في بيتنا نخلة

د. عمر عبد العزيز العاني

ولدَت قبلي

أحببتها ..... كان حبها فريدًا أرستقراطيًّا

لم تكن من بني جنسي ... لكنها من وطني

أول حلو طعِمْتـُه كان منها ..... هكذا حدّثتني أمّي

لا أذكر ... إلا أنها كانت تحملني فأقطف منها تمرة

أسألها

لماذا لا تزرع في بيت جارتنا نخلة  ؟؟؟

أقصور ولا نخيل   ؟؟؟

قالت: سيزرعون

أسمعها تقول لجارتنا: الذباب لا يقف على التمر مادام التمر على النخيل

قلت : كل الذباب    ؟؟؟

قالت: ولا البوم ولا الغربان

قلت: والخفافيش   ؟؟؟

قالت: ولا كل ذي مخلب من الطيور، ولا كل ذي ناب من الضواري

من يومها ... ما رأينا نخلة إلا قلنا:

إن النخلة أمان ... إن النخلة سلام

******************

كل الأمهات يُحَذّرن أولادهنّ من الغرق في نهر الفرات

إلا هي

يا ولدي في بيتنا نخلة

ستهدي لك كربتين

وبحبل من ليفها المبارك نشدّ الكربتين على الكتفين

فتعوم .. وتعوم .. ولا نخشى عليك الغرق

لا تغرقُ ما دام في بيتنا نخلة

******************

كلما قدم ( الحاج إسماعيل الصقلاوي ) من الحج

شدّوا على باب بيته سعفات من النخيل

المدينة كلها علمت بقدوم الحاج إسماعيل

النخلة أخبرتنا

فبالمقسمات بهنّ والمحرجات  ما رأينا سعفة إلا وذكرنا

الحج وعرفة

الكعبة ومكّة

المدينة ووادي العقيق .... وسارت بالهوى الإبل

******************

وحدّثنا الملا مجيد وهو يعلمنا قصار السور

أن رسول الله نام على الحصير فأثّرت في جنبه

فقال: لهم الدنيا ولنا الآخرة

فبالمقسمات بهنّ والمحرجات ما رأينا حصيرة من خوص النخيل إلا تذكرنا

 الجنة والكوثر ..... والنعيم المقيم

وقال: إن عمّار بن ياسر كان يربط إلى جذع النخلة

فيجلد .... ويجلد .... حتى تكلّ السواعد والأسواط

قلنا: ما عرفوا للنخيل حرمة ولا عهدًا

أنكروا كل عهود الأمان

الرسولَ ... والرسالةَ .... وعمارًا .... والنخيلَ

******************

في بيتنا نخلة ....... في بيتنا تمر

أكلناه في الصيف على حنين الناعورة

رطبًا كأبدع ما خلق الله

وفي أربعينيّة الشتاء الأزرق حول مدفأة ( علاء الدين ) مدقوقًا بالسمسم

أو معسّلاً بالدبس الأصفر أو الأسود

زخّات المطر على شبّاك بيتنا القديم

حكايات جدتي عن بطولات الزير سالم

خرافات عن مغارات المدينة ..... وشجون الناعورة

معذرة أيها الصباح .. نحن في أنس وبهجة

******************

في بيتنا سفرة من خوص النخيل

زنبيل من خوص النخيل

كؤوس من خوص النخيل ... وجريد النخيل

أرائك من خوص النخيل ... وجريد النخيل

كلما رأيناها سبّحنا الله  ... وقلنا ما أبدع التطريز  ؟؟

******************

هل سمعتم عن التوحيديّ أبي حيّان  ؟؟

هل قرأتم كتاب الإمتاع والمؤانسة  ؟؟

لم يكن الكتاب إمتاعًا ولا مؤانسة ...  لولا النخيل

كانت أسرة أبي حيّان تزرع نخيلاً يقال لتمره التوحيديّ

وفي هذا التمر يقول الشاعر

يترشّفن من فمي رشفات              هنّ فيه أحلى من التوحيدي

لم يكن الإمتاع مؤانسة

لم تكن المؤانسة إمتاعًا

لولا النخيل

******************

كنا نفطر في شهر الصوم على تمر نخلة بيتنا

تبهجنا النخلة عند غروب الشمس ... كل يوم

وفي العيد ..

لا تسألني عن بهجة الأرجوحات

حبال الأرجوحات من نخلة بيتنا

كل الأراجيح بين نخيل الحارة

بهجة النخيل أكبر من بهجتنا

البهجة للنخيل ..... البهجة للأطفال

في حارتنا نخيل

في حارتنا عيد

******************

أحدب ... أشيب ... ثقيل الخطى ...

