحظة ما، فيلقي في وجهها بكلة الطلاق ، طلقة واحدة .. وربّما يلقي لها بكلمة الطلاق ثلاثاً! إلاّ أن نيّته بعيدة تماماً ، في أعماقه ، عن أن يفرّط بها ، أو يتخلّى عنها ! وقد يندم ندماً شديداً ، بعد أن يعود إليه توازنه النفسي والذهني ! لذا ، فالطلقات الثلاث ، التي يملك الحقّ فيها ، تعدّ ضمانة له ، ولزوجته ، وأسرته ، وبيته .. أكثرممّا تعدّ سلاحا لديه ! لأن سلاح التفريق موجود في الطلقة الواحدة ، إذا رغب به ! وهنا لا تتّضح إرادة الزوج في مفارقة زوجته ، إلاّ عند تكرار الطلقات ، على مدد مختلفة !
*) التلفّظ بشتم الربّ والدين ، نزقاً ، أو جهالة .. رائج في بعض المجتمعات ، التي يكثر فيها السفهاء ، وتنتشر فيها السفاهات ! إلاّ أن شتم الأنبياء حالة نادرة ، لاتقع إلاّ من متعمّد ، حاقد على النبيّ الذي يشتمه !
*) تكرار الهجوم على النييّ ، وشتمه ، واتّهامه بما لايليق بمقام النبوّة .. كل ذلك يعزّز افتراضَ فسادِ القلب وخبثِه .. حتى على فرض أن السفاهة الأولى ، قد وقعت منه بحقّ النبيّ سهواً !
*) انطلاقاً من فكرة ، أن اللسان كاشف لما في القلب ، لامنشئ له ، وفق البنود الواردة أعلاه ، واستئناساً بقول الشاعر ـ في الحالة التي يفترَض فيها التعمّد والإصرار ـ :
إنّ الكلام من الفؤاد ، وإنّما جـُعِلَ اللسان على الفؤاد دليلا
نرى أن ماتلوكه ألسنة الخبثاء السفهاء ، الحاقدين على الديانات ، ومقدّسات الشعوب والأمم ، من هجوم على الانبياء والمقدسات .. ليس هو الأهمّ ، الذي ينبغي النظر إليه ، والبحث في كيفية التعامل معه ، مِن قِبل الآخرين الذين تشتَم مقدّساتهم .. بل الأهمّ هو كيفية التعامل مع الغدّة ذاتها ؛ غدّة الحقد والسفاهة ، التي تفرز الشتائم بين آونة وأخرى! أيْ أن المطلوب ، هو معالحة الحالة البشرية ذاتها ، حالة الشخص ، لا ما تنتِجه من فساد وسوء ، وفتنة وضلال .. عبر كلام قد يَحتجّ بعض الغيارى عليه ، وقد يعتذر عنه صاحبه بلسانه ، امتصاصاً لغضب هؤلاء الغيارى .. ثم يعود إلى التعبير عنه ، بوسائل آخرى مختلفة !
نلك هي المسألة.. والناس إزاءها أصناف :
بعضهم يسَرّ بها .. وهؤلاء من الطينة النفسية والخلقية لصاحب الشتيمة ، حتى لو كانوا من دين مختلف ! فالأمر هنا متعلق بالأخلاق والمروءات الإنسانية ، أكثر من تعلقه بالعقائد والديانات ! فكريم النفس والخلق ، يأبى أن يشتم عقائد الآخرين ، احتراماً لمشاعرهم ، واحتراماً لعقيدته ، التي يعرّضها للشتم من قِبلهم ،على سبيل المعاملة بالمثل.. إذا كان ممّن يؤمنون بعقيدة ما ، أيّة عقيدة ممّا يمكن أن يؤمن به البشر !
بعضهم لايهمّه الأمر .. وهؤلاء لا يَعدّون محمداً نبياً لهم ، إذا كانوا من المحسوبين ، اسماً، على ملّته ! ولا يَعدّون عيسى نبياً لهم ، إذا كانوا محسوبين ، اسماً ، من أتباع ملّته !
بعضهم يفضّل أن يشتَم أبوه وأمّه ، على شتم النبيّ الذي يتبعه ويؤمن برسالته ! ويرى أن نصرة الأنبياء والأديان ، لا تقل أهمّية من الناحية الوطنية ، عن نصرة الأوطان التي تؤمن أكثرية أبنائها بالأنبياء والأديان ..! وهي - لدى المؤمنين المتمّسكين بدينهم - أهمّ وأوجب ، وأكثر قداسة !
بعضهم يسوّغ للشاتم فعلته ، من منطلقات تتعلق بمصلحته ، إذ تكون له صلة ما ببعض المتنفذين ، الذين يدعمون الشاتم ! ومن المسوّغات : الادّعاء باهتزاز شخصية الشاتم ، وضعف التوازن العقلي والنفسي لديه ! ومنها كذلك : قلّة أهمّية الشاتم ، وضآلة شأنه ، وضعف تأثيره !
أكثر الذين يؤذيهم شتم النبيّ ، لايدرون مايفعلون ! وكثيرون منهم يتصرّفون بردود فعل عشوائية ، قد تؤذيهم ، وتؤذي قضيّتهم التي يدافعون عنها ، أكثر ممّا تسهم في كبح جماح المجرمين ، الذين يتطاولون على مقدّساتهم ؛ كما دلّت على ذلك تجارب عدّة ، في أزمنة متعاقبة ..! ( ومن أكثر الأمور إيذاء ، توسيع دائرة المسؤولية عن الجريمة ، لتشمل غيرَ أصحاب الوزرالمستبيحين لحرمة المقدسات !) . إن المسلمين منهم ، على سبيل المثال ، يقرأون في كتاب ربّهم ، صباحَ مساء ، أن الجهاد يكون بالمال والنفس ! وإذا كان الجهاد بالنفس ، يشمل فيما يشمل ، الجهاد باللسان والقلم ، كما يشمل الجهد العقلي بأنواعه .. ( وكل ذلك دون اللجوء إلى العنف) فإن المطلوب ، هو التنسيق بين أصحاب القدرة على الجهاد ، الراغبين بالدفاع الصحيح المنضبط ، عن نبيّهم ، وعن مقدّساتهم التي يستبيحها السفهاء بألسنتهم وأقلامهم ! أمّا الجهاد بالمال ، فهو متعدّد الفوائد ، متنوّع الطرائق ، ويمكن توظيفه لخدمة الهدف ، إعلامياً وسياسياً .. وقضائياً ، في بعض الحالات ، التي يجدي فيها التدخل القضائي.. وغير ذلك من أوجه التوظيف ، التي تكبح جماح الحاقدين، الذين وظّفوا أنفسهم ، دمىً رخيصة ، عند شياطين الإنس والجنّ .. وإن كان بعضهم من أخبث شياطين الإنس ، وأكثرها سفاهة ولؤماً !
وسوم: العدد 743