الوطن أم لا تميز بين أبنائها ولا يأكل بعضهم التمر ويرمي البعض الآخر بالنوى
سئلت أم عن أحب أبنائها إليها فقالت : " الصغير حتى يكبر ، والمريض حتى يشفى ، والغائب حتى يحضر " . والمتأمل في كلام هذه الأم يلاحظ أنها لا تميز بين أبنائها في حبها لهم وعطفها عليهم إلا أنها تخص الضعيف منهم بعناية أكثر من إخوته . فالصغر والمرض والغياب أشكال من الضعف تجعل الأم منشغلة البال إذا ما نال شيء منها بعض أبنائها .
وما دمنا نسمي الوطن أمّا ـ وقد وفّق من سماه أمّا ولم يسمه أبا لما تتميز به الأم من عاطفة تجاه أبنائها مقارنة مع الأب ـ فإن المواطنين هم أبناؤها ، وفيهم الضعفاء والأقوياء. والوطن الأم لا يفرق بين أبنائه في حبهم والعطف عليهم جميعا دون تمييز، ولكنه بموجب عاطفة الأمومة كما عبّرت عنها الأم البشرية حين سئلت عن أحب أبنائها إليها من المفروض أن يهتم بأضعف أبنائه ، وبأكثر ربوعه تهميشا ونسيانا وإهمالا .
ولكن الواقع المؤسف أن وطننا الأم ـ ورغما عنه وبسبب سوء تدبير بعض أبنائه الأقوياء سلطة وجاها ومالاـ يجعلونه يبدو وكأنه يهمل أبناءه الضعفاء، والحقيقة أنه يتألم لحالهم كما تتألم الأم إذا أصاب أبناءه الضعف .
وما أكثر ضعفاء هذا الوطن الذين عانوا من الضعف حتى طفح الكيل ، فخرجوا يبكون ويشكون ضعفهم لوطنهم الأم إلا أن إخوانهم الأقوياء أساءوا فهم بكائهم وشكواهم ،واعتبروهما تمردا وخروجا عليهم ، وتهديدا لأمن الوطن الأم ، والحقيقة غير ذلك . ولقد كان خروج أبناء الوطن في الريف وفي الشرق المهمشين تعبيرا عن المعاناة، ولم يكن ذلك تمردا وعصيانا . وما موت سماك الريف في حاوية الزبالة ، ولا موت الشقيقين في جب الفحم بجرادة سوى قطرة أفاضت كأسا طافحة . وما كان للسماك في الحسيمة أن يموت في حاوية الزبالة ولا الشقيبقان أن يموتا متعانقين في غيبات جب الفحم لولا عسر لقمة العيش الذي يعاني منه أبناء الريف والشرق المهملين المهمشين .
وما كان للمقاربة الأمنية أن يقع التفكير فيها أصلا يوم خرج المواطنون في الريف والشرق يطالون بحقهم في حنان وعطف الوطن الأم . وما كان لقوات حفظ الأمن أن تبارح قواعدها وثكناتها لو أن الحكمة سبقت التسرع . وما كانت الحاجة تدعو ليقع صدام بين أبناء الوطن الجياع وأبناء الوطن الموكول إليهم حفظ أمنه ، وما كان لأبناء الوطن القضاة أن يعقدوا جلسات لمحاكمة إخوانهم الجياع لو غلب الإنصاف الإجحاف . وما كان لأبناء هذا الوطن الوزراء أن يحزموا حقائبهم إلى الريف والشرق المهمشين بذريعة الإنصات إلى أصوات الجياع وشكواهم ، وهم على بينة من حالهم بل هم أدرى بها من غيرهم لو أنهم بادروا بالإصغاء لصراخ المستضعفين قبل أن يطفح الكيل ،ويبلغ السيل الزبى . وما كان لأبناء الوطن الولاة والعمال وولاة الأمن ليغضبوا من صراخ إخوانهم المستضعفين لو أنهم اقتسموا معهم همومهم قبل أن تضطرهم ظروف العيش القاسية إلى رفع عقيرتهم بالصراخ . وما كان لهم أن يخشوا من صراخهم على مناصبهم أو أن يؤثروا أنفسهم على إخوانهم المستضعفين لو أنهم أنصتوا إليهم من قبل ، وأحسوا بما يعانونه .
وما كان لسيارة بلغت كلفتها 4 مليارات أن تهبط في مطار وطن فيه من ينتظر قنينة زيت أو كيس دقيق أو قطعة سكر تحت رحمة الثلج في عز قرّ الشتاء في أماكن نائية من الوطن الأم . ولو غلبت الرحمة القسوة لصرف ربّ هذه السيارة ثمنها من أجل إخوانه الجياع في المناطق المهمشة والمنسية . وما كان لمدينة الدار البيضاء أن تكون من المدن الذكية وشقيقاتها تعاني التهميش . وما كان لمدن طنجة ومراكش ومن على شاكلتهما أن تحظى بالعناية والرعاية ويشاد بها وشقيقاتها يلفها الإهمال . وما كان ينبغي أن تظل ربوع هذا الوطن بعد مرور ستين عاما على الاستقلال كما صنفها محتل الأمس (مغرب نافع ، ومغرب غير نافع ). وما كان لمدينة جرادة أن تحترق لعقود لتدفع الظلمة والغلس عن شقيقتها البيضاء الذكية وأخواتها . وما كان ليموت أبناء جرادة في جبّ الفحم لينعم إخوانهم الموسرون بالمدافىء والمكيفات . وما كان لأبناء جرادة أن يأكلوا رغيفا ممرغا في غبار الفحم وإخوانهم في المدن الذكية والسائرة في طرق الذكاء يصيبون ما لذ وطاب.
ولو سئل الوطن الأم من أحب أبنائك إليك لقال كما قالت الأم البشرية الريف والشرق وباقي المناطق المهمشة حتى يزول عنها التهميش والنسيان والإهمال.وما كان للوطن الأم أن يرضى بأبنائه الأقوياء وهم يأكلون التمر ويرمون إخوانهم الضعفاء بالنوى .
وسوم: العدد 754