 يجرّ خلفه ثمانين عربة من عربات عمره النخيلي  

رأيته كلما زرع شتلة نخلة توضّأ عندها ... وسقاها من وضوئه

يا ولدي ... النخيل يَنبُت بالطهر

يا ولدي ... النخيل حلو للناظرين

******************

تطعمنا النخلة

تحملنا فوق الأمواج

يعتذر الجريد .. جريد النخل كلما ضربنا المعلّم به

يعتذر الجريد ... جريد النخل لكل الطيور الجميلة

النخلة لا يضرب بجريدها

النخلة لا تكون أقفاصًا

******************

الجاحظ كتب التربيع والتدوير في غابة نخيل بصريّة

والبيان والتبيين في مسجد سوق التمّارين

والفراهيدي أبدع العروض في أهازيج الموسم

موسم فرح النخيل ....... وعطاء النخيل

البحر الطويل: في موسم اللقاح

الكامل: في موسم التنزيل

البسيط: تحت برنيّة

الوافر: عند منصرف الفلاحين من مسامرة النخيل

المجزوء: عند ولادة الفسائل

المرفّل: عند غراس الفسائل

المقطوف: عند التي لها طلع نضيد

ما أروع إلياذة هوميروس  ؟؟

لا عيب فيها

إلا أنها لم تكتب تحت الباسقات

******************

وحين تدفعنا الأرحام ..... ونتنفّس الهواء

تحتضننا حضائن من جريد نخلتنا ... وخوص نخلتنا

النخيل من المهد

لم يخلق الله أروع من أصابعهن

وهن يخصفن من الخوص والجريد حضائن الولائد .. وأطباق الموائد

كانت كل أفراح عقد القران تزهو تحت النخيل

من "أوروك وأنكيدو" إلى عمر عبد العزيز العاني

من سرجون وفاتنة بابل إلى عثمان مكانسي

حرام على نخيل بيتنا كل الغربان والبوم والخفافيش

ليس من جريد نخيلنا تصنع الأقفاص

فالنخلة حريّة

ليس  بجريد نخلتنا يجلد عمّار بن ياسر

فالنخلة سلام

******************

وحين يثور النخيل تسقط كل عواصم الإسمنت

قانونًا بايولوجيًّا

سنّة كونيّة

استقراءً تاريخيًّا

اطّرادًا اجتماعيًّا

نظرية النخيل الثائر

لا يموت أصحابها إلا كما يموت النخيل

واقفًا ... مادًّا جذوره في أعماق الأرض

يجذّر القيم ... ويؤصّل المناقب

يمتدّ طولا إلى السماء

يجازي الحجر بالتمر

والعدوان بالسلام

لم يكن يعرف هذا القانون سوانا

شِيَمٌ ترقّاها النخيل ... تعاهدها النخيل

لم يكن يعرف هذا القانون لويس السادس عشر

ولا ماري إنطوانيت ..... ولا نابليون بونابرت

ولا إبراهام لنكولن ..... ولا روزفلت ... ولا جورج بوش

******************

لو ركب جان جاك روسو زورقًا من جذوع النخيل

وعبر الفرات إلى جزيرة ( المقطعات )

وأكل من تمر نخلتنا

لكان له رأي آخرُ في العقد الاجتماعي

ولو زار بيرجستون نواعير  ( قندي )

وأكل معسّل التمر في ( الشاقوفة )

لكان له رأي آخرُ في الطاقة الروحيّة

******************

وراء كل رجل عظيم ... نخلة

وراء ابن طفيل نخلة من البرني الأحمر

وراء الفارابي نخلة من البرحي الأصفر

ووراء الغزالي بستان من الباسقات ذوات الطلع النضيد

ووراء المتنبي عهود من النخيل

فضاءات من الفسائل

موائد التمر ممتدة بامتداد الصافنات الجياد

بامتداد الخيل والليل والبيداء

حلال على الشريف الرضي

مباحة للصاحب بن عبّاد

لا يحرس تلك الموائد إلا بكائيات السيّاب على شط العرب

ونعوذ بالله من الهراطقة الذين لا نخيل لهم ولا هم يتمرون

لا خوص لهم ولا هم يخصفون

******************

في الليلة الأخيرة بعد الألف

كانت توصيني بنخيلها

كانت تقول لي: يا ولدي كان سقف مسجد رسول الله من جذوع النخيل .

وتعيد عليّ

نخيلنا حرام على كل الغربان

فأقول: والبوم والخفافيش وكل ذي مخلب من الجوارح

لا يصلح جريد نخلتنا للأقفاص

فأقول لها : نعم ... النخلة حريّة

لا يجلد بها عمّار بن ياسر

أقول: نعم ... فالنخلة عدالة وأمان

لا تغرقُ ما دام في بيتنا نخلة

لا تجوع ما دام في بيتنا نخلة

******************

ماتت

وحملناها على جريد النخيل ..... دفنّاها تحت نخلة

إذا متّ فادفني إلى جذع ( نخلة )        تروّي عظامي بعد موتي عروقـُها

وعلى تربتها شواخص من السعف الأخضر

النخيل من المهد إلى اللحد

النخيل من المهد إلى اللحد

عدنا من المدفن .... والبقاء لله

ضاعت مني الكربتان ... فقد أغرق يومًّا ما

تقطّعت أحبولة الأراجيح فلا بهجة للأعياد

حبست كل البلابل في أقفاص الجريد ... جريدِ نخلتنا

جلد عمّار بن ياسر بالجريد .... جريدِ نخلتنا

أذلّوا نخيلنا في البصرة

وفي جزيرة ( المقطعات )

وفي رحى ناعورة  ( قندي )

حفيدتي وُضعت في حاضنة بلاستيكيّة ... وليس في طبق من جريد نخلتنا

ومرّ أقوام نكرة بين اللغات

 مجهولون في عالم المعرفة ... خرافة في عصر العلم

لا نخيل لهم ولا هم يتمرون

لا خوص لهم ولا هم يخصفون

ومرّ آخرون ..... اللعنة عليهم

والنخلة عليكم ورحمة الله وبركاته