الفلسفة الإسلامية للتاريخ
تتطلع "فلسفة التاريخ" إلى استجلاء مسار التاريخ وغاياته ومآلاته، ويُرجع بعض الباحثين الفضل بإنشاء فلسفة التاريخ إلى العلامة المسلم ابن خلدون (1332 – 1406 م) الذي كان أول من حاول تقديم رؤية فلسفية شاملة لمجريات التاريخ في موسوعته الفريدة "المقدمة" بينما ينسب باحثون آخرون نشأة فلسفة التاريخ إلى الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694 – 1778م) .
وينطلق الفيلسوف عادة في فلسفته للتاريخ من المبادئ التي يؤمن بها ، ويستهدف من هذه الرؤية بيان العلاقات السببية التي تربط مجريات التاريخ بعضها ببعض، واستشراف الاتجاه العام لتلك المجريات، واستنباط الغاية التي يروم التاريخ تحقيقها .
ولعل أكثر ما يشغل بال فلاسفة التاريخ ظاهرة "السببية" أي محاولة فهم العلاقة ما بين مقدمات الحوادث ونتائجها، وما إذا كانت تلك العلاقة علاقة حتمية أم اعتباطية .
وبما أن كل واحد من فلاسفة التاريخ ينطلق في إجابته على هذه الإشكاليات من معتقداته ومما يؤمن به من مذاهب وآراء فإننا نجد تبايناً واضحاً في النظر إلى التاريخ ما بين فيلسوف وآخر، فنجد أن كلاً منهم ينتهي إلى رؤية مغايرة لمسار التاريخ وغاياته ومآلاته؛ ولهذا السبب لا غرابة أن تختلف "الفلسفة الإسلامية" للتاريخ عن غيرها من الفلسفات، فهي تقوم على مبدأ أساسي هو أن لهذا الكون خالقاً مدبراً عليماً خبيراً حكيماً بصيراً، قدَّر كل شيء في هذا الوجود تقديراً محكماً دقيقاً، ووضع فيه القوانين الكونية التي تضبط حركاته، واستخلف فيه الإنسان، وأنزل عليه الشرائع السماوية ووجهه أن يسير على ضوئها إذا هو أراد حياة هانئة في هذه الدنيا ونعيماً مقيماً في الآخرة، علماً بأن الخالق العظيم قد ترك للإنسان الحرية الكاملة في قبول هذا التوجيه أو رفضه، فقال تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) سورة الكهف 29 ، ولابد أن نلاحظ هنا أن الخالق العظيم قد ترك للإنسان حرية الاختيار لكن حذَّره من مغبة مخالفة هذه الشرائع لأن مخالفتها تفضي إلى الخسران المبين في الدنيا والآخرة، فكما أن مخالفة السنن الكونية تفضي إلى الفشل بالتعامل مع مخلوقات هذا الدنيا فكذلك مخالفة شرائع الله تفضي إلى الخسران المبين ليس في الدنيا وحدها وإنما في الدنيا والآخرة جميعاً !!
وهكذا نرى أن الفلسفة الإسلامية للتاريخ تختلف اختلافاً جوهرياً عن الفلسفات المادية التي لا ترى في التاريخ سوى سلسلة من الأحداث التي لا ضابط لها ولا معنى ولا هدف، بالرغم من أن كل الدلائل العلمية تشير إلى أن هذا الكون ما كان له أن يقوم من دون خالق مدبِّر حكيم .. سبحانه .
أضف إلى هذا أن أصحاب الفلسفات المادية يعتقدون أن التاريخ لا يعدو فترة حياتهم الدنيا التي هي في زعمهم كل شيء، ثم لا شيء بعد ذلك، فهم يرون أن لا بعث بعد الموت ولا حساب ولا عتاب، ولسان حالهم يقول : (إنْ هِيَ إلا حياتُنا الدُّنيا نَموتُ ونَحيا وما نَحْنُ بِمَبْعُوثينَ) سورة المؤمنون 37 ، فيأتيهم الجواب صاعقاً مجلجلاً: (زَعَمَ الذينَ كَفَروا أنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سورة التغابن 7 .
فيا فوز من أدرك هذه الحقائق، وعرف حقيقة فلسفة التاريخ، وأدرك حكمة الله عزَّ وجلَّ مِنْ خَلْقِهِ إذ قال سبحانه وتعالى : ( وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدونِ) سورة الذاريات 56.
وسوم: العدد 755