الرّاوي وأثره في العناصر القصصية في قصص سناء الشعلان

محمّد صالح المشاعلة

clip_image001_1a1af.jpg

clip_image004_b9ca9.jpg

clip_image006_c8c1f.jpg

clip_image008_61772.jpg

أولاً: رؤية الكاتبة للزّمان:

يعدُّ الزّمن عنصراً هاماً من العناصر التي تدخل في تحديد مفهوم القصّة القصيرة والتّمييز بينها وبين أجناس أدبيّة أخرى تقع على حدودها أو تتوازى أو تتقابل معها. وللزمن أثر كبير في الفنون الأدبية أجمعها؛ وذلك لأن الزمن الأدبي زمن إنسانيّ، فهو زمن التجارب والانفعالات زمن الحالة الشعورية التي تلازم المبدع، فهو ليس زمناً موضوعياً أو واقعياً، بل هو زمن ذاتيّ ونسبيّ من قاصّ لآخر[2]؛ إذ لا يمكن له أن يستغني عن الزمان بحال من الأحوال؛ ذلك أنّ علاقة "القصّة بالزمن علاقة مزدوجة، فالقصّة تصاغ في داخل الزمن، والزمن يصاغفي داخل القصّة"[4].

ويتمثّل رصد الزمن لقصص شعلان في تحليل مدّة السرد أو الأحداث، ويتم ذلك عن طريق "ضبط العلاقة الزمنيّة التي تربط بين زمن الحكاية التي تقاس بالثواني، والدقائق، والسّاعات، والأيّام، والشّهور، وبين طول النّص القصصيّ، الذي يقاس بالأسطر، والصّفحات، والفقرات، والجمل"[6]. 

ونتيجة لهذا يكون زمن القصّة أكبر بكثير من زمن الحكاية، فما يحدث في شهور وسنوات، أُجمل في عدّة سطور. وتمتاز الخلاصة بأنّها حركة زمنيّة تهيمن بصورة أساسيّة على صيغة السّارد العليم، الذي يرى الأحداث من الخارج، مجملاً لنا ما يراه مهمّاً، وهذا موضوع دراستنا الرئيس[8].

في هذا السرد القصصيّ القصير، نلاحظ محدودية حجم النص مقارنة بالزمان الذي يتضمنه في طيّاته، إذ استطاع السارد في هذه الأسطر القليلة أنْ يُجمل لنا حياة (رجل) لم تصرّح الكاتبة عن هويته، فالسارد لا يذكر لنا كيف ضيّع النصف الأول من عمره في البحث عن الحقيقة، وكيف أضاع النصف الآخر من عمره لينسى تلك الحقيقة، فحياة هذا الرجل اختُصِرتْ في سطرين، إذ لا يهم الراوي ضياع النّصف الأول من العمر، بل كل ما يهمه حزنه على ضياع النّصف الثاني لينسى تلك الحقيقة.  

ومن النماذج الأخرى التي يمكن أن نمثل بها هنا لتسريع الزّمن في قصّة (عينا خضر) من مجموعتها القصصيّة (الهروب إلى آخر الدنيا):

"في كلّ ليلة تحسّس[10].

يمر الرّاوي في خبره هذا مروراً سريعاً، مجتازاً بذلك كثيراً من الأحداث التي لم يُردْ لها أن تقع في دائرة الضوء، فنراه يختصر سنوات من حياة (خضر) دون التفصيل فيها؛ لأن ما يريد أن يصل إليه الراوي هو أنّ خضر استشهد، وسرقت عيناه ليهودي يعاني من مشكلة في قرنيّتيه على أيدي الغاصبين، فمرّ على أحداث ولادة الطّفل وموت أبيه مروراً خاطفاً، دون أي شرح لذلك أو توضيح، بل اكتفى الرّاوي بالإشارة إليهما؛ مما أسهم في تسريع الإيقاع السّردي للزمن، من خلال هذا التّكثيف النّصيّ الذي حققته الخلاصة السّرديّة.

