كيف فقدت عيني؟
فصل من سيرتي
أثناء سهرة زفاف أخي الأكبر محمد، وابني عمّي اسماعيل موسى في ربيع العام 1955، بنوا بيتا من الشّعَر للرّجال قرب بيتنا، وكانت الإضاءة "فنيارا" حيث لم تكن الكهرباء قد وصلت البلدة،- تمّ ربط البلدة بالكهرباء عام 1971-
كنت أجلس في حضن أبي، بينما نصبوا السّامر والدّبكة الشّعبيّة أمام بيت الشّعر، وبقرب المكان يوجد حاجب حجريّ، يقفز الأطفال عنه، يلعبون ويتمازحون، فرمى أحدهم حجرا على آخر، فأصابني الحجر فوق حاجبي الأيسر، آلمني الحجر، ولم تنزل دماء، وما أن أصابني الحجر حتّى قفزت من حضن أبي وهجمت على الطفل الذي رماه وأنا أصرخ: "لقد خلعت عيني"، وهو يكبرني بعامين، أبعدونا عن بعضنا البعض. كان الشّباب يطلقون الرّصاص من مسدّس، وسقطت رصاصة على الأرض، فوضع أحدهم قدمه عليها كي يأخذها ليطلقها، أتوا بالفنيار وبحثوا عن الرّصاصة، ولم يجدوها، فقمت من حضن أبي وقلت لأخي العريس:
الرّصاصة تحت حذاء هذا الرّجل.
تعجّب الحضور لأنّي رأيت الرّصاصة علما أنّ المسافة بيني وبينها كانت أقلّ من خمسة أمتار.
صباح اليوم التّالي أي يوم الزّفاف، استيقظت وعيني اليسرى مغلقة لدرجة الالتحام بالقذى، تؤلمني ولونها أحمر، فشخّصوا الحالة بأنّها "حسد" لأنّني رأيت الرّصاصة! فعالجوني بالبخّور والتّعاويذ! ولما ازدادت الحالة سوءا، أعادوا التّشخيص وقالوا بأنّني مصاب بالرّمد، وكان الرّمد منتشرا بين الأطفال نتيجة الأوساخ وانعدام النّظافة، وبدأ العلاج بأن تحلب امرأة مرضع من ثديها عدّة قطرات حليب في عيني! لكنّ الوضع لم يتحسّن، فأحضروا حليب حمارة مرضعة وقطّروني منه أيضا، ولمّا لم تتحسن الحالة اصطحبتني جدّتي لأمّي وأخذتني إلى "فتّاحة" في قرية العيزريّة، كانت امرأة مسنّة، عندما دخلنا بيتها كان ابنها يحمل أرنبا من أذنيه، يريدون ذبحه كي يأكلونة، فقالت لجدّتي:
إذا صرخ الأرنب فستشفى عين حفيدك! وأشارت لابنها الذي يحمل الأرنب، ففرك أذني الأرنب الذي صاح ألما، فقالت المرأة:
سيشفى حفيدك بإذن الله، لكن يلزمه علاج.
فسألت جدّتي: ما العلاج؟
فأجابت الفتّاحة: العلاج متوفّر بكثرة لديكم!
- ما هو؟
- خراء حرذون!
فسألت جدّتي متعجّبة: خراء حرذون؟
- نعم خراء حرذون، فالحراذين مؤمنة! ألا ترونها تصلّي؟
- وكيف سنعرف خراء الحرذون؟
- عندما يخرج الحرذون للصّلاة دعوا ولدا كبيرا يضرب عليه حجرا! عندها سيهرب إلى جحره، وهناك ستجدون خراء كثيرا.
دار هذا الحديث على مسمع ومرأى منّي بين تلك المرأة وجدّتي، دفعت جدّتي لها مبلغا من القروش لا أعرف عدده، وخرجنا من عندها عائدين إلى بيتنا مشيا على الأقدام كما ذهبنا.
وفي البيت صدرت الأوامر للفتيان بإحضار خراء حرذون، وهناك تمّ تثبيتي على الأرض أنا الطّفل الذي لم أكمل عامي السّادس، لم يرحموا طفولتي ولم ينقذني صراخي، كانت حرّيّتي وحركتي مغتصبة، وضعوا في عيني براز الحرذون المخلوط بالتّراب، نهروني عن البكاء كي لا يخرج "العلاج" مع الدّموع! كان التراب يدور في عيني كلّما رفّ جفناي، نزلت دماء من عيني، وهم يحمدون الله ويشكرون "الفتّاحة"؛ لأنّ الشرّ يخرج من عيني!
واستمرّ "العلاج" حوالي شهر، فازدادت حالة عيني سوءا، وازداد الاحمرار فيها، وتورّم جفناي، عندها قرّروا اصطحابي إلى مستشفى العيون في سوق الحصر في القدس القديمة مقابل سوق البازار.
