الاحتجاجات الإيرانية، من سيدفع الثمن
من المؤكد أن ما جرى في إيران مؤخراً سيعجل بشكل أساسي من التبكير في تفجير الصراع بين مؤسسات النظام وأذرعه على مستقبل إيران، فعلى الرغم من إدعاء أدوات الدولة والثورة القمعية في الحد من حركة وحجم الاحتجاجات إلا أنه برأينا كان نجاحاً محدوداً، لأنه بموازاة ذلك سيؤزم بين فئات الشعب الإيراني بأطيافه المختلفة والنظام من ناحية، وبين نفس أجنحة النظام نفسه، والتي التقت فيما بشكل كبير لقمع الاحتجاج الشعبي، فلا خلاف أن خطاب (روحاني) لم يختلف كثيراً عن المرشد والحرس الثوري، ورئيس المحكمة الثورية، لكن يبدو أن ما تحقق في معركة “كسر حاجز تابو النظام وقدسيته ” قد رفع معنويات الشعوب الفارسية وغير الفارسية لتحدي الدولة والثورة بشكل أكبر وأوسع، بل وأعمق، والهجوم غير المسبوق على شخص المرشد الأعلى، والولي الفقيه ” المقدس” على خامنئي الذي أصبح مادة دسمة للشعارات والهتافات والكتابات الناقدة له في مختلف أنحاء إيران، ليعكس ما يُكنه الوعي في الباطن والظاهر من حقد دفين ضد المرشد الذي تم مطالبته بالرحيل هو وكل نظام ولاية الفقيه الذي بات المظلة الحامية للفساد و المسئول المباشر عن دمار مقدرات إيران داخلياً وخارجياً .
ما كشفته الاحتجاجات أيضاً هو فعلياً فشل الرهان على الجناح الإصلاحي الذي يقوده الرئيس الإيراني حسن روحاني مدعوماً بتياري الإصلاحيين والمعتدلين والزعماء البارزين في هذين التيارين أو الطيفين خاصة محمد خاتمي رئيس إيران الأسبق ومهدي كروبي، ومير حسين موسوي قائد الاحتجاجات الخضراء اللذين تخلوا جميعاً عن المتظاهرين، وتركوهم مكشوفي الظهر أمام أكبر حركة قمعية للنظام الإيراني، وفعلياً هم ابتعدوا عن مواجهة داخلية محتدمة مع المرشد والجناح المحافظ والحرس الثوري، معتبرين مقاربات النظام لمواجهة المحتجين هي الطريقة الأفضل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل شاطروا النظام أنها أسهمت في وأد الفتنة والمؤامرة الكبرى التي قادتها أميركا وإسرائيل والسعودية، وهو نفس التعبير الذي أجمع على استخدامه المرشد وروحاني، وجواد ظريف ومحسن رضائي، و قائد “الحرس” الثوري اللواء محمد علي جعفري .
ونحن هنا نتساءل عن الصورة التي بات يقدمها الجناح الإصلاحي ومن والاه عن نفسه داخلياً وخارجياً، حتى يتم التعاطي والرهان عليه لإحداث التغيير المأمول في إيران، خاصة بعد دخولهم في سجال ليس معاكس مع الثورة والنظام وأدوات الدولة القمعية، بل مكمل لبعضهما لمواجهة الاحتجاجات .
من سيدفع الثمن؟ :
هذه الاحتجاجات الداخلية سيدفع الجناح المحافظ والإصلاحي ثمنها الأكيد، فالمواجهة الراهنة في إيران أخذت تداعياتها تتشعب مع ما يجري توظيفها في الداخل الإيراني لصالح تيار التشدد، الذي بدأ يهاجم الرئيس روحاني وحكومته، على اعتبارهم المسئولين مباشرة عن التقصير في معالجة مشاكل إيران الاقتصادية وهو التوظيف الذي سيجهض حظوظ الرجل في الوصول إلى كرسي الإرشاد وسيؤدي أيضاً إلى تقليص فرص نجاح رئيس إصلاحي مستقبلاً على الرغم من انعدام فائدته .
فمناخ الترويع الذي باتت تعيشه إيران اليوم سيتجه نحو التصعيد، خاصة أنه سيتزامن مع زيادة حدة البيئة الصراعية في علاقات إيران مع واشنطن التي تتجه نحو التصعيد، خاصة مع رفع احتمالية فرض عقوبات اقتصادية عليها .