في نهاية الأمر نلاحظ أنّ الكاتبة كثيراً ما تعتمد في سردها للزمن على الخلاصة؛ كسارد عليم بالأحداث، يجمل ما رآه أو ما سمعه، فاسحةً المجال للقارئ كي يربط الأحداث ويوصل بينها بخيط السرد، ونستطيع أن نتعرف على ذلك من خلال عبارات التّلخيص التي ذكرها الرّاوي الذي يدّعي العلم بكل أحداث القصّة، ويعرف ما يدور داخل الشخصيّة وماذا تريد، بإشارات سريعة معبّرة.

ثانياً: رؤية الكاتبة للمكان:

يعدّ المكان واحداً من أهم العناصر الرئيسة التي يتكئ عليها القصّ، فهو يشكل مع الزمان بيئة قصصيّة تقع فيها الأحداث وأفعال الشخصيّات، وأيضاً ارتباطه بالحدث؛ كونه الحيّز الذي تدور فيه الأحداث، فالمكان يكتسب أهمّيته بعد أن يحدث فيه شيء ما.

إذاً المكان يمثّل وعاءً للحدث وللشخصيّة، إذ يُظهر مظاهر الحياة التي تعيشها الشخصيّات، كما يحوي الأحداث التي تنمو مسيرتها ضمن إطار محدّد، إذ تتشكّل الأمكنة من خلال الأحداث التي تقوم بها الشخصيّات، وهو على علاقة وطيدة بالشخصيّات، فالبناء المكاني لا يتشكل في النّص إلّا من خلال اختراق الأبطال له[12].

في هذه المبحث سيحاول الباحث دراسة الأمكنة الواردة في مجموعة شعلان القصصيّة (أرض الحكايا) أنموذجاً، تحت ثنائيّة المكان (الأليف، المعادي)، على وفق ما تمّ رصده من أمكنة داخل هذه المجموعة، لا أقول جميعها بل أكثرها تردداً، وبيان دلالة ذلك.

1-المكان الأليف:

إنّ المصطلح المتعارف عليه للمكان الأليف هو المكان الذي تنسجم معه الشّخصيّة، ذلك المكان الذي تأنس به النّفس وترتاح إليه، من دون أن نلمح للعداوة فيه ملمحاً، "فإذا حدث نوع من الانسجام فإنّ الشّخصيّات تحيا فيه وتعيش في ألفة، وإذا لم يحدث ذلك فستكون الشّخصيّات كارهة للمكان وينشأ نوع من التناقض"[14].

تمثّل هذه المدينة (مدينة الأحلام)، حلم البطل الذي ما انفك يرسم تلك المدينة في ذهنه. وأخذ السارد يستحضر هذا المكان ويعاينه وهو السارد العليم الذي كشف لنا عن هذه المدينة التي كانت تسكن داخل شخصيّات القصّة وتزيّن أحلامهم، حيث قام بالتّركيز على مدينة الأحلام بوصف أسوارها، وسمائها، وقمرها، ونجومها، ومعجزاتها.

ومن الأمكنة أيضاً التي تشكّل في مجموعتها الألفة والعداء، إزاء الشخصيّة المتطوّرة في هذا المكان (ساحة الأقصى)، في قصّة (في القدس لا تشرق الشّمس):

"كان الجنود يطاردون بعض صبية حيّه، عرفهم جميعاً، كانوا نوارس صغيرة تطاردها الوحوش، أخذ يهتف معهم: (الله أكبر... خيبر... خيبر يا يهود، جيش محمّد سوف يعود)، وأخذ يرشقهم ببعض الحجارة، ووّلى مع الصبية نحو البعيد، اختبأ في إحدى الزقاق مع صديق له من الصّف الخامس اسمه أحمد، كان يصلّي معه الفجر في المسجد الأقصى بحضرة المعلّم رفيق، ولكن كان ذلك في الماضي، قبل أن يرحل معلّمهم الطّيّب دون عودة، وقبل أن يعلو جدار الفصل، فيغلق الدّروب دون المسجد"[16].

 يمثّل المكان هنا ما كان يكابده بطل القصّة من عذاب ومهانة، ودليل ذلك قدمه التي شلّت بسبب العذاب الذي أصابها، فالبطل في القصّة يعاني من سجنين سجن الوطن، والسجن الحديدي المعروف، فقد كان مسجوناً داخل السجن وخارجه، بسبب (البلّورة) كما أوهموه، ولكن البلّورة في حقيقتها تمثّل (الدواسيس) وعناصر المخابرات الذين يراقبونه وينقلون أخباره عن كثب، وفي النهاية يفضّل الانتحار خلاصاً من كلّ هذا الألم والعذاب.

