من وحي الوافر
إلى عارفيَّ، لعرفانهم، هدية مغتبطٍ يشكر إلى منكري الأُلى أظهروا، ومستنكري الأُلى أضمروا هدية لم يزل آملاً برغم الدياجير أن يبصروا إلى هؤلاء وأُلاء سواء كتابي، وحييت يا مبحر قصدنا الأواذيَّ هدارة، فما راعنا تبجٌ يهدر، فإن كنت ذا قدرةٍ فاصحبنا، وإلا ففسح لمن يقدر.
البيان الثاني
لدينا في شعرنا الحديث مسألة.. ومطلوب أن نستجليها، وأن نعكف على معالجتها، وألا نفارقها حتى ننتهي فيها إلى قرار، سميت قبل سبعين عاماً بالشعر الحر، ثم توالت على تسميتها استدراكاتٌ، لكن لا تزال التسمية الأولى هي الأشيع، وإن شابها بعض غموضٍ مرجعه إلى معنى الحرية. عرضت لها في بيان أول مستهل "عفت سكون النار" نشر سنة 1972م راجياً أن يكون محققاً للمطلوب إذ ألمَّ بجوانب المسألة في مجملها، لكن خمسين عاماً مرت ولا يزال الغرض ينأى، مُنبئاً أن هناك صعوبة، والصعوبة – عندي – راجعة إلى طروء معنى الحرية على شعرنا الحديث، وعلى حياتنا الحديثة كلها، وهو معنى لم يكن قائماً في العقل الناطق بالعربية قديماً، في الشعر أو نقده، أو في الحياة على وجه العموم. ذلك أنه معنىً وفد إلينا من بعيد، ولم يكن ناشئاً فينا.
كانت الحرية عند العربي "فطرة"، كانت هي الأصل الأصيل في عالمه كله. لذا لم يكن محتاجاً إلى أن يجعل منها موضوعاً للنظر في معناها. ولذا برئ فكره من "اللت والعجن" الذي ملأ فكرنا الحديث بشأن ذلك المعنى. قالت هند مندهشة لما أُمرت النساء بألا يزنين: "وهل تزني الحرة يا رسول الله؟!" وأدل من هذه الكلمة على استحكام معنى الحرية في الوجدان العربي كلمة عمر رضوان الله عليه لعمرو بن العاص، رفيقه في الصحبة والجهاد "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" الناس: أي كل الناس لا العرب وحدهم. الأصل عند العربي ألا يقهر أحد، "ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
وأرض الله واسعة.. ما على العربي إذا أراد أن يملأ رئتيه من سعتها إلا أن يخرج من داره متأبطاً "شره" ليجد نفسه في فلاة خريتها الضارب فيها – بعبارة المتنبي – بلا دليل، والصابر على حرها بلا لثام.. هو حرٌ، وكل عباد الله أحرار، بحكم خلقة ربهم، لا استنتاجاً من مقدمات أو مجادلات.. تلك طبيعته الحق التي قد تصيبها الحوادث أحياناً بالوهن، لكنها لا تلبث أن تلم الشعث عائدةً إلى سابق عهدها، إلى أصل خلقتها..
وإذا استحضرنا في أخلادنا أن الحرية وجدان العربي أصل، فيجب أن نذكر معها أن كل شؤون الحياة وكل علومها قائمة على "أصول". ولله در ابن جنى لما رأى في العربية "خصائص" هي فيها "أصول" عُليا تتجاوز ما فيها من مقتضيات الرفع والنصب والجزم مما فرغ منه في أكثر الكتب المصنفة فيه، ولما طلب لكتابه الشهير الصعب أن يكون مبنياً على "إثارة معادن المعاني"، وتقرير حال الأوضاع والمباني، وكيف سرت أحكامها في الأحناء والحواشي" (الخصائص:33)، الأحناء جمع حنو كعلم. كلمةُ استعملها ابن جنى في موضع آخر (ص: 13) وقال المحقق في شرحها "أحناء الأمور أطرافها ونواحيها، وأحناء الأصل اللغوي تصاريفه، فإنَّ كل تصريف طرفٌ له وناحيةُ منه". ورحم الله الشيخ "محمد علي النجار"..
هدى ابن جنى إلى علم بشأن طبيعة العربية رآه جديداً.. وإنه لكذلك.. علمٌ ظل عاكفاً عليه زمناً معظماً له، معتقداً فيه أنه من أشرف ما صنف من علم العرب "وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة"، مقرراً أن البصريين والكوفيين نكلوا – معظمهم – عن الخوض فيه لما فيه من غرابة وفذاذة.
