القيم العليا، مفهومها، وكيف نغرسها في نفوس أبنائنا
نذكّر أولاً بأن للتربية ثلاثة جوانب يكمّل بعضها بعضاً:
1- التربية العقلية والمعرفية
2- التربية الوجدانية والعاطفية.
3- التربية السلوكية وبناء المهارات.
وفي أكثر الأحيان، لاسيما في التربية المدرسية، تعطى التربية المعرفية الاهتمام الأكبر، بحيث يحرص المعلم على تزويد تلامذته بقدر جيد من المعارف في العلوم المقررة...
ونريد هنا تسليط الضوء على جانب لا ينال –في العادة- الاهتمام الكافي. إنه التربية الوجدانية والعاطفية، بل على جزء من هذا الجانب، وهو غرس القيم العليا.
ماذا نريد بالقيم؟
القيم هي معايير للسلوك، نحكم بها على السلوك بأنه جيد، أو مقبول، أو مرفوض... أو نحكم بها على الأخلاق والاتجاهات بأن بعضها أعلى من بعض، أو أفضل. بل كثيراً ما نطلق على الأخلاق نفسها كلمة "قيم" فنقول: الصدق قيمة عليا، والوفاء قيمة عليا...
والناس يحكمون على أي تصرّف بأنه حسن أو سيئ، أو صحيح وخطأ، وفق تلك المعايير التي نسميها: القيم.
وحين نقول: هناك قيم عليا، فهذا يعني أنها يجب أن تقدَّم على غيرها، وأن تراعى في اختيار السلوك المناسب في كل موقف.
فهل القيم نسبيّة أم مُطْلقة؟! وهل هي نتاج عمليات عقلية، أم تعاطف وجداني؟! وهل هي ثابتة أم متطورة؟!
والإجابة على مثل هذه الأسئلة هي التي تحدد شخصية المجتمع، وتوجهات التربية.
النسبية والمطلقة:
إن الفلسفات الغربية، لاسيما الأمريكية، تكاد تجعل كل شيء نسبياً، وتلغي القداسة والثبات عن أي شيء، بل تجعل المنفعة هي المعيار، فما كان نافعاً فهو جيد. و"النافع" يختلف بين عصر وآخر، ومجتمع وآخر، بل فرد وآخر، وطورٍ وآخر.
وهذا على خلاف التصور الإسلامي الذي يجعل المعايير ثابتة في أصلها، لاسيما ما كان له ضابط من حلال أو حرام. وهذا ما ينطبق على معظم القيم. ويكون الأمر عندئذ نافعاً لأنه جيد، وهو جيد لأن الدين أمر به. ويرتفع مكان القيمة في السلّم كلما ارتبطت بتحقيق أولويّة أعظم. فما كان فيه حفظ للدين فهو مقدّم على ما فيه حفظ للنفس أو العقل أو العرض أو المال، ويتبع ذلك ما كان فيه حفظ للكرامة الإنسانية والحرية ومختلف الحقوق.
والأصل في القيم العليا أن تحفظ ذلك كله وتعزّزه، ولكن ظروف الحياة تجعل تزاحماً –أحياناً- بين مراعاة أمر ومراعاة غيره، فيقدّم الأَولى فالأَوْلى.
وعليه فإن الإيمان بالله، وبر الوالدين، والصدق، والأمانة، والشجاعة، وإغاثة الملهوف، وحسن الظن، وإكرام الضيف، وإصلاح ذات البين... قيم عليا ثابتة، لا تختلف على مرّ العصور، واختلاف البلدان والأفراد، إنما يقدّم بعضها على بعض عند التزاحم.
وإذاً: ألا يوجد أثر للنسبية في القيم في التصور الإسلامي؟
بلى، يوجد. وإنما يكون ذلك في التجليات المتبدلة للقيم، كالذي يرتبط بعادات الناس في اللباس والطعام والخطبة والزواج والتهنئة والتعزية... فقد شرع الإسلام في هذه الأمور أحكاماً ثابتة، وتوجيهات عامة. فما كان من توجيهات عامة فهو يحتمل في إطاره صوراً متطورة، أو قيماً نسبية.
