القدس إسلامية الهوية عاصمة فلسطين الأبدية (24 +25)
أمن السلطة يجهض غضبة القدس ويطعن ظهر الشعب
غريبٌ جداً ما يجري في مدن وبلدات الضفة الغربية، ومستنكرٌ للغاية ما تقوم به أجهزة السلطة الأمنية في الأوساط الشعبية الفلسطينية، إذ في الوقت الذي نطالب فيه دول العالم والمؤسسات الدولية والهيئات الأممية بالوقوف معنا وإلى جانبنا ضد قرار ترامب الأخير بحق مدينة القدس، الذي قضى بها عاصمةً للكيان الصهيوني، وضد السياسات الأمريكية المنحازة كلياً إلى سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تطالعنا أجهزة أمن السلطة الفلسطينية بسلسلةٍ طويلةٍ من الإجراءات التعسفية والممارسات الاستفزازية بحق قطاعاتٍ مختلفةٍ من أبناء شعبنا الفلسطيني، الذي يعاني من نير الاحتلال، ويقاسي من ويلات الحصار والجدار، ويواجه بثباته ووجوده الأطماع الصهيونية اليمينية المتشددة، وأحلام المستوطنين الجشعة.
على الرغم من أن الشعب الفلسطيني في حاجةٍ ماسةٍ إلى التماسك والوحدة، وإلى الائتلاف والوفاق والاتفاق، وإلى التنسيق والتنظيم والتفاهم، وحاجته الطبيعية والمنطقية في ظل الأحداث المتصاعدة والتحديات المحلية والدولية المتفاقمة إلى قيادةٍ وطنيةٍ موحدةٍ عاقلةٍ رشيدةٍ واعية، تأخذ بيده إلى بر الأمان، وتسوقه وسط الأنواء والعواصف السياسية والأخطار الأمنية والعسكرية نحو أهدافه الوطنية، بما يحفظ تضحياته ويحمي ثوابته التي يناضل من أجلها، ويقاوم في سبيل الحصول عليها، إلا أن أجهزة أمن السلطة تعمل على الضد من ذلك، وتخطط لإفشال أي مساعٍ وطنيةٍ عامةٍ أو جهودٍ فرديةٍ خاصةٍ، للحيلولة دون نجاح الشعب في تأطير قيادته الموحدة للانتفاضة، وإبطال أي مسعى له لتنظيم الفعاليات اليومية والتنسيق بين الأطراف الوطنية الفاعلة، وكأنها لا تريد للشعب أن يهب لمواجهة قرار الرئيس الأمريكي، ولا ترغب في أن ينجح في إبطال القرار أو أن يتصدى له، وكأنها تلتزم تجاه المجرم باتفاق، وتتعهد إزاء المعتدي بضمان عدم إغضابه أو إزعاجه.
تقوم الأجهزة الأجهزة الأمنية الفلسطينية بحملاتٍ واسعة لاستدعاء النشطاء الفلسطينيين لمقابلة ضباطها للتحقيق معهم، وأخذ التعهدات منهم لضمان عدم مشاركتهم في أي أنشطةٍ أو فعالياتٍ احتجاجيةٍ، في الوقت الذي تقوم فيه باعتقال العشرات من الشبان الميدانيين والطلاب الجامعيين، كما تقوم باقتحام البيوت والمنازل، وانتهاك حرمة المواطنين والآمنين، في تقليدٍ سافرٍ لسلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي اعتادت على انتهاك الحرمة الفلسطينية، ولكننا لا نعيب عليها فعلها، فهي سلطات احتلالٍ غاشمةٍ، ولا ينتظر أحدٌ من محتلٍ خلقاً أو ليناً ورفقاً، ولكننا نستنكر ونستغرب أن تقوم سلطةٌ وطنيةٌ بمثل أفعال العدو وممارساته.
هل تريد السلطة الفلسطينية أن تنهي الاحتجاجات الشعبية، وأن تحبط الهبة الجماهيرية، وأن تقضي على حلم الفلسطينيين بابتداع انتفاضةٍ شعبيةٍ ثالثةٍ، لها أهدافها وعندها غاياتها، لهذا فهي تعتدي على المظاهرات والمسيرات، وتحاول قمع المحتجين وتفريق جموع المتظاهرين، في الوقت الذي لا تنكر فيه استمرارها في عمليات التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي تقوم أجهزتها الأمنية يومياً بمداهمة البيوت والمنازل واعتقال عشرات الفلسطينيين من جميع الفئات العمرية والانتماءات السياسية ومن الجنسين معاً، فضلاً عن الصبية والأطفال الذين لم يبلغوا بعد عامهم السادس عشر.