واكتفى هنا بملحظ واحد تاركاً التفصيل إلى غير هذا المقام. بدأ الرجل كتابه بالفرق بين الكلام والقول ناظراً في "أحوال تصاريفهما واشتقاقهما مع تقلب حروفهما – قال: فإن هذا موضعٌ (يعني الاشتقاق مع التقلب لا الاشتقاق المعهود المعلوم في علم الصرف) يتجاوز قدر الاشتقاق، ويعلوه إلى ما فوقه". وأريدك الآن أن توجه أقصى انتباهك إلى الجزء الأخير من العبارة، أعنى إلى قوله "يعلوه إلى ما فوقه، قبل أن تتأمل ملاحظته. قال: إن معنى " ق و ل" أين وجدت، وكيف وقعت، من تقدم بعض حروفها على بعض، وتأخره عنه، إنما هو الخفوف والحركة، وجهات تراكيبها الست مستعملة كلها" (قال الشيخ النجار: الخفوف من قولهم: خف القوم إذا ارتحلوا مسرعين).
الخفوف والحركة! ذلك هو المعنى "الأعلى" الذي كان يجول في خاطر العربي – واعياً أو غير واعٍ – وهو يقلب المادة المعطاة له في جهاتها الست، فلا يترك منها جهةً إلا ولها حظ من ذلك المعنى العام الذي يتنزل من عليائه على اللسان بادياً على نحو ما في كل أنحاء المادة.. وإذن هذه لغة كأنها نشأت في السماء. فأيُّ عجبٍ هذا؟! لكن يلزمنا هنا لُبثة نحاول فيها أن نكشف عن وجه العجب، أو بعضه على الأقل. "ق و ل" تلك هي المادة المتاحة.. فلننظر كيف عالجها العقل العربي قبل أن تستحيل إلى ألفاظ متنوعةٍ جارية على الألسنة في انسجام وسلاسة.. وتفسير هذا – عندي – هو الكلمة التي تستعمل أحياناً في تفسير الشعر: الإلهام. ألهم العربي وسيلة سهلة يقتدر بها على توليد ما لا حصر له من الألفاظ هي ما سماه بعض عظمائنا القدامى من علماء الصرف والنحو "الأوزان". الوزن هو القائد، هو الآمر، وما على اللسان إلا أن يطيع. وهذا شيء يشبه الحاصل عند نظم الشعر.. لا يستطيع الشاعر أن يمارس عمله عندما تتهيأ له البواعث إلا إذا جاءه أمرٌ من الوزن أو من "البحر" كما سماه الخليل.. عندئذٍ فقط يمكنه أن يحرك ألفاظه تلك الحركة العجيبة التي نسميها " الشعر" مستعيناً بكل خصائص لغته التي نفذ إليها وكشف عنها ودُونت في علوم.
أردت أن أُبين لك عن وجه العجب فيما لحظه ابن جنى، لكن كأني أحتلك إلى ما هو أعجب.. ما تلك الأوزان؟ ما حقيقتها؟ ما طبيعتها؟ وما نوع الحركة السارية في كل وزن مميزةً له عما سواه، دالةً على معنى خاص يتوخاه الناطق غير مستطيع العبارة عنه إلا بتلك الحركة التي كأنها لحن وما هي باللحن؟ أعني أن الوزن هنا مغايرٌ للوزن العروضي، اتحد اللفظان وافترق المصطلحان. مسألةٌ واضحٌ أنها صعبة. وواضحٌ أنها توشك أن تدخلنا إلى ذلك العالم الغامض، كثيف الغموض، عالم الروح. تساءلت في البيان الأول عن سر الوزن الشعري، أو العروض، متوقفاً عند الخفيف:
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
قائلاً: ما الذي ينشئ من هذا الترتيب لحناً معجباً؟ ثم أعلنت عجزي عن الجواب، وكأني أعلن عجز كل أحد سواي.. وهأنذا الآن أكرر التساؤل لكن بشأن أوزان الصرف لا أوزان العروض. وأقول لك جازماً بأننا إذا طلبنا الجواب في عالم الحس، أو الأعيان، أو الخارجات، فلن نجده. مطلوبٌ منك أن تناجي روحك، لعلها تفضي إليك بشيء.