التطور والثبات في القيم:
هناك تبادل في التأثير بين القيم والسلوك.
فحين نتبنّى قيمة ما فإنها تكون موجِّهة لسلوكنا. وحين نسلك مسلكاً ما ونرى عاقبته الحسنة، فإن هذا المسلك يعزِّز القيمة التي تنسجم معه، بخلاف المسلك الذي أدى إلى ضرر، فإن القيمة التي يرتبط بها تتعرّض لإعادة النظر!.
وهذا لا يقود بالضرورة إلى القول بالتطور المطلق للقيم، ويؤدي بالتالي إلى القول بنسبيّتها.
نضرب على ذلك مثلاً: إن إصلاح المجتمع ونشر الفضيلة والخير فيه، وإزالة المفاسد منه...قيمة عليا، وهو ما يسميه الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا باشر الإنسان بعض هذه المهمات تعرّض لأذى الناس الذين أمَرَهم أو نهاهم، وهذا الأذى يجعله يعيد النظر في هذه القيمة ويقول في نفسه: أليس خيراً لي أن أترك الناس وشأنهم ولا أعرّض نفسي لأذاهم؟! لكنّ هذا التشكّك في القيمة مردُّه إلى ضعف الفرد، وليس إلى أن القيمة نفسها في حاجة إلى تطوير أو تبديل، والقرآن الكريم يقول لهذا الفرد ما قاله لقمان الحكيم لولده: "يا بني أقم الصلاة، وأمر بالمعروف، وانْهَ عن المنكر، واصبر على ما أصابك. إن ذلك من عزم الأمور".
ولكن يبقى مجال للتطور في هذه المسألة وأمثالها: كأن يبحث الفرد عن أساليب أقرب للحكمة، تحقق القيمة، وتنفي الضرر المصاحب لتطبيقها، أو تقلل منه.
كيف نغرس القيم:
إذا قررنا أنه لابد من قدر مناسب من الثبات في القيم، حتى لا يضيع ميزان الصواب والخطأ، والفضيلة والرذيلة، والاستقامة والانحراف... فكيف نغرس القيم الصحيحة؟.
هناك طريقان يعزّز أحدهما الآخر ولا يغني عنه.
الأول: الطريق العقلاني بأن يعمل المربي على إقناع أبنائه وتلامذته أن قيمة الصدق مثلاً قيمة عليا، وأن قيمة الغدر قيمة سفلى، ويبيّن فوائد الأولى وأضرار الثانية.
الثاني: أن ينشئ القيمة عن طريق التعاطف الوجداني، بأن يبرز وجود هذه القيمة (العليا) في أناس يحبهم ويعظمهم، كإبراز قيمة الرحمة في شخصية أبي بكر الصديق، وقيمة العدل في شخصية عمر، وقيمة السخاء في شخصية عثمان، وقيمة الشجاعة في شخصية علي، رضي الله عنهم أجمعين. أو إبراز القيم العليا جميعاً في شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
ويعزّز هذا أن يتمثل المربي في سلوكه القيم التي يريد غرسها في نفوس تلامذته وأبنائه.
وبين الطريق العقلاني والطريق الوجداني، هناك الحوار، والعصف الذهني، والتوجيه، والتغذية الراجعة، والمكافأة، والعمل الفني الهادف، كالقصة والنشيد والمسرحية.
وليس غريباً أن نذكر أن السيرة النبوية بما جسَّدتْه من قيم عليا تمثلت في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم كالصبر والثبات والرحمة ولشجاعة... ومن طرائق عالج بها النبي صلى الله عليه وسلم مشكلات في مجتمعه، وغرس بها قيماً عليا في نفوس أصحابه... تُعَدُّ كنزاً ثميناً، ومنهلاً عذباً لمن أراد أن يتعرف على القيم العليا وعلى أساليب غرسها.
ونكتفي بذكر مثالين:
الأول: عندما كان صلى الله عليه وسلم يسوّي الصفوف في بداية غزوة بدر، وضرب بعودٍ في يديه بطن أحد أصحابه وهو "سواد بن غُزَيّة" فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقِدْني. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استِقدْ...(الخبر بطوله في سيرة ابن هشام).
