نادمون
قدري شوقت محمد الراعي
"والحق أنها كانت معارك تافهة , لم نجن منها سوي الاحراق في الأعصاب
والتبديد في الجهد , والصعوبة في بلوغ الحلم والأمنية…"
قدري شوقت محمد الراعي
نادمون…
لأننا خسرنا كل شيئ , خسرنا الماء والهواء والحلم…
خسرنا كل شيئ ….حتي الحب.
لم يعد مما نملكه سوي بيت من الرمل , وأحلام نعلم أنها سرابية ..
وأطلال نبكي عليها عمرنا الذي أنفقناه في الوهم..
ومشوارنا الذي قطعناه نحو العدم..
ومشاعرنا التي بعثرناها علي حب ممل , وكائنات رخيصة , وأفكار ساذجة …
نادمون…
لأننا أخطأنا في قراراتنا , وأفكارنا , وحساباتنا..
لأننا تصرفنا بحماقة عندما اشترينا الحب بالعذاب , واخترنا بإرادتنا طريق الأشواك نخطو عليه.
وعلقنا هويتنا علي صدر وطن متوحش…
وبعنا صوتنا بالمجان لمن لا يستحق..
ونزفنا من دمنا الغالي لننقش في حنايا القلب وشماً لحبٍ لا وجود له سوي في خيالنا..
نادمون…
لأننا تركنا أنفسنا نهباً لأوهام ومثاليات ليست واقعية , حتي وقعنا في شرك خرافة كبري
اسمها " المدينة الفاضلة "..
مضي بنا الوهم المريض أعواماً , وعمراً..يحرضنا ويغرينا بالبحث عنها في دأب واصرار
حتي اكتشفنا في نهاية المطاف كم كانت حماقتنا جسيمة..
فلا "الشرق" يحيا علي أرضه مدينتنا الحلم.
ولا "الغرب" يحمل في أحشائه السوداء شيئاً من فضيلة…
حياتنا حبلي …..ولكن بالغرائب.
حياتنا حبلي…..ولكن بالوحوش.
أوهل سمعتم أن ثعباناً ذات يوم قد أتحف الدنيا بعصفور...؟
أو أن ثعلباً قد تمخض ذات يوم عن حملٍ وديع....؟
نادمون...
لأننا رغم كل هذا العمر الطويل فشلنا في أن نعرف..(من نحن؟) , و (ما نريد؟)..
وكيف تحيا " كرامتنا " في سلام إذ ما قالت شفاهنا الصدق ولم تجامل...؟
وكيف نجتاح الصبح الجديد بقلب لا يهاب الشر إن ثار..
ولا الرزق إن فات...
ولا الحب إن مات..
ولا الخل الوفي إن غدر...؟
وكيف نلج المساء بقلب لا يدنسه القلق , ولا يبعثره الخطر , ولا تسلبه مرارة العجز نشوة الحلم وبهجة الأمل.؟
نادمون...
لأننا في معظم قراراتنا المصيرية التجئنا إلي " القضاء العاطفي " , ولم نفكر مرة أن نعرض قضايانا أولاً علي
" المحكمة العقلية ".
والنتيجة أننا حيناً فرحنا..وقليلاً ما انتشينا..ولكننا في معظم الأحايين انتكسنا , وخسرنا أشياءاً مهمة , وجعلنا
نندب حظنا كالثكالي..
نادمون...
لأننا منحنا ولاءنا وطناً لا يستحق..
وأوقفنا عليه انتماءنا الأبدي , ونظمت له قرائحنا حكايات في الحب , وقصائد شعر , وأساطير.
ولهجت ألسنتنا بالثناء عليه سنين , وعزفت له قلوبنا لحن الوفاء , وأنشدت له ضمائرنا موال العشق الخالد.
وعاقرنا لأجله المخاطر , والليالي الطوال المخلوطة بنكهة النضال.
ولكننا كنا كعادتنا أغبياء....
كنا كعصفور وسط نار..
أو كصوفي في بيت محتال كبير
كأقزام علي أرض لا يطأها إلا أقدام العمالقة..
