اللغة سلوك .. واللغة السياسية سلوك سياسي !
*) الأفراد العقلاء العاديون ، ينتقون مفردات لغتهم ، بما يناسب مواقفهم ، وعلاقاتهم بالناس ! فيتعاملون مع العدوّ ، بلغة معادية ، ومع الصديق ، بلغة فيها مودّة ولطف ! ومع الإنسان العادي ، بلغة محايدة ، تعكس أخلاق صاحبها وحكمته ، في التعامل مع الغرباء !
*) الأفراد الحمقى ، ليس للغتهم ضوابط أو مقاييس ! فقد يتكلّم أحدهم مع صديقه ، بلغة جارحة مؤذية ، دون سبب واضح ! وقد يتحدّث عن شخص ، يعدّه من أقرب الناس إليه.. في غيابه ، بلغة سيّئة ، تحمل شحنة كبيرة من العداوة.. دون سبب واضح ! كما أنه قد يتحدّث ، عن أعدى أعدائه ، بلغة تحمل مودّة ، أو لطفاً زائداً ، دون سبب واضح ! مع أن عدوّه يسنّ الخنجر لذبحه ، أو هو مستمرّ، فعلاً، في ذبح أهله وأقاربه وأصدقائه! وقد تسأله ، عن سبب إيذائه لصديقه ، في غيابه ، بكلام جارح.. فلايجد ، لديه ، جواباً واضحاً! كما قد تسأله ، عن سبب ذِكره لعدوّه ، بلغة لطيفة ، تحمل مودّة، فيجيبك ، بابتسامة بليدة : بأنه لا يريد فتح جبهة عداوة معه ! ناسياً أن الجبهة مفتوحة على مصاريعها ، وأن العدوّ يعدّ العدّة ، للقضاء عليه .. مادياً ، أو معنوياً !
*) اللغة السياسية سلوك سياسي ، لا تـُقبل فيه حماقات الأفراد ! لأن المتكلّم لايعبّر عن شخصه ، وأخلاقه الفردية .. بل عن سياسة ، يشترك فيها مع آخرين ! وحتّى لو تكلّم باسمه الشخصي ، فإن سلوكه اللغوي ، يعَدّ نافذه ، يَنظر من خلالها الآخرون ، إلى مافي داخل البيت السياسي ، من قيم وأخلاق، وتوجّهات، وطموحات، وسياسات ، ونيّات مبيّتة ! لأن المتكلّم هو لبنة ، في بنيان سياسي ، يضمّ لبنات كثيرة ، يُتوقّع أن تكون متقاربة ، في أفكارها ونيّاتها ، وطموحاتها وسياساتها .. التي تعكسها لغة كل فرد من أفرادها ! وفي حال اختلاف اللغات ، بين الأفراد .. يتوقّع الناس ، أن ثمّة اختلافاً في السياسات ! وفي حال تَعارض اللغات ، يتوقّع العقلاء ، أن ثمّة تعارضاً في السياسات ، لايسوّغه مبدأ (حرّية الرأي !) ؛ لأن حرّية الرأي الفردية ، الشاذّة عن سياسة البنيان السياسي ، الذي ينتمي إليه الفرد ، تفسّر ـ إذا سمعها الناس ، أو قرأوها ـ على أنها انشقاق ، أو توتّر.. داخل البنيان !
*) اللغة داخل البنى التحالفية ، إذا مَسّت أساساً من أسس البنيان التحالفي ، نظِر إليها على أنها تَعارض بين الحلفاء ، أو انشقاق ! حتّى لو سمّاها صاحبها: (حرية رأي!). أمّا اللغة التي تعبّر عن وجهة نظر خاصّة بفريق معيّن ، ولا تَمسّ أسس البنيان التحالفي.. فتظلّ في الحدود التي وضَعها لها صاحبها ، دون أن تعكس خلافاً تحالفياً !
