كنز أسامة بن لادن
«ذهب، ياقوت، مرجان، جواهر، أحمدك يا رب»
كما هتف «علي بابا» عندما وجد الكنز في المغارة في تلك القصة المتداولة بتراث الشعوب العربية، ها هي دول وشخصيات ووسائل إعلام تهتف فرحًا بذلك الكنز الذي أفرجت عنه المخابرات الأمريكية، والمُتمثّل في مئات الآلاف من الوثائق والمُذكرات الشخصية التي خلّفها زعيم تنظيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن، وعُثر عليها في مقرّ إقامته في باكستان، الذي تعرض للهجوم الأمريكي.
الإفراج عن هذه الوثائق والمذكرات في هذا التوقيت، يبدو لي أشبه بغزل أمريكي للمملكة السعودية، فبعد فترة «أوباما» التي شهدت تقاربًا أمريكيا إيرانيا على حساب السعودية والخليج، جاء ترامب (رجل المرحلة) ليعكس الأوضاع، ويتجه إلى توطيد العلاقات مع السعودية، والتوتير المُنضبط مع إيران، فتم الإفراج عن الوثائق التي أعتبرُها ( من وجهة نظري)، هدية أمريكية للسعودية يمكنها توظيفها ضد خصومها على النحو التالي:
أولا: التوظيف ضد إيران التي كشفت الوسائل دعمها لتنظيم «القاعدة» الذي نفّذ عمليات تخريبية في الخليج، الأمر الذي يخدم السعودية وحلفاءها في تعبئة وتحشيد الشعوب العربية والإسلامية السنيّة ضد إيران، ويُحسن صورة المملكة في العالم الإسلامي السنّي باعتبارها المستهدف الأول للأطماع الإيرانية.
ثانيا: حسم الجدل السابق حول الارتباط بين «القاعدة» وإيران، الذي يقضي على أي تعاطف مع التنظيم.
ثالثا: التوظيف لصالح حصار قطر، ودعم اتهامها برعاية الإرهاب، استنادا إلى اهتمام زعيم «القاعدة» السابق بالجزيرة القطرية، وترحيبه بالربيع العربي والتقائه في ذلك مع الدوحة.
على الرغم من احتواء الوثائق والمذكرات على جوانب مُتعددة، إلا أن أطرافا خليجية، ركزت فقط على الوثائق التي تستطيع توظيفها في تصفية حساباتها مع قطر وذراعها الإعلامي، وجماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى إيران، مع توقعات بتوظيفها ولو بصورة غير مباشرة ضد حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) ، فكانت تلك الوثائق بمثابة كنز معرفي وثروة وثائقية لبعض دول الخليج.
على سبيل المثال، وظّفت صحيفة «عكاظ» السعودية الوثائق للنيْل من جماعة الإخوان المسلمين واتهامها بصورة ضمنية بإنتاج وتفريخ الإرهاب، اعتمادا على ما كتبه أسامة بن لادن بخط يده عن انتمائه أولا للإخوان. عندما نعود إلى المُذكرات التي كتبها ابن لادن بخط يده، نراه يقول فيها نصّا: «من الناحية العلمية التزمتُ مع الإخوان ومناهجهم محدودة، قرأت السيرة، مرة واحدة في الأسبوع كان اللقاء، حجم التأثر بهم لم يكن كثيرا من الناحية العلمية». ويظهر من خلال عباراته أن ارتباطه بالإخوان كان علميا وليس منهجيا، كما يكشف عن عدم رضاه التام عن منهج الإخوان، لكنها تصفية الحسابات مع خصم أصبح العدو الأول بالنسبة لمعظم الدول الخليجية.
وجدت الإمارات في تلك الوثائق بُغيتها، حيث جعلت منها دليلا يُعضّد اتهام قطر بدعم ورعاية الإرهاب، نظرا لاحتواء الوثائق على ما يُفيد متابعة زعيم «القاعدة» للجزيرة التي كان يُفضّل بثَّ كلماته من خلالها. التقط وزير الخارجية الإماراتي أنور قرقاش ذلك الخيط (الذي ظنّه صيدا ثمينا)، فزعم وجود تقاطع مصالح بين «القاعدة» وقطر، وصفها بأنها أمر واضح ومُقلق، فيقول على تويتر: «أوراق أسامة بن لادن بخط يده تؤكد العديد من الافتراضات، فهو يدعم «الجزيرة» في تبنّي الثورات ويُعوّل على القرضاوي في ليبيا ويريد الفوضى للبحرين». ويضيف: «كراس بن لادن بخط يده مهم لمعرفة مواقف التطرف والإرهاب، وتقاطع المواقف مع توجهات الشقيق المرتبك واضح ومقلق، أزمة قطر هي عن التطرف والإرهاب».
وتأتي صحيفة «الخليج» الإماراتية لتدعم وجهة نظر قرقاش، فتقول في الافتتاحية: «من المؤكد أننا سنشهد في الفترة المقبلة مزيدا من الوثائق تميط اللثام عن طبيعة علاقة طهران ومعها الدوحة، بتنظيمي «القاعدة»، و«داعش» اللذين يحملان راية الإرهاب في كل بقعة من العالم».
لكن قرقاش – وإعلام بلاده – لم يلتفت أو يتطرق إلى علاقات بن لادن بإعلاميين غربيين ووسائل إعلام غربية لا «الجزيرة» وحدها، كشفت عنه تلك الوثائق، حيث جاء في الوثائق أن زعيم «القاعدة» التقى الصحافي البريطاني روبرت فيسك، وسكوت مراسل التايم الأمريكية، وغيرهما من رموز الإعلام والمؤسسات الإعلامية الشهيرة، فلماذا لم تُهاجم «التايم» والـ»سي إن إن» لعلاقتها الإعلامية بتنظيم «القاعدة»؟
لكنه أمر طبيعي أن يتم تجاهُل تلك العلاقات، لتصبح «الجزيرة» القطرية – التي دأبت على الانفراد والسعي للسبق الصحافي – في أعين الجماهير ذراعا إرهابيا لدولة إرهابية تدعم التطرف والإرهاب. ما يمكن توقُّعه واستشرافه، أن يتم توظيف ذلك الكشف في الهجوم على حركة حماس التي ألجأها الجحود العربي إلى التقارب مع إيران، وذلك عن طريق محاولة وضع حماس و«القاعدة» في سلة واحدة، فكما كشفت الوثائق أن إيران دعّمت جماعة مسلحة محسوبة على السنة لضرب المنطقة الخليجية، فيمكن تقبل فكرة استغلال إيران لحماس لتحقيق الأهداف نفسها، فقط مع التغذية الإعلامية المُستمرة للجماهير حول هذه المسألة، فتكون المحصلة النهائية: كل جماعة مسلحة مدعومة من قبل إيران فهي عدو إرهابي.
ولا يخفى أن حماس لا يمكن وضعها في مقارنة مع «القاعدة»، نظرا لأن الحركة الفلسطينية لا تعمل خارج حدودها، وتمحورت حول القضية الفلسطينية وحدها، ومن ثم تنفتح على الآخرين بحسب استفادة القضية الفلسطينية منهم، أما «القاعدة» فهي تنظيم دولي لا حدود له، ولذلك يمكن استغلاله بصورة أو بأخرى لتحقيق أجندات إقليمية.
الولايات المتحدة تُصدّر لنا أزمة جديدة من طرف خفيّ، تُصادف استعدادا مُسبقا لمزيد من النزاع، مزيد من الشقاق، مزيد من التشرذُم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 746