مجنون الشام
في مسرحيته الشعرية الخالدة "مجنون ليلى" يصور أمير الشعراء أحمد شوقي ذكريات قيس "المجنون" في المرابع التي شهدت طفولته وطفولة حبيبة القلب "ليلى" وذكريات العمر الجميل الذي جمعهما، ويصور شوقي بأسلوبه الساحر لوعة الفراق بين العاشقين، وزمن الوحدة والغربة القاتلة التي عاشها المجنون تائهاً شريداً يذرع الصحراء الموحشة بلا أنيس إلا الذكرى الغالية؛ وبعد أن يطوف هنا وهناك لا يجد المجنون ما يسليه أو يعوضه عن الأرض التي جمعته مع الحبيبة، والعمر الذي عاشه قريباً من دفئها؛ وإذ لم يجد المجنون خد الحبيبة ينطلق يقبل أطلال بيت كان يوماً بيتها، ثم ينهار إلى الأرض يقبل تراباً تعطر بقدميها في يوم من الأيام ؛ وتحين منه التفاتة فيرى بقايا حجارة قد عمرا منها في يوم من الأيام بيت الأحلام فتشهق روحه لوعةً وحسرةً وشوقاً إلى ذلك الحلم وذلك العمر وتلك الذكرى، وينزف شعراً:
(( قَد يَهونُ العمرُ إلا ساعةً وَتَهونُ الأرضُ إلا مَوضِعا ))
واليوم يجد السوري "مجنون الشام" نفسه هائماً في صحارى الغربة، مبعداً عن مرابع الأمس وزمن الطفولة وعشيات الحب، فتشهق روحه حنيناً ولوعة وشوقاً إلى المرابع التي غابت، والعمر الذي مضى !
ويصحو مجنون الشام فيجد نفسه مشرداً تارة على ضفاف "السين" في باريس، وتارة على ضفاف "التايمز" في لندن، وتارة على شواطئ "الدانوب" في النمسا فلا يعوضه كل جمال العالم عن ضفاف "بردى" ، وعشيات "العاصي"، ومواويل "الفرات" .
ويواصل المجنون تشرده فيجد نفسه شارداً على رمال "الريفييرا" و "كان" وتمر به حِسان "الأفرنج" فلا يرى في حضورهن ما كان من حضور ليلى الشام، ودفئها، وحنانها !
وتحين من المجنون التفاتة إلى البحر ويرى أسماك القرش في إعلان تجاري فيحس نفسه سمكة ضائعة في عالم ملأته أسماك القرش وحيتان المال والسلاح !
ويصحو المجنون تارة أخرى فيجد نفسه في روما أمام الرخام الأبيض الذي نحت منه "أنجلو" تلك التحف العظيمة الخالدة، فلا يأسر قلب المجنونَ بياضُ الحجارة كما أسره سواد حجارة أرضعت أطفال "درعا" لبن البطولة والإباء !
ويتابع "المجنون" تشرده فيصحو على موسيقا "شوبان" تصدح في شوارع "وارسو" فلا يستوقفه بيانو "شوبان" وأصابعه الساحرة كما كان يستوقفه عنين "النواعير" وتلك الليالي المقمرة التي قضاها على ضفاف "العاصي" !
ويصحو المجنون من شروده وتشرده فيجد نفسه يتسكع على أرصفة النجوم الذهبية في شوارع "هوليود" فيتذكر سماء الشام ونجومها الفضية فيشهق موتاً إلى تلك السماء وهاتيك النجوم !
ويصل التشرد بالمجنون إلى سهوب "الميسيسبي" ويجد نفسه في أحضان الدردير والأضاليا، فتحمله الذكرى إلى ياسمين الشام، وشقيق "الغوطة" ودوالي "دوما" و "الريحان" و "حرستا" .
ويرى "المجنون" أحد المشردين يتسكع على أرصفة "لوس أنجلوس" فيمد يده إلى جيبه ليخرج للمسكين شيئاً، فلا يجد غير بطاقة اللجوء الخضرا، فيلسعه الأخضر شوقاً إلى خضرة الشام و "عين الخضرا" والعيون الخُضر التي ودعها في "قامشلي" و "عامودا" و "كوباني" و "سلمية" .
ويشرق فجر جديد فيصحو المجنون على صلصلة السيوف الدمشقية تباع في حواري "قرطبة" فتحرقه الذكرى شوقاً إلى سيوف "عبد الرحمن الداخل" التي فتحت عقل أوروبا على دنيا جديدة حملتها بعد قليل إلى عصر النور، وتستمر صلصلة السيوف تشاغب قلب المجنون، فيتذكر صلصلة السكاكين في حارات "بابا عمرو" التي وقفت في وجه "شبيحة" الدكتاتور والحقد المجوسي !
ويستوقف المجنون في حارات "إشبيليا" صوت صَبية تتغنى بموشح أندلسي بنبرة "أموية" لا تخطئها أذن المجنون الذي عاش عمره متبتلاً في حرم "الأموي".
ويوصله التشرد إلى "قصر الحمراء" و "جنات العريف" فيجدها أطلالاً خاوية قد غاب عنها "الفاتحون" العظام، وعبث الزمن بشعار الفاتحين (لا غالب إلا الله) فلا يتمالك نفسه شوقاً إلى زمن العز والكرامة والمجد ويسقط بلا حراك كما سقط "المجنون" حين عاد إلى ديار الحبيبة فلم يجد غير الأطلال !
وسوم: العدد 764