إننا نشعر بالكثير من الحياء والخجل ونحن نطالب الشعوب العربية والإسلامية بأن تقف معنا وتساندنا، وأن تؤازرنا وتنصرنا ضد السياسات الأمريكية الظالمة والممارسات الإسرائيلية الجائرة، في الوقت الذي تقوم فيه أجهزتنا الأمنية، التي يفترض أنها أجهزة وطنية تتبع السلطة الوطنية، وتدعي أنها لخدمة المواطنين الفلسطينيين والسهر على راحتهم، وأنها لا تقوم أبداً بأي عملٍ من شأنه الإضرار بالمصالح الوطنية الفلسطينية، وأنها لا تأتمر بأوامر سلطات الاحتلال ولا تنفذ سياستهم، ولا تتستر على جرائمهم وتسكت على مخططاتهم، لكن الحقيقة هي عكس ما تدعي ونقيض ما تقول.
على السلطة الفلسطينية أن تعلن ولاءها لشعبها الفلسطيني، وأن تجاهر بمواقفها الوطنية التي يفترض بها أن تتخذها في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ شعبنا ومسيرة أمتنا، وعليها أن تكون إلى جانب شعبها، وأن تصطف معه، وأن تكون له قوةً تحميه وسلطةً تدافع عنه، وأن تمنع أي تغولٍ عليه أو استفرادٍ به، وإلا فإن شعبها لن يغفر لها جريمتها، ولن يرحمها على فعلتها، والتاريخ دوماً يحفظ سير الأبطال وقرارات الوطنيين، كما يحفظ دائماً أسماء المتخاذلين وسير المتعاونين والخائنين.
كما يجب على السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية إلى جانب إعلان الولاء للشعب والأمة، أن تعلن البراءة من العدو الصهيوني ومن كل ما يمت له بصلة، أو يتعاون معه ويسانده، أو يؤيده وينصره، إذ لا معنى ولا مبرر اليوم ولا بأي حالٍ من الأحوال لاعترافٍ بالعدو، أو تعاونٍ وتنسيقٍ معه، كما لا معنى للقبول بالولايات المتحدة الأمريكية وسيطاً لسلام، وراعيةً للعملية السلمية، إذ أنها أصبحت بقرارها الأخير وسياساتها الدائمة، القديمة والجديدة، شريكاً مع الكيان الصهيوني، تماثله في العدوان والاعتداء، وفي الغصب والظلم، وفي إرساء مفاهيم العنصرية والكراهية، وفي زرع بذور الفتنة والحقد وإشعال نيران الحروب في المنطقة.
جريمةٌ كبيرةٌ هي تلك التي ترتكبُ في حق الشعبِ الفلسطيني الشريف الأبي، الثائرِ الحرِ، المقاومِ المنتفض، الغيور الجسور، الذي انتفض بشبابه وثار بشيوخه وخرج بنسائه وأطفاله، وقاوم بروحه وجسده ونفسه وماله، غير آبهٍ بجبروت العدو، وغير خائفٍ من قوته وسلاحه، وغير مترددٍ في مواجهته ومقاومته، إذ يسكنه اليقين بالنصر، ويملأه الاعتقاد بالغلبة والتمكين، فعجز العدو عن قمعه، وفشل في إسكاته، ولم تتمكن كل أدواته من النيل من عزيمته وإرادته.
فقد أعيا العدوَ صبرُه، وأتعبه ثباتُه، وأضناه يقينُه، وفت في عضده تضحياتُه، وأعجزه صمودُه، وبثَ الرعبَ في قلوبِ جنوده إقدامُه، وهزم نفوسَهم استعدادُه، فحرامٌ على سلطةٍ هذا شعبها، وهؤلاء الصيد الأباة الكماة الأبطالُ أبناؤها، أن تنقلب على ثورتهم، وأن تجهض انتفاضتهم، وأن تخونهم وتطعنهم بخنجرها في القلب أو الظهر، خدمةً للعدو وسعياً لنيل رضاه الذي لا يدرك، وأملاً في عدله المستحيل، فهذه الطعنات لا تصيب الشعب فقط بمقتلٍ، بل تصيب القدس والأقصى والوطن والأمة.