ومن الأمثلة أيضاً على الأمكنة العدائيّة (الصحراء) عند شعلان، وقد تجلّى ذلك في قصّة (قافلة العطش)، حيث اتخذت العطش رمزاً للحرمانوالعطش إلىالحب، يقول الرّاوي:

"كانوا قافلة قد لوّحتها الشّمس، وأضنتها المهمّة، واستفزّها العطش، جاءوا يدثّرون الرّمال وحكاياها التي لا تنتهي بعباءات سوداء تشبه أحقادهم وغضبهم وشكوكهم. العطش إلى الحب أورث الصّحراء طقساً قاسياً من طقوسها الدّامية، أورثها طقس وأد البنات، البعض قال: إنّهم يئدون بناتهم خوفاً من العار، البعض الآخر قال: إنّهم يفعلون ذلك خوفاً من الفقر، لكن الرّمال كانت تعرف أنّها مجبرة على ابتلاع ضحاياها النّاعمة؛ خوفاً من أن ترتوي يوماً، كان مسموحاً للقوافل أن تعطش وتعطش، ولها أن تموت إن أرادت، لكن الويل لمن يرتوي في سِفر العطش الأكبر"[18]. فمكان الصّحراء في هذه القصّة يمثّل الحرمان والعطش إلى الحبّ، والنّص مليء بالشّواهد التي توضّح مدى رفض الشّخصيّات لهذا المكان المعادي.

ومن الجدير بالذّكر أنّ المكان لا يكتسب صفة (الأليف أو المعادي) نظراً لجمال المكان أو قبحه، فنظرة كلّ شخصيّة للمكان تختلف عن نظرة أخرى غيرها، بل حتى للشخصية ذاتها، فلربّما كانت ترى في إحدى الأمكنة مكاناً أليفاً لها، ثم بمرور الزمن يصبح بالنسبة إليها مكاناً معادياً، وبالعكس، تبعاً لنوعية التّجربة الشّخصيّة من جهة، ولتغير الأحداث الجارية عليها من جهة أخرى. فقد ترتاح الشخصيّة للمكان وتعدّه أليفاً رغم ضيقه وقبحه، في حين قد ترى الشّخصيّة هذا الحيّز مكاناً معادياً، فيما إذا كانت قد تعرضت فيه إلى أذى مهما يكن نوعه.

ثالثاً: الرّاوي والشّخصيّة:

تعدُّ الشّخصيّة من الأركان الأساسيّة التي يرتكز عليها السرد، وليس بإمكانه التّخلي عنها؛ فهي من دعامات العمل القصصيّ[20].

وتقوم الشّخصيّة في بعض الأحيان بتولّي "مهام الرّاوي ذاته أو المروي له كذلك"[22]. والشّخصيّة على هذا ما هي إلّا كائن يخلقه القاص من خياله، يأتي بتوظيفه تحقيقاً لغايات معيّنة.

ورأى آخرون أنّ الشّخصيّة في الواقع هي صورة طبق الأصل للذين يحيون في المجتمع، مما أهلها لأن تكون صورة دقيقة لحقيقة المجتمع وواقعه[24]، بالإضافة إلى شخصيّات أسطوريّة وخياليّة.

اعتمدت الكاتبة في رسم شخصياتها وتقديمها من خلال الرّاوي بـ(الطريقة التّحليليّة): وفي هذه الطّريقة يقدّم الرّاوي شخصيّاته بوسيلة مباشرة، شارحاً عواطفها وأفكارها ونوازعها، من دون غموض أو تردد، "وعرض الشّخصيّات بهذه الطريقة يفيد في مسرحة النّزاع وجعله أكثر تأثيراً"[26].