لا شك بأن مصطلح “الفتنة والمؤامرة “ الخارجية كانت الورقة القوية التي استطاع النظام الإيراني بكافة مستوياته، توظيفها لاحتواء الاحتجاجات، والتي استطاع تحالف الإصلاحيين والمعتدلين أيضاً التسويق لها بقوة، وظهرت نتائج هذا الاحتواء واضحة جليّة في إضفاء شرعية لقمع المحتجين، فضلاً عن توظيف أذرع الصحافة الإصلاحية ومواقعها الالكترونية للتبرير لذلك .
السؤال المطروح هل من بديل لهذين التيارين المتناحرين ظاهرياً، لا شكّ بأننا أمام مؤكدين وثابت :
–المؤكد الأول : يتضمن إقراراً بفشل كل منهما في قيادة البلاد على ضوء ما جرى من تأمر على طموحات الشعب الإيراني 0
– المؤكد الثاني : أن ما يحدث حالياً يؤكد تعثر لحكومة (حسن روحاني)، وهو دليل آخر على وجود قناعة تتزايد يوماً بعد يوم بحاجة إيران ليس إلى تيار أو جناح ثالث قادر على أن يقود البلاد ويخرجها مما هي فيه من صراعات داخلية واشتباكات خارجية، بل أن القدرة على التغيير باتت شبه مستحيلة على ضوء هذه المعطيات ، وهذا ما تأكد من خلال نتائج هذه الاحتجاجات وتداعياتها .
لكن الثابت، وما هو أهم، أن كل نظام ولاية الفقيه قد بات عاجزاً وغير قادر تماماً على تقديم إجابات مقنعة بل وملهمة لمئات الآف المحتجين ليس من الشباب الإيراني فقط ، بل ومن الشيوخ والنساء، الذين بدوا مقتنعين أنه لا مستقبل لإيران مع نظام ولاية الفقيه الذي تأكلت شرعيته في ظل تعثر السياسات الداخلية، والتداعيات الخارجية المدمرة، وبفعل السياسات العبثية لمؤسسات الدولة والثورة الإيرانية التي أوصلت إيران إلى الحضيض في مختلف المجالات، وما يقلق الإيرانيين أكثر هو ضبابية رؤية مستقبل إيران على ضوء هذه المتغيرات، وضرورة وجود البديل، وهو ما بدا جلياً من خلال الشعارات التي نادت بعودة الملكية لحكم إيران من جديد .
المثير أيضاً في موضوع الاحتجاجات أنها لم تعد تؤمن بالبحث عن البديل “الشخص لتنصيبه، بل في أهمية “كنس” النظام وأدواته برمتها، والمطالبة برحيلها، وهذا له مغزاه ودلالاته الخطيرة والمهمة . ما يهمنا الآن أن النظام يداري نفسه، وبات غير مبال أو مُدرك تماماً لهذا التطور، تصريحات خامنئي أول من أمس بوجود مضلع تأمري ضد إيران، لا شك بأنها تمثل محاولة عبثية غبية للهروب إلى الأمام، ومن واقع مرير، لا خلاص سحري له، وبات حريصاً على أن يجمع مجدداً بكل الأوراق والكروت المحروقة بين يديه، وأن يتحكم في كل سلطات الدولة اعتقاداً منه أن هذا هو الوقت المناسب لحماية الثورة الإسلامية ونظامها السياسي المعرضان للخطر بسبب وجود مؤامرة كونية ، التي باتت كالمشجب الذي يعلق عليه النظام كل أخطاءه وعثراته .
ما يدركه الجميع الآن أن إيران باتت على أبواب مرحلة انتقال ثوري في أية لحظة خاصة مع وجود معطيات داخلية دافعة للانفجار، هذا عدا عن احتمالية أن يغادر فيها المرشد خامنئي الحياة، فضلاً عن كثافة ما تتعرض له إيران من ضغوط خارجية.