القدس إسلامية الهوية عاصمة فلسطين الأبدية (25)
في ظلال حطين المجيدة وانتصارات صلاح الدين العظيمة
في ظل المعركة الكبرى التي أشعل أوراها وأوقد نارها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بإعلانه القدس عاصمةً أبديةً للكيان الصهيوني، فأغضب بقراره المشؤوم العرب والمسلمين، وكان سبباً في ثورة الفلسطينيين وانتفاضتهم احتجاجاً على قراره وغيرةً على مدينتهم، نعيش هذه الأيام ذكرى معركة حطين المجيدة، التي وضعت حداً قاطعاً لاحتلال القدس وضياعها، وأنهت غربتها عن محيطها وفرنجتها رغماً عنها، وهي المعركة الفصل التي كان لها فضل إنقاذ مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك من براثن الغزاة الصليبيين، الذي استولوا عليها وعاشوا فيها قرابة قرنٍ من الزمان، عاثوا فيها فساداً وتخريباً، وقتلوا فيها آلاف المسلمين ذبحاً، واستباحوا حرمات المسلمين في مدينتهم ومسجدهم، الذي قتلوا فيه عشرات آلاف المسلمين على بلاطه، حتى ساخت أقدام خيولهم في أجسادهم، وغاصت في دمائهم، وغيرت معالم مسجدهم، ورفعت الصليب فوق قبابه ومآذنه.
ما أشد حاجة الفلسطينيين اليوم ومعهم العرب والمسلمين إلى صلاح الدين جديدٍ، يثور من أجلهم، وينتفض غيرةً عليهم، ويسير الجيوش لإنقاذهم وتحرير بلادهم، وينتقي خيرة الجند وأمهر الفرسان لمعركة الفصل والفرقان، يدربهم ويؤهلهم، ويعدهم ويجهزهم ليومٍ عظيم يترقبه، ومعركةٍ كبيرةٍ لا بد منها، فكان لا يشغله عن هذه المهمة شيئٌ، ولا يعطله عنها أمرٌ آخرٌ مهما بلغ.
إذ اعتقد أن تحرير القدس واجبٌ، واستعادة المسجد الأقصى من الغاصبين استعادةً للشرف والكرامة، وتحقيقاً للعزة وحفظاً للدين والهوية والحضارة، فقد أبكت القدس عيونه وأدمت قلبه، وحرمت عليه الابتسامة والضحك، ومنعته من الهزل والمرح، إلا أن تعود درة مدن بلاد العالم الإسلامي إلى كنف المسلمين حرةً أبيةً، وتتطهر من الرجس الذي سكنها، وتتحرر من الظلم الذي سادها، فهي المدينة التي يجب أن يسكنها السلام ويعمها السلام فهي أرض السلام.
لكن صلاح الدين الأيوبي بطل حطين ومحرر القدس، ما كان له أن يحقق غايته وتكتحل عيونه بربى القدس، ويسجد بجبهته في المسجد الأقصى، ويبنى له منبراً ما زال إلى اليوم قائماً ويحمل اسمه، وإن امتدت إليه يد الخراب فأحرقته، وأصابه بلى المستوطنين فخربوه، إلا أن يوحد الأمة الإسلامية، وأن يجمع على الحق كلمتها، وأن يزيل الخلافات التي كانت سائدة بينها، فقد عرف أن قوة العرب والمسلمين لا تكون ولا تتحقق إلا إذا التقت مصر والشام، واتحدت القاهرة ودمشق، وهذا الذي كان فعلاً، وبه تحقق النصر وانتصر المسلمون، ودخلوا القدس والمسجد الأقصى فاتحين مهللين مكبرين.