قامت عمليّة الكشف عن الشّخصيّة بوساطة راوٍ عليم، يرى من الخارج شخصيّة الطالب المشهور في الأحياء القديمة والمدرسة الابتدائيّة، معرباً عن هويّتها ونوازعها نحو الألقاب مثلاً، دون أنْ نلحظ دوراً للشخصيّة للتصريح بذلك. وأيضاً قام بوصف ملامح الشخصيّة الخارجيّة دون تردد أو إذن ومثال ذلك:

"فلم يكن من المناسب بعد أن كبر وأصبح بجسد يسدّ باباً بأكمله، وبعد أن استدارت عضلاته واستطالت عظامه، وخطّ شنبه أن يُدعى (بطل القطّة)، إن لم يكن هناك بدٌّ من لقب"[28].

يقدّم الرّاوي للقارئ شخصيتين (الرّجل، والجارة الغجريّة)، الرجل الذي يرفض تصرفات جارته المشبوهة، حيث عرض الرّاوي أوصاف (الجارة) عرضاً مباشراً، وقدّمها بين يدي المتلقي من دون عناء منه، من خلال وصف سلوكيّات (الجارة) سيّئة السّمعة، ونمطيّة الشخصيّات التي ترتاد منزلها كلّ يوم، كل ذلك صدر من راوٍ غير ممثّل بالنّص، ينظر إلى العالم بكلّ ما يخصّ هذه الشخصيّة ويتعلّق بها، وكأنّه عين (الكاميرا) المصوّرة لكل ما تقع عليه عدستها.

وهكذا يعمد الرّاوي العليم إلى فقرات موجزة، يصوّر فيها (الجارة) خيرَ تصوير، واقفاً عند صفاتها التي اشتهرت بها من بذاءة، وفجور، وجمال في نفس الوقت، فالكاتبة تتعامل مع شخصياتها تعاملا ًخاصاً من خلال عرضها بأسلوب أدبي رصين.

ونورد أيضاً أمثلة على (الشّخصيّات الأسطوريّة)، "وهي الشّخصيّة التي ليس لها وجود واقعي"[30]، عيناه زرّان مختلفا اللّون، وفمه مخاط على عجل، ولا أذنين له، وقلبه من القشّ، وخصره نحيل، وجسده مصلوب ليل نهار، ولكنّه يحبّها، لا يحبّها فقط؛ لأنّها هي من خاطته، وزرعته في هذا المكان، ولكنّه يحبّها، لأنّها رقيقة ولطيفة، ويعشق صوتها ذا الرّنين العذب كلّما غنّت"[32]. هذه الشّخصيّة صورتها لنا الكاتبة تصويراً فكاهياً ومثال ذلك ما جاء في قصّة (سُهاد)، حيث تصف لنا الطّالبة بعض من الشخصيّات الفكاهيّة الواردة في القصّة، كمعلّمة الرّياضيّات الدّائمة التّوبيخ: "ضاربين صفحاً عن جعجعة معلمة الرياضيّات السّمينة، التي انبرت مهتاجة كديك ينوي التّبرّز تريد أن تلفت انتباهنا إلى السّبورة، لنتابع حلّها لإحدى المسائل التي لم نفكُّ أبداً طلاسم حلّها في يوم من قبل"[34]. وفي وصف الخالة للطالبة: "طفلة مفعوصة لم أخرج من البيضة بعد، على حدّ تعبير خالتي الوحيدة التي تحظى بوافر حبّ واحترام وثقة أمي"[36]. وبمثل هذا التقديم لشخصيّة (رئيس البلديّة) يهيئ الرّاوي نفس القارئ لتلقّي أخبار هذه الشّخصيّة وفجورها، وفسادها. 

تحاول الكاتبة من هذا - على لسان الرّاوي - التّصوير الفوتوغرافي رسم صورة كاريكاتيرية في ذهن القارئ، لشخصيّات القصّة (المعلمة، طالبات الصّف، رئيس البلديّة، سُهاد)، واصفاً كلّ شخصيّة بأوصاف خاصّة، مقدّماً إيّاها على وفق ذلك.

رابعاً: الرّاوي والحدث:

يعدُّ الحدث من أشمل العناصر السّرديّة المنطوية على علاقات كثيرة مع الشّخصيّة والزّمان واللغة[38].

