رواية الرقص الوثني والبحث عن الهوية

clip_image002_1f883.jpg

clip_image004_814ce.jpg

أفرح كثيرا حين أجدني أتشبث برواية خضت مغامرة قراءتها، وأركض بين الصفحات لأعلم ما الذي تحمله، لكن الفرح يكون أكبر ويرافقه الكثير من الفخر حين تكون الرواية لصديق عزيز.

الرقص الوثني

يمسك إياد شماسنة بكفّ قارئه منذ اللّحظة الأولى؛ ليسحبه إلى حلبة رقص، تمتد على طول 317 ص، فيجد القارئ نفسه منهمكا ومنسجما مع أنغام الرواية، لا يعرف الملل، ولا يحب أن يبارحها، كلّما وجد نفسه يتلقى المفاجآت الواحدة تلو الأخرى، حتّى الصفحة الأخيرة من الرواية.

على طول ستة وعشرين فصلا، يجيد الكاتب والشاعر إياد شماسنة التحكم بخيوط روايته، بالتدرّج في الكشف عن الأحداث، وتقديم المفاجآت لقارئه، وجاء التنوع في طرح قضايا معاصرة، والشخصيات والمدن، ومنح نكهة الأسلوب البوليسي في الفصول الأخيرة للرواية، وربطها بشخصيات ورواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، لتلعب دورا مهما في إثارة التشويق في الراوية.

كثرت المدن التي تدور فيها أحداث الرواية، لكن يمكن ملاحظة أربعة مدن رئيسية، ترتبط كل منها بإحدى القضايا التي تطرحها الرواية ألا وهي:

القدس - تجارة الآثار، ومحاولة الحركة الصهيونيّة إغراء المقدسيين ببيع بيوتهم، واستغلال العلم في سبيل تكريس الرواية الإسرائيلية.

اللّد- العنصرية التي يواجهها فلسطينيو الداخل، وقضية بناء جدار فاصل بين حي عربي ويهودي.

تل أبيب – اليسار الاسرائيلي، الارتباط المختلط بين عرب ويهود، موقع تخبط أحد شخصيات الرواية حول هويته.

رام الله – موقع لجوء جزء من أبطال رواية.

يركّز الكاتب على قضية استغلال البحث العلمي في تكريس الوجود الإسرائيلي، الأمر الذي ساعد الكيان الصهيوني منذ مخططاته الأولى لإنشاء الدولة الإسرائيلية، وتدخل جهاز المخابرات بالباحثين والعمل على تسيير الأبحاث بحيث تخدم مصالحه. ومن خلال بطلته تسيبي أشار الكاتب إلى اليسار الإسرائيلي والجمعيات التي تبدي تضامنا مع الفلسطينيين، ليقول أنّ نوايا وعمل اليسار يصبّ في النهاية في ذات المكان الذي يدعو إليه اليمين، ألا وهو المشهد الأفضل لإسرائيل. ويبدي المعاناة التي قد تظهر عند الشبان اليهود، من ذوي الأصول العربية واليهودية المشتركة، والمعاناة في البحث عن الهوية، والتي قد تصل بهم إلى حالات نفسية صعبة. وكذلك المشاكل النفسية التي يواجهها الجنود الإسرائيليون بعد الحروب، جراء ما يقترفون من جرائم، كما حصل بعد حرب لبنان عام 2006، والهجوم الأخير على غزة عام 2014.

ثقافة الكاتب وسعة اطلاعه تظهر جليّة للقارئ، فهو يقدم الكثير من المعلومات في جوانب البحث التاريخي والاقتصادي، والمجتمع الإسرائيلي وتركيباته المختلفة، الأمر الذي يجعل من الرواية واقعيّة ومقنعة للقارئ.

تشهد الرواية توازنا بين القوى المتصارعة، لم يتجه الكاتب بشخصياته صوب المثالية، أو صوب السلبية المطلقة، فنجد الأرمني المقدسي الذي قد يبيع بعض القطع الأثرية للباحث الإسرائيلي، لكنّه يصرّ على الحفاظ على بيته ويرفض بيعه، ونجد المقدسي العربي الذي يخدع مجتمعه ليبيع بيته لحركة استيطانية، ونجد كذلك شخصيتين واحدة فلسطينية وأخرى إسرائيلية تدعيان كتابة الرواية ذاتها، كمشهد آخر من التشويق وتميّز الرواية.

سعي الكاتب لإيراد التفاصيل وإبداء المعرفة وكسب ملامح الواقعية، ترك هذا مساحة صغيرة لبعض الأخطاء. فمن مآخذي على الرواية هو تعداد القوميات التي تحمل الجنسية الإسرائيلية، بالشكل التالي (يهود، عرب، مسيحيون، دروز، أشكناز، سفارديم، متدينون) (ص 76، 143)، وبفصل الدروز والمسيحيين عن القومية العربية، يوجد تأكيد للتوجه الصهيوني الذي يعمل على تفكيك الأقليّة العربية، واختراع قوميات جديدة للطوائف غير المسلمة، فيما يحمل اليهود على اختلاف أصولهم وتوجهاتهم الدينية القوميّة اليهودية. هذا وجاء استخدام اللّغة العبرية في الرواية عند الحوار بين الشخصيات أحيانا، دون داع في رأيي، فقد ظهر الحوار واقعيا ومقنعا دون إظهار اللّغة ذاتها في النص، عدا عن هذا وردت بعض الأخطاء في الترجمة من العربية إلى العبرية. كذلك جاء تقدير مدّة السفر بين اللّد ورام الله في صفحة 173 غير مناسب، إذ بدت السفرة حسب الرواية وكأنّها مسافة هائلة تمتد لساعات، وتسبب عطلا في السيارة، وهي تحتاج في الواقع نحو ساعة وربع. كما أنّ المبلغ المدفوع لشخصية "إدريس" الذي باع عمارة من 12 شقة لجمعية عتيريت كوهانيم الاستيطانية، مليون دولار حسب الرواية، وهو مبلغ لا يتماشى مع الواقع، ويجب أن يكون أعلى بكثير.

ختاما سعى إياد شماسنة في روايته أن يحيط بكلّ التفاصيل والمنافذ، التي قد يقودنا إليه أيّ خيط من خيوط الرواية، فقد أورد الكثير من المعلومات عن المجتمع الإسرائيلي، وحافظ على لغة أدبيّة جميلة وممتعة، ليترك قارئه ينهل معلوماته سعيدا مستمتعا بالقراءة، مقدما أسلوبا أدبيا جميلا بجمع أبطال روايته بأبطال رواية غسان كنفاني. هكذا ترك شماسنة بين أيدينا رواية على مستوى عالٍ أدبيا، فنيا، وثقافيا، نفرح كونها جزء من أدبنا الفلسطيني.

* ندوة اليوم السابع - المسرح الوطني الفلسطيني في القدس

وسوم: العدد 756