استمراءُ التدمير للمناطق المحررة: إدلب نموذجًا

من منظور يغلب عليه الأسى، يرى كثيرٌ من المراقبين أن ما يحدث في سورية أمرٌ قد تجاوز حدود المعقول، فهو أقرب إلى كونه حالة هستيريا مرضيّة، شاركت فيها الأطراف المنخرطة في جولات العنف المسلح جميعها، و قد ناهزت تكلفته المادية،  في مجال البنى التحتية العامة ( 250 ) مليار دولار، في أقلّ تقدير، حسبما ذكر الوسيط الأممي دي مستورا، الاثنين: 27/ 11/ 2017م.

 إنّ هذا المشهد القاتم البائس لا يعبّر أبدًا عن سورية و شعبها، بميراث قيمها وثقافتها، وفقًا للصورة التي كانت المخزنة في الذاكرة الجَمْعية عن السوريين؛ فليس مبررًا للنظام من أجل بقائه، و بقاء شخص الرئيس أن تُحرَق البلد، كما أنه ليس مبررًا للفصائل بحجة القضاء على نظام حكم استبدادي و فاشي، ومن أجل الحرّية و التغيير، أن يحصل هذا التدمير المُمَنهج لسورية.

فقد نُهِبَت المقارّ الحكومية في جلّ المناطق التي تمّ تحريرُها، و أُخِذَت معدّات أبراج الاتصالات، و أسلاك شبكات الكهرباء، و فكِّكَت خطوط السكك الحديد، من وقت ليس بعيد، بعد هيمنة هيئة تحرير الشام على معظم محافظة إدلب.

 و هاهي الأحراش و الغابات في عموم المحافظة، و لعلّ أقربُها عهدًا في مناطق قورقنيا و حارم، تُقطع أشجارُها في ظلّ الهيئة، و ظل أداتها التنفيذية، حكومة الإنقاذ برئاسة د. محمد الشيخ، علمًا أن بعضًا من هذه الأشجار مآلُه الموت إذا ما قُطِع بهذه الطريقة الجائرة، و لاسيما الصنوبري منه، الذي يكون جذرُه وتديًا، فلا يتفرّع منه ما يُعيدُه إلى الحياة ثانية.

و هو الأمر الذي يتمّ جهارًا نهارًا و على يد أفراد، يتذرّعون بالانضواء تحت عباءتها، و بشكل معدّ له كجماعات هيأت للأمر وسائل القطع و التحطيب و النقل، و من غير أن يرفّ لهم جفن للكارثة التي ستحيق بتلك المنطقة، بعد زوال هذه الأشجار التي يشكِّل بعضُها حماية للطريق، من وهدة الوديان السحيقة على حافتي الطريق، التي يكتنفُها وادٍ سحيق.

حبذا لو اطلعنا على حرص الوحدات الكردية على مثل هذه المرافق، لا بلْ حتى النظام نفسه، فلم تُفكّك أية تجهيزات لها، و لم تُزَل أيّة مستلزمات من شبكات الاتصالات الخلوية، أو الأرضية، و لم يُنهب شيء من المدارس و الجامعات، و الأبنية الحكومية، و حتى في أثناء انسحابه من بعض المناطق و مراكز المدن، كالرقة و إدلب و حلب، أو القرى و البلدات الأخرى.

فكلّ ما حصل لها كان فيما بعد؛ الأمرُ الذي أعطى اِنطباعًا سيئًا عن الفصائل و الجماعات، التي وضعت يدها عليها، على الرغم من حالة النفي و الإنكار، التي تروّجها تلك الجماعات من نسبة ذلك إليها، و أنّ الأمر لا يعدو تصرّفات فردية، سيتمّ محاسبة الأفراد الصادرة عنهم، و هو أمرٌ لم يقنع كثيرًا من المحتجين و المستنكرين.

لقد تركت التصرّفات التي رافقت دخول الفصائل إلى إدلب، أواخر آذار/ 2015م، غصةً في نفس الأدالبة و السوريين عمومًا، بعدما ظنّوا أن تجربة دخول مدينة كسب، و ضواحي حلب الغربية، قد نبهتْ الفصائل، و جعلتْها تلملمُ أوراقها المبعثرة، علّها تعيدُ إلى صورتها شيئًا من الألق، بعدما خفتَتْ كثيرًا.    

إن ما يجرى في سورية هو تدمير هويّة وحضارة، و مقدّرات يصعُب تعويضُها في المدى المنظور، و في رأي البعض أنّه عمل مُبيَّتٌ، ليس هدفه تلبيةُ تطلّعات السوريين في الحريّة و العيش الكريم، و الخلاص من الظلم و الاستبداد، فما علاقة ذلك بالحرّيات و وضع الديمقراطيّة، إنّه إنهاك للدولة و للشعب في هذا البلد.

وسوم: العدد 749