ويقوم القصّ في أساسه على الحدث، فالقصّ عبارة عن مجموعة من الأحداث يسردها لنا الرّاوي، وهي تتناول حادثة واحدة أو حوادث مختلفة، حيث يتفنّن الرّاوي في طرق أحداث القصّة وسردها. وهو الطّريقة التي يسلكها الرّاوي في إيصال الأحداث للمروي له، ويتبع لذلك عدّة طرق، فتارة يسعى إلى عرضها بأسلوب تتابعي منطقي، وتارة أخرى يعرضها بشكل تضميني أو دائري، على وفق ما يراه الرّاوي منسجماً مع النّص والسرد الذي يأخذ على عاتقه سرد الأحداث.

ومن الأنساق التي حاول الباحث رصْدها ضمن مجموعات شعلان القصصيّة:

نسق التتابع:

يقوم هذا النّسق البنائي على أساس "رواية أحداث القصّة جزءاً بعد آخر، دون أن يكون بين هذه الأجزاء شيء من قصّة أخرى"[40]، فالرّاوي يسعى هنا إلى سرد الأحداث بشكل خيطي متسلسل.

ولعلّ من أبرز خواص الحدث وأهمها هو تأكيد الرّاوي على نقل الحدث والواقعة الإخباريّة نقلاً تتابعياً، من دون حدوث أيّة انحرافات بارزة في بنيته الزّمنيّة[42].

في هذه القصّة تحاول مملكة النّمل جاهدة كسب قوتها الذي حرمت منه بسبب ذلك العرش الضخم، الذي حال بينها وبين الوصول للمؤن والمحتويات لنقلها وتخزينها لفصل الشّتاء، ويستمر الرّاوي بنقل الأحداث، وهي تتوالى في الوقوع، وتزداد إثارة حين قررت مملكة النحل إرسال أحد من رسلها، إلى سلطان عرش البشر:

"بعثت مملكة النّمل رسولاً إلى سلطان عرش البشر تسأله أن يغيّر مكان عرشه، فيخلي بين النّمل ومستودعاته، لكنّ السلطان ذا العرش الماسي سخر من ضعف الرّسول والنّملة، وداسه بنعله دون أن يعبأ بدوره المقدّس، فمحقه محقاً"[44].

هكذا تنتصر هذه المملكة المتماسكة، على السّلطان الجائر، الذي فرح بسقوطه الجميع، وحققت هذه الطبقة الكادحة المستضعفة ما لم تحققه الشّعوب، التي أعلنت هي الأخرى النّفير بعد عام النّمل، ممثلة (بالرمز) لكل ما يدور في واقعنا من الطّبقيّة والتّسلّط.

ويستمر الرّاوي في نقل الأحداث على وَفْقِ تسلسل منطقيّ، من دون ملاحظة أيّ خلل زمنيّ، بل مضت الأحداث بشكل طبيعي، ونسيج متتابع الحدوث، قصده الرّاوي وهو يسرد لنا ما جرى بين مملكة النّمل وسلطان العرش، ونجد الكاتبة قد قامت بتجريب النهاية المفتوحة أمام تساؤلات عديدة، وبهذا "لا ينغلق الزّمن التّتابعي، وإنّما يظلّ مفتوحاً على احتمالات عدّة يشارك القارئ في صنعها واستكمالها"[46]، وهو من أقدم الأنساق البنائيّة في الأدب القصصي، حيث تأتي بعض القصص المضمَّنة تنبئ بالنهاية، التي ستجري إليها الأحداث.

ووظيفة الرّاوي هنا، محاولةُملءِ الفراغات داخل العمل السّردي تارةً، والبحث عن التّنويع تارة أخرى[48].

ومن الشّواهد على نسق التّضمين، ما تورده الكاتبة في قصّتها (المجاعة)، داخل مجموعتها القصصيّة (ناسك الصّومعة)، حيث تجسّد هذه القصّة حياة الرّجل النّحّات، وما تتولد عن حياته من قصص أخرى ضمّنتها الكاتبة داخل القصّة:

"كان نحاتاً موهوباً في زمن الضّنك والفقر، ولكنّه الآن ليس أكثر من حفّار قبور أو حانوتي قاتم يحترف تشييع الموتى، ويتقن إهالة التّراب على الأجساد التي اقتاتها الجوع، ويستثمر الباقي القليل مما لم يمانع الموتى بسلبهم إيّاه في إكمال تمثاله الصّخريّ، الذي قدّه من الصخر منذ زمن، وأضنى ذهنه تفكيراً وتدبّراً في أي الأشكال سينحت منه، وآل قراره إلى أن ينحته على شكل طفل صغير يستجدي المارّة بدموع صخريّة خلّابة، وخمّن أنّه سيجني الكثير من المال من هذا التّمثال الحزين، لكنّ المجاعة المفترسة جعلته يتراجع عن تمثاله الصّبي المستجدي"[50].

