هل «اختلَّ في وزن القريض عَبيدُ»؟ (ربما دفاعًا عن الشِّعر: 1-2)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 299

إن مراجعة أقوال العَروضيِّين وغير العَروضيِّين، من القدماء والمحدثين، كثيرًا ما يكشف عوارهم، وانتماءهم إلى فئتَين: من المتشدِّدين في مدرسيَّتهم، والجهلة بعلم العَروض والموسيقى الشِّعريَّة. ولنستهلَّ، كما استهلُّوا، بأَوَّل مآخذهم على شعراء العصر الجاهلي، وذلك بوقوفهم المشهور مع معلَّقة (عبيد بن الأبرص، -554م)، التي قال عنها (شوقي ضَيف)(1): «وتلقانا هذه الصُّورة التَّامَّة النَّاضجة للقصيدةِ الجاهليَّة منذ أقدم نصوصِها. وحقًّا توجَد قصائد يضطربُ فيها العَروض، ولكنَّها قليلة، من ذلك: قصيدة عَبيد بن الأبرص الأسديّ:

أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ ** فالقُطَبِيَّاتُ فالذَّنُوبُ

وقد يُخطِئُ الرَّأْيَ امرؤٌ وهْو حازِمٌ ** كما اختلَّ في وزنِ القَريضِ عَبيدُ

فهل اختلَّ في وزن القريض عَبيدٌ حقًّا؟ وكيف كادت معلَّقته تكون كلامًا، كما زعم ابن رشيق؟ وأين ما زعمه ضَيفٌ من أنه قلَّما يخلو بيتٌ منها من حذف، أو زيادة؟ أ «الحذف» بالمصطلح العَروضي، أي حذف السبب الخفيف من آخر التفعيلة؟ ليس هنا سببٌ خفيفٌ في أواخر التفعيلات؛ لأنه لا سبب خفيفًا، ولا حذفًا، في البحر البسيط؟ أم أين الزيادات المزعومة؟!

إنهم، كما ترى، يردِّدون كلامًا بلا تمحيص، كابرًا عن كابرٍ، يتوارثونه ويتعالمون به، بلا بيِّنة ولا دليلٍ، وكأن النصَّ قد جاءهم مخطوطًا عن الشاعر. أمَّا عَبيد بن الأبرص، فإنما نظم قصيدةً على مجزوء البحر البسيط المقطوع العَروض والضَّرب، والتزم بهذا في أبياته كافَّة. وما حدث في قصيدته لا يعدو أنه كان يورد زِحاف (الخَبْن) تارةً ويتركه تارة، ويورد زِحاف (الطَّيِّ) تارةً ويتركه تارة.  والخَبْن والطَّيُّ زحافان سائغان، أَوَّلُهما حَسَنٌ في البسيط، وثانيهما صالح. ولو تتبعنا القصيدة، ما وجدناه خرجَ عن هذا النظام. منذ مطلع المعلقة:

أقفرَ منْ/ أهلهِ/ مَلحوبُ ** فالقُطَبِيْـ/ يَات فالذْ/ ذَنُوْبُ

مستعِلن/ فاعلن/ مستفْعِلْ ** مستعِلن/ فاعلن/ مُتَفْعِلْ

إمَّا قَـتـيـلًا وإِمَّـا هالكـًا ** والشَّيـبُ شَيْـنٌ لِمَـنْ يَشِيـبُ؟!

قلتُ: لعلَّه: «إمَّا قَـتـيـلًا وإِمَّـا هَلَكـًا...». والهَلَك: الفاني، وفيه بقيَّة. أو «هُلْكًا»، وهو: الهلاك. وقد يكون «هَلْكَى»: جمع هالك. وماذا عن بيته، كما يُروى:

لا يَعِـظُ النَّـاسُ مَـنْ لا يَعِـظُ ** الـدَّهْـرُ ولا يَنـفَـعُ التَّلبيـبُ؟

هنا احتمالان: لعلَّه: «لاَ يَعِـظُ النَّـاسُ مَـنْ لم يَعْـظِ الـدَّهْـرُ...». وكأنَّ «يَعْظ»، بسكون العين، لغةٌ من لغات العرب، وبكسرها لغةٌ أخرى. أو أنه سكَّن العين ضرورةً. أمَّا البيت:

واهيةٌ أو مَعِيْنٌ مُمْعِنٌ ** مِنْ هَضْبَةٍ دُوْنَها لَهُوْبُ

فتصحيفٌ ظاهر، صوابه: «مَعِيْنٌ مَعْنٌ»، مصدر (مَعَنَ)، أي رَوِيَ، بمعنى: مَعينٌ سائلٌ فيَّاض. وهكذا إذا تتبعتَ مواضع الاضطراب في هذه القصيدة، وجدتها أقرب إلى أن تكون أغلاطًا في الرواية. وعليه، فإن ما قيل في قصيدة ابن الأبرص من مآخِذ هو على أربعة أضرب:

1- زحافات جائزة، حسب أحكام العَروضيِّين أنفسهم. وإنْ ألزموا بها أحيانًا، كما في مخلَّع البسيط.

2- استعمالاتٌ قد تكون على لغاتٍ عربيَّةٍ مهملةٍ في كتب اللغويِّين، أو مجهولة.

3- تصحيفاتٌ، أو أغلاطٌ لفظيَّة، تبدو من قِبَل الرُّواة أو المدوِّنين.

4- ربما اصطُنِع بعض ذلك اصطناعًا. ونحن نعلم عمل بعض النحاة في صناعة الشواهد الشِّعريَّة كي يحتجُّوا بها على قواعدهم، أو على ما شذَّ عن قواعدهم، وما العروضيُّون منهم ببعيد.

ليس هذا بدفاعٍ عن الشاعر، ولا بتقليلٍ من جهود أبناء العَروض البررة، لكنها دعوةٌ لمراجعة موروثنا الشِّعري، بعِلْمٍ وإنصافٍ وتجرُّد، بعيدًا عن التبعيَّة العمياء، لقديمٍ أو محدث.

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي

تابع مواد أخرى للكاتب على حساب "تويتر": https://twitter.com/Prof_A_Alfaify

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ضيف، شوقي، (1960)، العصر الجاهلي، (القاهرة: دار المعارف)، 184.

(2) ابن جعفر، قُدامة، (د.ت)، نقد الشِّعر، تحقيق وتعليق: محمَّد عبدالمنعم خفاجي (بيروت دار الكتب العلميَّة)، 178- 179.

(3) المعري، أبو العلاء، (1938)، الفصول والغايات، نشره: محمود حسن زناتي (القاهرة: مطبعة حجازي)، 1: 131.

(4) (1955)، العُمدة في صناعة الشِّعر ونقده، باعتناء: محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد (مصر: مطبعة السعادة)، 1: 140.

(5) السكاكي، يوسف، (1987)، مفتاح العلوم، باعتناء: نعيم زرزور (بيروت دار الكتب العلميَّة)، 533.

وسوم: العدد 764