فهل من أسلوب أجمل من هذا، لغرس قيمة العدل في نفس "سواد" وفي نفوس الصحابة الذين شهدوا الموقف، بل في نفوس المسلمين عبر العصور، الذين وصل إليهم الحدث؟!
الثاني: الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا رسول الله، ائذن لي في الزنا!" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل ادْنُ. ادْنُ.. ثم قال له: " أترضاه لأمك...أترضاه لأختك..." والرجل يقول: لا. فداك أبي وأمي. فيقول صلى الله عليه وسلم: " والناس لا يرضونه.."
وفي هذا المثال يمتزج الطريق العقلاني والطريق الوجداني حتى يكونا طريقاً واحداً.
وإذا كان الجانب المهم في الطريق الوجداني أن يجد "التلميذ" القيمة ممثلة في شخصية المربي وفي الشخصيات التي يبرزها لهم المربي ويحببهم فيها، فإن هذا المعنى يحمل إشكالاً، وهو أن أي شخصية –سوى الأنبياء- تعروها نقاط ضعف، بل تخالطها أحياناً انحرافات، فكيف يتلافى المربي الأثر السلبي لنقاط الضعف هذه أو الانحرافات؟!
على المربي أن يؤكد لتلامذته بين الحين والآخر أن الكمال البشري لم يتحقق لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم الذين تمثلوا القيم العليا في أعلى مستوياتها، وأن العظماء الآخرين قد تمثل كل منهم جانباً منها، أو قدراً محدوداً، وعلينا أن نقتدي بهذا الجانب المشرق، ونتجاوز عن نقاط الضعف أو الانحراف.
وعلى المربي كذلك أن يستثمر كل موقف تعليمي فيصدر أحكامه على السلوكات والأفعال التي تظهر من تلامذته، أو الأحداث والموضوعات التي يعرضها، فيوحي أحياناً، ويصرّح أحياناً، بأن هذا السلوك مستقيم، وبأن هذا الفعل خاطئ... وذلك وفق ميزان القيم الذي يبغي تعزيزه في نفوس التلامذة. وبذلك يعوّض عن كثير من آثار الضعف الذي يظهر في سلوكه هو، أو سلوكات الشخصيات التي يبرزها لهم على أنها حاملة للقيم العليا.
هل مفهوم القيم عالمي؟!
لدى كل مجتمع قيم. فمن هذه القيم ما يكاد يكون عالمياً، بمعنى أن البشر حيثما كانوا، يأخذون بها، كقيمة الصدق مثلاً، ومنها ما يكون قيمة عليا في مجتمع دون آخر، كالعفّة الجنسية.
مع ذلك فالخلاف بين مجتمع وآخر في سلّم القيم أكبر مما ذكرنا. فبينما تكون القيم في الإسلام جزءاً من الدين ثابتاً، لا يجوز الانفكاك عنه إلا وفق معايير وضوابط يحددها الدين نفسه، نجد هذه القيم في الفلسفات الغربية تخضع لمفهوم المصلحة. فإذا وجد السياسي مصلحة في الكذب فليكذب! فلا علاقة (عندهم) لقيمة خلقية بالسياسة، وقل مثل ذلك في الاقتصاد وفي الجنس وفي الفن...
وإذا كانت العفّة الجنسية قيمة عليا، فهي (عندهم) محصورة في المتزوجين.
وخلاف آخر مهمّ في شأن القيم بين مجتمع وآخر، وهو ترتيب سلّم القيم، فما كان مقدّماً في مجتمع قد يكون مؤخراً في مجتمع آخر. فبرّ الوالدين قيمة عليا في كل المجتمعات. لكن مكانته مقدمة جداً في المجتمع الإسلامي، بحيث يأتي مباشرة بعد الإيمان بالله تعالى، أما مكانته في مجتمعات أخرى فهي دون ذلك بكثير، فقد يكتفى منه بأن يقدّم الولد لأحد أبويه هديّة في عيد ميلاده، أو يزوره في دار العجزة مرة كل شهر!.
ويبقى مفهوم القيم العليا مهماً في توجيه المجتمع وأفراده و )من يهد اللهُ فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً(.
وسوم: العدد 748