*) اللغة السياسية ، التي تظهِر المودّة ، لعدوّ ظاهر العداوة .. تفسّر على أنها سلوك جديد ، طرأ على تفكير الفريق السياسي ، ودفعَه إلى إعادة النظر، في موقفه من عدوّه ! فإذا كان الفريق ضمن تحالف ما ، أثارت اللغة الجديدة ، ريبةَ الأطراف الأخرى ، في التحالف ! وصار من حقّها ، الاسيضاح ، عن سبب الخطاب الجديد ، الذي يفترَض ـ بحكم منطق السياسة ، المستقرّ بين العقلاء ـ أنه يحمل موقفاً جديداً، وأنه ليس مجرّد ألفاظ عابرة ، عنّت لهذا الفرد ، أو ذاك ، من أفراد الفريق السياسي ، ليتظرّف بها ، أو يظهِر نفسَه بمظهر المهذّب اللطيف ، الذي يكنّ الودّ لخصمه الشرس ، الذي يذبحه ! فالشاعر يقول :
إنّ الكلام من الفؤاد ، وإنّما جعِلَ اللسان على الفؤاد دليلا
أمّا العدوّ ، نفسه ، فيصعب عليه تفسير هذا اللطف ، تجاهه ، إلاّ أنه نوع من التذاكي الفجّ ، والمكر الساذج .. أو أنه نوع من الغباء الشديد ! وهو لطف يَسرّه ، في كل الأحوال ! لأنه يوظّفه توظيفات مختلفة ، في مصالحه المختلفة ! وأهمّ هذه التوظيفات ، هو المتاجرة به ، أمام الناس عامّة ، وأمام الجماهير المؤيّدة لصاحب اللغة اللطيفة خاصّة، أن: انظروا .. هذه هي شهادة ساستِكم بي ! ( ولابدّ من التأكيد ، في كل الأحوال ، على أن الشتم والسبّ والتجريح .. ليست من اللغة السياسية في شيء ، وإن وضعَها صاحبها في سياق سياسي ! فهي لاتخرج عن كونها نوعاً من السفَه السياسي ، أو .. بمعنى أدقّ : هي نوع من السفَه الشخصي المفسِد للسياسة ! ولابدّ من التذكير، هنا ، بأن شتائم الرئيس السوري بشار الأسد ، للحكّام العرب ، بأنهم أنصاف رجال ، وأشباه رجال .. قد دخلت تاريخ السفَه الشخصي المدمّر للسياسة ، من أوسع الأبواب .. كما دخلت ، قبلها ، شتائم وزير الدفاع السوري المزمن ، مصطفى طلاس ، للرئيس الفلسطيني الراحل ، ياسر عرفات ! إلاّ أنّ هذه الشتائم ، وأمثالها ، مختلفة بشكل عامّ ، عن وصف العدوّ ، أو الخصم اللدود .. بما فيه من أوصاف حقيقية ، كالظلم ، والإجرام ، والنزعة العدوانية ، والغدر، والرشوة ، واللصوصية .. وغيرها ، من أوصاف يجب أن يعرفها الناس ، عن حقيقة هذا العدوّ ، أو الخصم الشرس المتجبّر .. الذي يمثله حكم بشار الأسد ، بامتياز، ضدّ شعبه خاصّة ، وضدّ الأمّة التي يزعم الانتماء إليها .. عامّة ! مع وجوب الحكمة والكياسة ، في إيراد هذه الأوصاف ، ومراعاة الحاجة الدافعة إلى استعمالها، والدقّة في إيرادها ، ضمن سياقاتها وظروفها !) .
*) العدوّ المختلَف حول عداوته ، داخل البنيان السياسي الواحد .. يستفيد كثيراً ، من اختلاف اللغة حوله ، بين أعضاء هذا الفريق .. ويوظّفها لمحصلحته ، سياسياً ، واجتماعياً ، وثقافياً ؛ إذا كان للعداوة طابع ثقافي ! وقد ورد في القرأن الكريم ، قول الله ، عزّ وجلّ : (فما لَكم في المنافقين فئتينِ والله أركسَهم بما كسَبوا ..) !
*) شتم حكومات بعض الدول الكبرى، لبعض عملائها، من حكّام الدول الصغرى.. وحضّ هؤلاء الحكّام العملاء ، على شتمها .. لمنح هؤلاء العملاء ، شهاداتِ حسن سلوك مجّانية ، يَخدعون بها شعوبهم ، حين يَظهرون بمظهرالزعماء الكبار، أصحاب السيادة والموقف الصلب ، ورفض العمالة للاجنبي .. هذا ، كله لا يغيّر شيئاً ، من صحّة المبدأ! بل صحّة المبدأ ـ أساساً ـ هي التي تجعل المغفّلين ، يصدّقون لعبة الدول الكبرى، مع عملائها الحكّام الصغار، ومنحَهم شهادات البطولة الزائفة ، وشهادات حسن السلوك المجانية ، عبر الشتم المتبادل ، بين التابع والمتبوع ، أو بين السيّد والعبد! وربما كان هذا الخداع ، من أهمّ العمليات التي يحتاجها صنع الزعماء ، في الدول البائسة ، في العصر الحديث !
وسوم: العدد 745