كان أبي أو أخي العريس محمد يردفني خلفه على بغلتنا الشّهباء، بعد أن تلبسني أمّي –رحمها الله "القمباز"! يربط البغلة في خان للدّواب في باب السلسلة، ونمشي إلى المستشفى، وفي زيارتنا الأولى للمستشفى سأل طبيب عربيّ- تعرفت عليه لاحقا بعد أن كبرت، وكان شخصيّة وطنيّة بارزة- عمّا جرى لعيني؟
فأجبته: فلان ضربني حجرا في سهرة عرس أخي، وذكرت له اسم الولد، وأشرت إلى المكان الذي أصابه الحجر، غير أنّ أبي – رحمه الله- نفى ما قلته، وأكّد أنّني مصاب برمد لا يعرف سببا له! وعرفت سبب نفيه لروايتي، وعدم قوله الحقيقة للطبيب لاحقا عندما كبرت، فقد كانت الشّرطة الأردنيّة تريد فرض القانون وفرض هيبة الدّولة، فعمّمت على المستشفيات بضرورة تبليغ الشّرطة عن أيّ إصابة بسبب مشاجرة تصل المستشفيات، فتعتقل طرفي المشاجرة وتعاقبهم بالضّرب والسّجن وفرض الغرامات الماليّة، وأبي يردّد:
كيف سنكون سببا في اعتقال من جاؤوا ليشاركونا فرحتنا؟ وواضح هنا أنّه لم يكن تمييز بأنّ الجاني طفل لا يمكن اعتقاله.
وعندما كان الطّبيب يعود لروايتي كان يقول: إذا كان كلام الولد صحيحا، فربما جرى نزيف داخليّ على عصب العين، وهذا أمر سهل، نستطيع سحب الدّماء من عصب العين، فتضعف الرّؤية فيها لعدّة أيّام، لكنها لا تلبث أن تعود ثانية، وإذا تركناها، سيتجمّع النّزيف ويتحجّر، وسيفقد الولد عينه، غير أنّ أبي بقي على اصراره.
تردّدنا على المستشفى لأكثر من شهرين، بشكل شبه يوميّ لأكثر من شهرين دون جدوى، بعدها قرّر الأطبّاء أن أرقد في المستشفى لاجراء عمليّة جراحيّة.
وفي المستشفى وضعوا لي سريرا في غرفة واسعة، يرقد فيها ستّة مرضى عجائز، أعطوني منامة"بيجاما" ففرحت بها كثيرا وأنا لا أدرك ما أنا فيه، ولا ما ينتظرني، كانت وحدة الحمّامات خارج الغرفة، ثلاثة مراحيض أمامها مسافة تزيد على المتر، فيها مغسلة ويحيط بها سور له بوّابة حديديّة تغلق بزند من الخارج. وكانت مهمّتي أن أقود المرضى العجزة في غرفتي إلى الحمّام ليل نهار. وذات ليلة كلّما غفوت كان يقوم أحدهم وهو عجوز كفيف، يخزني بعصاه كي أستيقظ وأقوده إلى الحمّام، وأنتظره حتّى أعيده إلى سريره، وكرّر ذلك مرّات عديدة في ليلة واحدة، فقدته وأنا غاضب، أغلقت عليه الباب الرّئيس لوحدة المراحيض بالزّند من الخارج، وعدت إلى سريري، وبقيت نائما حتّى الصّباح والرّجل ينادي دون مجيب، وعند الصّباح فتح له أحدهم الباب وهو يشتم ويتوعّد، فخفت منه وهربت من سريري واختبأت تحت سريره، وعندما دخل الغرفة اتّجه إلى سريري وانهال عليه ضربا بعصاه وسط شتائم مقذعة ظنّا منه أنّني في السّرير، ولمّا تأكّد من عدم وجودي أخذ يبحث عنّي بعصاه تحت سريري، ولمّا جاء الأطبّاء والممرّضات، ضحكوا ممّا فعلت، وأخرجتني ممرّضة اسمها "ليلى" من تحت سريره، حملتني بحضنها وهي تقبّلني ضاحكة.
مكثت في المستشفى سبعة وعشرين يوما، عملوا لي الجراحة في اليوم الثّاني لرقودي في المشفى، وكانوا يغيّرون لي اللفّافة التي على عيني يوميّا بعد أن يغطّوا عيني اليمنى بضمّادة مع أوامر بعدم فتحها.
وفي هذه الأثناء حاولت ببراءة طفولتي أن أهرب من المستشفى، كي تبقى لي المنامة "البيجاما"، وتركت لهم "القمباز"، وأثناء محاولتي فتح البوّابة الرّئيسة للمستشفى، رآني ممرّض ولحق بي، بقيت أركض حتّى وصلت "بير أيّوب" في سلوان" حيث أمسك بي أحد أبناء البلدة الذي كان يملك بقالة في المكان، وسلّمني للمرّض الذي انهال عليّ ضربا، لم أوافق على الرّجوع معه، فكان يحملني بين يديه، وعندما يتعب يجلس ليستريح، وينهال عليّ ضربا من جديد.
وفي اليوم السّابع والعشرين، سقطت الضّمادة عن عيني، ففوجئت بأنّني لا أرى فيها شيئا، فأخبرت الطبيب والممرضة وأنا أبكي، وبكت معي الممرّضة ليلى فقد أشفقت عليّ، أعادوا تغطية عيني مرّة أخرى، وبقيت أبكي حتّى وصل أخي محمّد، فنزعت الضّمادة لأريه عيني، ولمّا رآها وقد اكتست بالبياض، غضب وشتم الأطبّاء والعاملين في المستشفى وأعادني معه إلى البيت.
وسوم: العدد 747