لا شك بأن سياسات علي خامنئي واسطونات خطاباته المشروخة المتكررة الداعية إلى دعم “الاقتصاد المقاوم ونشر الثقافة الإسلامية وتعميقها”، ومطالبة الشعب بأن يكون “ركيزة الشعب المؤمن والثوري، وخندقاً حصيناً يتصدى لأطماع الاستكبار الوقحة”، باتت بحكم فاقدة الصلاحية والمنتهية أصلا ، لأن النظام برمته بات يعيش معركة كسر عظم مع الشعب الإيراني برمته . النظام الإيراني : الفشل في البحث عن مخرج : وسط هذه الظروف والمتغيرات يبدو أن النظام يتجه نحو “الانتحار الطوعي” مع غياب الخيارات والبدائل أمامه في ظل التحديات الداخلية والخارجية الهائلة، والمؤكد أن التوافق بين التيارين أو الجناحين ضد الشعب الإيراني وتطلعاته بات مدخلاً مهماً لإعادة انفجار الأزمة مجدداً، ونستطيع القول أنه قد حدث هناك تفاهم بينهما على إخماد الاحتجاجات مهما كلف الثمن . وما حدث باختصار شديد هو حرص الجناحين على إقصاء طموحات الشعب وتطلعاته المشروعة في التغيير مهما كلف الثمن . هذا المسعى للتفاهم الداخلي وللتفاعل غير الإيجابي بين الجناحين سيواجه بتحديين أولهما : أن الحرس الثوري ومن خلفه صقور الأصوليين والمحافظين مع فكرة أن هذه الاحتجاجات قد شوهت صورة روحاني وحكومته، وهم يتعجلون الخلاص منه ، وحرمانه من فرص الجلوس على عرش الولي الفقيه .
–وثانيهما : علاقات إيران الخارجية مقبلة بالتأكيد على أيام عجاف مع الطرف الأمريكي، إضافة إلى حالة الاشتباك القوي مع أطراف إقليمية وخاصة السعودية على صعيد العلاقات الثنائية وعلى خط جبهة الأزمات الإقليمية، لكن ما هو أهم من كل ذلك هو أن ضغوط الأطراف الخارجية باتت تضع الإصلاحيين والمحافظين في ميزان واحد، وهذا الأمر صحيح بمجملة، ما سيؤدي إلى حشر حكومة روحاني في الزاوية ، ومن شأنه أن يُسهم في إضعاف تمكين الإصلاحيين خاصة بعد إعلان ترامب لإستراتيجيته، حيث يحرص الأصوليون والمحافظون معاً على توظيف الضغوط الخارجية لانتزاع السلطة من الرئيس روحاني ومن الإصلاحيين والمعتدلين عموماً، ما يزيد من حنق الشرائح المؤيدة لهذا التيار، وسيسهم في التعجيل بانهيار الوضع الداخلي الإيراني .
على الجانب الآخر كانت الإدارات الأميركية وإسرائيل سابقاً تتبنى، إستراتيجية خدمة تيار التشدد في إيران عن عمد، فما أن تقترب الانتخابات في إيران، وتبدأ حملات الهجوم والانتقاد لإيران، بهدف إعطاء المحافظين أوراقاً قوية لتوظيفها في صراعهم السياسي الداخلي ضد الإصلاحيين، كما أن هذه الضغوط وجدت لها أصداء قوية لدى المتشددين في صراعهم على السلطة مع الإصلاحيين، والتي لا تلبث واشنطن من خلاله توظيف وصول المتشددين لابتزاز الدول العربية ؛ لا سيما الخليجية، وعقد صفقات التسلح، وتعزيز وجودها العسكري، وإشغال العالم العربي عن التعاطي مع القضية الفلسطينية . الهجوم الضاري الذي شنه المرشد الأعلى علي خامنئي أول من أمس على المثلث التأمري لم يتوقف، فقد سبقه قادة من الجيش والحرس الثوري بتوجيه التهديد المباشر بالتصريحات السعودية وضرورة انتظار الرد، ولكن تعمد الدخول في صدامات مع الخارج والاحتكاك الساخن معها للتضخيم من خطورة وجدية التهديدات الخارجية ومن ثم توظيف هذا المتغير لفرض خيار أن “التشدد هو الحل الأمثل “، سيسرع هو أيضاً في عملية الانفجار الداخلي أيضاً. تأكيدات أمين عام مجلس الأمن القومي الأدميرال علي شمخاني بأن “طهران سترد على التدخل السعودي في دعم الاحتجاجات ” نموذج واضح على هذا التصعيد ، و هذا من شأنه نقل اهتمام الشعب الإيراني للخارج قليلاً ، وهو ما تطمح له طهران الآن .
بالمجمل ما حصل في إيران من تطورات سيحرص المرشد والحرس والتيار المحافظ والأصولي على استغلالها ضد روحاني وحكومته، و تحويل قمع السلطة للاحتجاجات إلى انتصار داخلي يدعم الوزن السياسي للمرشد، وتصويره على أن ما جرى نعمة، وليس نقمة لإيران؛ لأنه كشف عن العملاء والمتآمرين والخونة، لكن الهدف النهائي هو إبعاد الشعب الإيراني بأطيافه المختلفة عن أن يكون طرفاً مهماً في تحديد مستقبل النظام السياسي في إيران.
د. نبيل العتوم
رئيس وحدة الدراسات الإيرانية
مركز أميه للبحوث والدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 754