الدين والدولة

د. حامد بن أحمد الرفاعي

فقه المقاصد فتح آفاقاً فقهية جليلة واسعة للمسلم..وذلل عقبات جسيمة أمامه في التعامل مع الآخر..إلا أن فقه المقاصد اليوم يُساء استخدامه مما فتح باباً واسعاً للتأويل المفرط..واتخذه بعض المسلمين مُتَّكَأً لتعليل اجتهادات مضطربة شاذة في التعامل مع الآخر..وهكذا فالمسلمون اليوم فريقان..فريق آخذٌ بتوسيع باب فقه المقاصد جاعلاً منه مرتعاً مباحاً..تتدفق عبره أفواج من المتأولين والمجتهدين من غير قيد ولا شرط..وفريق آخذٌ بتوسيع باب سد الذراع جاعلاً منه سداً منيعاً..يحبس الناس خلفه عن كثير من الخير تحوطاً وتخوفاً من الوقوع بالشر..وهذا ما جعلني أتأمل هذه الحالة التي تتقاذف مسيرة المسلمين اليوم ما بين الإفراط والتفريط..تلمساً لمخرج يعيد للأمة منهجها المتوازن بين المقيد والمطلق..وبين الخوف والرجاء..فوجدتني أتأمل قول الله تعالى:"إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"وقوله جلِّ شأنه:"وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"وقوله تباركت أسماؤه:"لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ"وقوله سبحانه:"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ"وقوله تعالى:"وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ"وقوله جلَّ جلاله:"هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا"وقوله لا إله إلا هو"مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ"فهذه الآيات وما يتسق ويتكامل معها من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المحكمة..تشكل منظومة متكاملة لمفهوم الاستخلاف الرباني للإنسان في الأرض..ومن قبل قلت:أن الدين يتكون بشكل رئيس من:عقيدة وشريعة ورسالة حياة..فالعقيدة وما يتعلق بها من شرائع هي من الخصوصيات الدينية والروحية للإنسان..ورسالة الحياة وما يتعلق بها من شرائع هي من المشترك الإنساني لتحقيق مهمة الاستخلاف في الأرض..وبتقديري حصل تداخل مخل بين وظائف دائرتي العقيدة والرسالة أفرز تطرفاً وغلواً..تطرفٌ حبس الناس في أروقة المعابد وأدار ظهره للحياة ورسالتها وتكاليفها..وتطرفٌ أدار ظهره للعقيدة والمعابد ودفع الناس نحو الحياة وتكاليفها بغير ضوابط..وحسم الغرب أمره فأعلن مقولته:"فصل الدين عن الدولة"وأنهى بذلك جدلية الصراع بين المعبد والسوق وتخفف من أعبائها..واتجه للسوق بكل اهتماماته وأنتج وتحسنت أحواله المادية ونهض بمسيرته الدنيوية..ولكنه أدرك فيما بعد أن مسيرته غير آمنة مع تجاهل أخلاقيات العقيدة وسلوكياتها الوجدانية..فلجأ إلى ابتكار ما سماه القوانين الأخلاقية..والتي لم تكن بحقيقتها إلا عودة للقيم الدينية من بوابتها الخلفية..والإسلام من البداية أكد التوازن بين المادة والروح..وبين العقيدة والرسالة..وبين محاريب السوق ومحاريب المسجد لقوله تعالى:"مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا"وأكد أن الانحراف عن هذه التوازنية سيدفع بالمسيرة البشرية نحو الخلل والانتكاسة لا محالة لقوله تعالى:"وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا"أجل..نحن بحاجة إلى تجديد توازنية منهج الإسلام في حياتنا..وأن نتجنب التداخل المخل بين مهمة العقيدة وشرائعها السلوكية..وبين مهمة الاستخلاف وشرائع أدائها الحضاري.

وسوم: العدد 745