اليوم تواجه القدس ومعها كل فلسطين ذات الأخطار التي كانت تواجهها قبل العام 1187م، عندما استوطن الصليبيون والفرنجة، القادمون من بلاد الغالة فرنسا ومن انجلترا وألمانيا والنمسا، ومن كل الامبراطوريات الأوروبية التي سادت في أوروبا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وسكنوا القدس وفلسطين وبنوا لهم فيها مستوطناتٍ في الرها وأنطاكية وبيت المقدس وصفد وغيرها، وظنوا أنهم سيخلدون في بلادنا، وسيمكثون إلى الأبد في أرضنا، فعمدوا إلى تغيير معالمها وتبديل ثقافتها وفرض ديانتهم عليها، وقتلوا المعارضين لهم والمقاومين لوجودهم، حتى استكانت القدس لهم، وخضعت الأرض المحيطة لها لحكمهم، وجاء ملوك أوروبا للحج في القدس، ومعهم وفودٌ عديدة اعتقدت أن الأرض التي دانت لهم ستكون لهم مدى العمر، وأنهم سيعمرون فيها وسيشيدون المعابد والقصور، وسيعيشون فيها وتحت ترابها سيدفنون.
إلا أن صلاح الدين الأيوبي ومعه كوكبةٌ مباركةٌ من علماء الأمة الإسلامية العاملين الأكفاء، الصادقين المخلصين، انبروا جميعاً عرباً وعجماً للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، فحرضوا على القتال، ودعوا الأمة إلى القتال دفاعاً عن حرماتهم، والاستبسال لاستعادة أرضهم وتحرير قدسهم، وبثوا الحماسة في قلوب المسلمين، وزرعوا الحمية والغيرة في قلوبهم، وحركوا شبابهم وأطلقوا طاقاتهم وحرروا قدراتهم، وجابوا البلاد في مصر والشام يعبؤون الأمة ويشحذون هممها، حتى كان جيش صلاح الدين الأيوبي جيوشاً لجبةً، وأبطالاً عظاماً، وجنداً لا حصر لعددهم، ولا خوف على عديدهم، يخافهم العدو ويحذر بأسهم، وقد كان لهم ما أرادوا، وحققوا الهدف الذي من أجله انطلقوا وعلى أساسه اتحدوا.
أما الولاة والعاملون، وأمراء الجند وقادة المناطق والقطع العسكرية المختلفة في كل البلاد والأمصار الإسلامية، فقد انشغلوا في إعداد الجند وتنظيم الجيوش وتدريب الناشئة، وشراء السلاح وتحديثه والاطمئنان إلى مخازنه والذخيرة المتوفرة فيه، وطهروا جيوشهم من كل الخونة والمارقين، ونظفوا صفوفهم من كل العابثين واللاهين، حتى لم يبق بينهم ومعهم إلا المخلصون الصادقون، الواثقون بنصر الله والساعون بصدقٍ وجدٍ إليه، الذين بهم انطلق صلاح الدين، ومعهم قاتل الأعداء وانتصر عليهم.
واستجاب لصلاحِ الدين الأيوبي وقادتِه ورجالِه التجارُ والأثرياءُ، والأغنياءُ والقادرون من أبناء الأمة، الذين تبرعوا بما يملكون وجادوا بما يستطيعون، وملأوا خزائن الجيش ومستودعاته بالمؤونة والغذاء والقمح والسمن والعسل وغير ذلك مما تحتاج إليه الجيوش، ويلزم الجند للمسير والقتال، والصبر والثبات، حيث كانت المؤن والأغذية تصل إلى الجيش من أقصى أصقاع الأرض في صعيد مصر وشمال بلاد الشام، حتى ما بقي قاطنٌ في هذه الأرض إلا وكان له سهمٌ في هذه المعركة، وفضلٌ في تحقيق النصر وتحرير الأرض واستعادة القدس.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى مثل هؤلاء القادة والرجال، الذين ينذرون حياتهم من أجل الوطن، ويضحون في سبيله بأرواحهم وأموالهم، ولا يخافون من العدو، ولا يجبنون عن مواجهته، ولا يتأخرون عن ملاقاته، ويبذلون غاية جهدهم لتوحيد الأمة وجمع كلمتها ورص صفوفها، ولعل حطين التي أغاظت الفرنجة وهزمت الصليبيين ودفعت جنرالهم غورو أن يقول للدمشقيين، ها قد عدنا يا صلاح الدين، تنتظر منا أن نعيدها من جديد بانتصارٍ آخر وتحرير كبيرٍ ومجدٍ تليدٍ، يشفي القلوب ويروي غليل العطشى إلى استعادة الكرامة، واسترجاع العزة التي فقدت والهيبة التي ضاعت.
وسوم: العدد 755