دع ذا إلى حين، ولنعد إلى شيخنا.. أخبرنا أن أبا علي – أستاذه – كان يرى ما رآه. قال: شاهدته غير مرة إذا أشكل عليه الحرف الفاء أو العين، أو اللام، استعان على علمه بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه.. قال: "فهذا أغرب مأخذاً مما تقتضيه صناعة الاشتقاق، فإن ذلك إنما يلتزم فيه شرج واحد من تتالي الحروف من غير تقليب لها ولا تحريف" قال المحقق: الشرج الضرب. يقال هما شرج واحد، وعلى شرج واحد، أي ضربٍ واحد. وابن جنى يعنى بصناعة الاشتقاق الاشتقاق الصرفي المعروف. وهو غير الاشتقاق "الأعلى" الذي لحظه وأعجب به هو وشيخه. وإليك فرق ما بينهما.
"ق. و. ل" ثلاثة أصول لكلمة. لشيء يكون. هي ما سماه علماء الصرف بالمادة. لكنها تبقى جامدةً خرساء لا تقوى على أن تصير "شيئاً كائناً" إلا إذا أضيف إلى كل منها حركة.. أخبرنا سيبويه أن ذلك رأي الخليل.. قال: قال الخليل: وإنما البناء على الساكن. يعني على المادة الأصلية، التي هي هنا "القاف" و "الواو" و "اللام".
ألحق العربي بكل منها فتحةً فنطق الأخرس: قول. هذا باعتبار ما يفرضه الوزن، لكن العربي باعتبار ما يناسب لسانه كان له رأي آخر. قلب الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها، وجد هذا أيسر، وجعله قانوناً في واو أو ياء تتحرك وينفتح ما قبلها.. فعل هذا – ربما واعياً وربما غير واع – لكنّ الذي يعنينا هنا على كل حال هو أنا بإزاء قضيةٍ ليس فيها أدنى ريب: إن هنا "نظاماً" أي إن ما نطق به العربي لم ينطق به سبهللا، أو تأثراً بشيء ما في عالم الأعيان، وإنما جاء به استجابة لتوجيه علوي.. ولعلّ في هذا بعض ما يفسر ثناء ابن جنى على "هذه اللغة الشريفة" وعلى ما أودعته "من خصائص الحكمة".. أي من الخصائص الدالة على أن العرب أمةٌ حكيمة حباها الله عقلاً قوياً ووجداناً مرهفاً، وعلى أنها ذات ذوق حساس خبير بكل ما هو أنسب وأجمل في اجتماع الأصوات وتفاعلها..
هذه لمحة عن الاشتقاق المعتاد، ذي الشرج الواحد.. أما الآخر الذي هو أعلى فهو أروع.. "ق. و.ل". بعد أن فرغ العربي من تصريف هذه المادة حسب المركوز في وجدانه من أوزانٍ لم يقنع.. ورأى في المادة باباً لا يزال مفتوحاً لمزيد من التصريف.. خطر له – واعياً أو غير واعٍ – أن يقلب المادة لينظر ماذا بعد، فجاءته "ق.و.ل"، ثم بدأ بالواو فجاءته "و.ق. ل"، ثم غير الترتيب فجاءته "و.ل. ق" ثم بدأ باللام فجاءته "ل. ق. و"، وغير الترتيب أخيراً فجاءته "ل. و. ق". ثم غلغل في هذه الجهات الست مشيعاً فيها جميعاً معنى "الخفوف والسرعة".. قال في توجيه الأصل الأول، وهو القول إن الفم واللسان يخفان له ويقلقان، وهو بضد السكوت الذي هو داعيةٌ إلى السكون. قال: "ألا ترى أن الابتداء لما كان أخذاً في القول لم يكن الحرف المبدوء به إلا متحركاً، ولما كان الانتهاء أخذاً في السكوت لم يكن الحرف الموقوف عليه إلا ساكناً". وقال في توجيه الأصل الثاني: منه القِلو: حمار الوحش، وذلك لخفتته وإسراعه.. ومنه قولهم "قلوت البشر والسويق، وذلك لأن الشيء إذا قلي جفَّ وخف، وكان أسرع إلى الحركة". وقال في الثالث: منه الوقل (ويقال فيه الوقّل والوقلُ كذلك) للوعل، وذلك لحركته.. وقالوا: توقل في الجبل، إذا صعد فيه وذلك لا يكون إلا مع الحركة والاعتمال وقال في الرابع: قالوا: ولق يلق إذا أسرع.. وقال في الخامس: جاء في الحديث "لا آكل من الطعام إلا ما لوق لي، أي ما خُدم وأُعملت اليد في تحريكه حتى يطمئن وتتضام جهاته.. ومنه "اللوقة" للزبدة، وذلك لخفتها وإسراع حركتها" وقال في السادس: منه اللقوة للعقاب، قيل لها ذلك لخفتها وسرعة طيرانها..