هكذا عمد الرّاوي إلى تضمين القصّة الأولى (قصة النّحات الموهوب)، قصةً أخرى وهي (قصّة حفّار القبور)؛ إسهاماً منه في زيادة متعة القارئ وتسليته من خلال التّنويع في طريقة عرض الأحداث التي دارت في غير ما مكان.

ومن الجدير بالذّكر أنّ الباحث لم يتطرّق لدراسة الحوار؛ لأن مجموعات الكاتبة القصصيّة كادت تخلو وتفتقر لعنصر الحوار بين الشّخصيّات، فالكاتبة اعتمدت في الأغلب على الرّاوي العليم والمونولوج الداخلي الكاشف للشخصيات بمعزل عن الحوار.

[2] قاسم، سيزا، (1984). بناء الرواية (دراسة مقارنة لثلاثيّة نجيب محفوظ). الهيأة المصريّة العامة للكتاب، ص26.

[4] بحراوي، حسن، (1990). بنية الشكل الروائي (الفضاء- الزمن- الشخصية). ط1، بيروت: المركز الثقافي العربي، ص117.

[6] انظر: جينيت، جيرار، (1997). خطاب الحكاية (بحث في المنهج). (ترجمة:محمّد معتصم وغيره)، ط2، الهيأة العامة للمطابع الأميريّة، ص109.

[8] شعلان، سناء، مقامات الاحتراق، ص15.

[10] شعلان، سناء، (2006). الهروب إلى آخرالدنيا، قطر: نادي الجسرة الثقافي، ص58.

[12] انظر: شجاع، مسلم، (2000). البناء الفنّي في الرواية العربيّة في العراق (الوصف وبناء المكان). ط1، بغداد: دار الشؤون الثقافيّة العامة، ص21.

[14] شعلان، سناء، (2006). مجموعة قصصية بعنوان (أرض الحكايا). قطر: نادي الجسرة الثقافي، ص65.

[16] شعلان، سناء، أرض الحكايا، ص171.

[18] خضر، غنّام، فضاءات التخييل، ص33.

[20]بنية الشّكل الروائي، ص202.

[22]بنية الشّكل الروائي، ص213.

[24]أرض الحكايا، تقديم للدكتور إبراهيم خليل، ص9.

[26] شعلان، سناء، (2006). مجموعة قصصيّة بعنوان (الكابوس)، الشّارقة: دائرة الثقافة والإعلام، ص51.

[28]الكابوس، ص145.

[30] والأصل خشبيّتان.

[32] انظر: فورستر، جروس برس، (1994). أركان الرواية. (ترجمة: موسى عاصي)، طرابلس لبنان، ص61.

[34]الكابوس، ص62.

[36]الكابوس، ص63.

[38] برنس، جيرالد، (2003). المصطلح السردي، (ترجمة: عابد خزندار)، القاهرة: المجلس الأعلى الثقافي، ط1، ص19.

[40] جنداري، إبراهيم، (2001). الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا. بغداد: دار الشؤون الثقافية، ط1، ص73.

[42] شعلان، سناء، (2006). مجموعة قصصية بعنوان (ناسك الصومعة)، قطر: نادي الجسرة الثقافي، ص81.

[44]ناسك الصّومعة، ص82.

[46]البناء الفنيّ في الرّواية العربيّة في العراق، ص11.

[48]لحميداني، حميد، (1991). بنية النّص السردي من منظور النّقد الأدبي. ط1، المغرب: الدّار البيضاء الصّادر عن المركز الثقافي العربي،  ص49.

[50]ناسك الصّومعة، ص30-31.

وسوم: العدد 769