كدراويش في حانة للسكاري , أو في وكر للمجرمين...
مثل شاعر في " سوق عكاظ " هذا العصر...
سوق كبير...
لكنه لا يعرف (الأدب) ...يكفر بالشعر...لا يعرف إلا لغة (اتفقنا) أو (يفتح الله) أو (هات وخذ).
إنه وطن الجحيم..
ودولة القهر..
وبلاد العدالة المشنوقة علي مرأي للعباد , بأمر واصرار من أباطرة الفساد...
نادمون...
لأننا فشلنا في أن نتعلم لغة هذا العصر..ولم نعر اهتمامنا لدراسة أبجدية هذا الزمان..
ويالها من لغة غريبة...
ويالها من أبجدية عجيبة..إنهم جعلوا حروف الكذب لها دلالة علي الذكاء الإجتماعي.
واعتبروا عبارات التملق المتأنقة اعراباً عن المجاملة الضرورية في تقويض التعامل وتدجينه.
ورفعاً إلي المناصب العليا...
ونصباً علي الضمائر الساذجة..
وجراً للمكاسب السريعة , والحقيرة أيضاً.
إنهم بدلوا " الفطرة " عن مواضعاتها..
فليس الصدق في زعمهم سوي غباء.
وليس الضمير في عرفهم سوي بالوعة عفنة في أعماق النفس ملآنة بأفكار بالية , ينبغي أن تسد حتي لا تفسد علي وجودهم لذته.
وما الغش إلا كياسة..والمراوغة ضرب من الموهبة.
والبطش , والجبروت , والتعسف أسلحة شرعية ومبررة تقتضيها دواعي التسييد , والتسييس.
لقد صادر أوغاد هذا العصر كل معاجم الكلمة الطيبة...
وأحرقوا دواوين الشعر الحالم..
ورجموا " فينوس " الجميلة..
وأعدموا الشعراء..
واغتالوا الدعاة..
وذات يوم كشفت خفافيشهم عن وجوهها القميئة. وانطلقت شياطينهم في وضح النهار زمراً وجماعات... ركبوا رؤوسهم , وامتطوا صهوة عنادهم , فاحتكروا المنابر واعتلوها.
وشرعوا يلقون علي الوجود خطبتهم العصماء..
سيلاً جارفاً من أباطيل سوداء...حديقةً ملأي بالأفاعي.
قاموساً جديداً في اللغة كل مافيه مقلوب الوردة شوكة , والشوكة وردة.
معرض فن مارق , ومنفلت , وإباحي , اللون الرمادي يغتصب اللون الأبيض عنوةً بدعوي الحرية.
قصيدة شعر نابية..شاذة..لا هوية لها ولا أصل.. سوي أنها ابنةأفكارهم الشيطانية...
لقيطة...
وابنة زنا...
والحق أننا حاولنا دراسة هذه اللغة العجيبة , ولكننا بحكم طبائعنا , وفرط الحساسية التي تشربت منها مشاعرنا , ودمنا الحمي الحار أخفقنا..وفشلنا فشلاً ذريعاً
ولم نخرج من غمار التجربة إلا مهزومين حياري.
ولم نحصل في الإمتحان إلا علي أحط الدرجات
من يدري...؟ ..لعلها خيبتنا , وتدني قدرتنا علي الاستيعاب والفهم , وضآلة حظنا من الذكاء.
نادمون....
لأننا بطبعنا حساسون , وحالمون , وبيض القلوب , ونحتفظ في ضمائرنا بقرون استشعارٍ ترمومترية تغوص في حشايا العبارة , وتفتش فوق السطور , وتبحر في هوامش الكلام.
ترتج إذا ما لاقت في ثنايا الحوار تصريحا بالخيانة , أو ايحاءاً بالإهانة , أو كناية عن وشاية.
ولذا فقد أوقعتنا حساسيتنا المفرطة في صدامات عدة , ولاقينا علي طول الطريق مشاكل.
وتكبدنا في مشوار الرحلة خسائر..
وكانت لنا عثرات....وكانت لنا خصوم ضاع نصف العمر سدي في معاركنا الفاشلة معهم
والحق أنها كانت معارك تافهة..لم نجن منها سوي الإحراق في الأعصاب , والتبديد للجهد , والشتات في الذهن
والصعوبة في بلوغ الحلم والأمنية.
ولكن من يدري..؟....قد نكون السبب.
فلعلها طبيعتنا المتسمة بالقلق , ينخر فيها "سوس" الشك فما تفتئ تلهث خلف التفاصيل , وتضع كل شيئ مهما كان تافهاً تحت عدسة المجهر , وتمعن التفكير في الحدث : ما سببه ؟ ولم وقع ؟ وما الدافع ؟ وإلي أي قصد تراه يسير ؟...
حتي باتت أدمغتنا أشبه ب " مصعدٍ " في عمارة لا يحرسها بواب , مشاعٍ , ومتاحٍ للكل .
وللانصاف...
فقد كان الأحري بطبيعتنا ألا تسلك ذلك المسلك الساذج , فما نحن كما قال الحكيم يوما بناجين من الناس حتي ولو كنا نسكن في صومعة فوق جبلٍ وعر...
وما الشك , والقلق , والعذاب , والحيرة , إلا شياطين تكمن في التفاصيل.
لقد كان حرياً بنفسياتنا أن تتعاطي عقار الحلم في لحظات الأزمة , وأن تتروي قبيل الغضب , وأن تمارس مراناً
كل يوم في السماحة عند الإساءة , والصبر علي الشدة , والتسامي فوق الصغائر.
وأن تتعلم كيف تقترض من السماء عند كل صباح فيضاً من رحماتها , وغفرانها , وتجعل من ذلك رصيداً لها
مدخراً في الأعماق تستخرج منه عند الحاجة.
نادمون....
لأننا تمنينا يوما أن نكون مثل الشمس معطاءة , وجوادة , ساطعة , ووهاجة , هادية , وقدوة....ولكننا أخفقنا.
وانقضي عمر طويل , ولم تزل أمنيتنا العلوية موءودةً في مقبرة الحياة...
ولم تزل كياناتنا علي هامش الحياة تعيش.
فلا الليل يقبل أن يفرش علي أجسادنا برده...ولا الصبح يرضي أن ينزل في ديارنا ضيفا.
ولم تعر لنا الدنيا أسماعها يوماً لتعرف رأينا في قضاياها المصيرية...
في " السبنسة " محشورون يجرنا قطار الليل..
في ذيل الحياة مربوطون , وفي عشوائيات الوجود مبعثرون.
ذباب متناثر...كثر بلا وزن...نكرات تبحث عن الألف واللام.
ولسنا في دفتر التقويم ذكري , ولا رمزاً , ولا عيداً بهياً , ولا مناسبة جليلة.
نادمون....
لأننا لم نفلح في اخماد جذوة الشر العاتية , واشتبكنا مع رؤوس البغي في حروب متواصلة.
ولم نثبت...
ولم نصمد...
ولم نصبر...
وأخطأنا دوماً فلم نحسن اختيار وسيلة مثلي , وأخطأنا فإذا عاودنا مرة أخري لم نستفد من خطايانا..
والحق أن الشر يوماً ما كان مسئولاً عن هزيمتنا , ولكن حماقاتنا كانت هي المسئولة.
الأرض كانت ولم تزل حبلي بالفساد , وملأي بالشرور , لكننا لم نكن نملك في مشوار الكفاح منهجاً
ولا في ميدان المعركة سلاحاً...
ولا مع ارادة التغيير طريقةً واسلوباً..
نادمون...
لأننا لم نولد في زمان الأنبياء , وأيام البكارة
لم نولد في عهد الصحابة الكرام , عهد المحبة والعدالة والطهارة.
لم نولد في زمن النبي المصطفي..
كيما لقلوبنا يهدي الحقيقة , ويمنحنا فيوضاً من بشارة.
لم تكتب شهادة ميلادنا إلا في هذا الزمان....زمان الضياع.
وفي هذه الحياة....حياة الشقاء
وفي هذه الدنيا.....دنيا العبث.