ذلك هو الاشتقاق الأعلى، وواضحٌ به أن لدينا هنا "نظاماً" آخر يضاف إلى النظام السابق.. وواضحٌ بهما – وبغيرهما بطبيعة الحال – أن العربية مجموعة من الأنظمة التي يحق لنا متابعةً لابن جنى وصفها بالعلوية. أي أنها شيءٌ يصعب جداً نسبته إلى "الأرض" وما تعج به من مصادفات، أو إلى ما سمي في علم الطبيعة الحديث بالفوضى الخلاقة.. وإنما هي شيء يكاد يكون معجزة، شيءٌ يؤكد صحة ما قرره فلاسفة ما سمي في تاريخ الفلسفة بالمذهب العقلي، في مقابل ما يقال له فيها المذهب الحسي، وهي الكلمة التي كأن المترجمين المحدثين صعبت عليهم ترجمتها فاقترح بعضهم تعريبها بـــ "امبريقا" أو "امبريقية" وهو لفظ فيما أرى لا يسوغ ولا حاجة إليه.
والخلاصة أن العربية لها على وجه العموم "نظام" ومطلوب إذن من أهلها الناطقين بها أن ينسجموا مع هذا النظام.. وهم يسيئون إليها إن لم يفعلوا، ويسيئون – من ثمَّ – إلى أنفسهم. هي نظامٌ في صرفها، ونظامٌ في نحوها، ونظامٌ في عروضها، ونظامٌ في أساليبها البلاغية..
وهذه الأنظمة تأتلف جميعاً منشئةً روحاً واحدةً تسري في ذلك الجسد البديع الذي يسمى "العربية"، والذي لا يزال حياً، وسيبقى حياً بإذن الله، وفضله، وفضل مزاياها الذاتية التي أعانتها على الحياة حقباً تلو حقب برغم ما أصابهما، ويصيبها، من سهام..
ثبت إذن بتحليل ابن جنى لمسألة الاشتقاق أن العقل العربي مطبوعٌ على أن يكون مشرفاً موجهاً مهيمناً، قادراً على أن يرى أبعد كأنه زرقاء اليمامة، أو كأنه فارسٌ قائدٌ أريبٌ مغوارٌ محسن للكر والفر، بينا تراه هنا إذا به في مثل لمح البصر هناك.. اللغة أصوات لا تنبعث في العربية اتفاقاً ولا تصدرها اللهوات كيفما اتفق، وإنما هي دائماً في طاعة العقل.. ومن أرادها إذن على غير هذا، وسنرى أنها أريدت على غير هذا، إنما هو إما عابثٌ مهذارٌ أو ساعٍ عمداً إلى شر.
قال قائلٌ من كلامٍ مفترضٍ أنه شعر:
التقت أشجارنا بالرجم فارتفعت على الصندوق شاهدةً:
هنالك نارنا السفلى مُغذاةً بأكباد النوارس
خطوةٌ ويصير نحرٌ لصق جثته
فماذا أدهش الروح
اتفقنا والضفائر مُثقلاتٌ بالنتائج
هل رقابُ المبدعين رهينةٌ؟
تدنو إلى أحداقنا الكُواتُ عادلةً:
تهرب للخلاءات القريبة نارنا العليا
وتنقبض انقباض الساترين
نوافذي مفتوحة..
وكتب كاتبٌ تعقيباً على هذا الكلام يقول:
"أعترف أن هذا المقطع استغلق تماماً على ملكة التخيل والفهم عندي.. فالأسطر تبدو جُملاً منفصلةً منطلقاتٍ في اتجاهات غير متجاوبة، والصور كأنها حمرٌ مستنفرةٌ.. فالمقطع كله دال على ما يمكن أن تصل إليه الكتابة التلقائية إذا تحولت إلى شطح يتباعد كل التباعد حتى عن هدفه الجمالي (قلت: كأن الجمال يمكن أن يكون هدفاً للشطح!) – قال: "ونماذج هذا النوع من الشطح الجمالي تجسيدٌ لأقصى الطرف الذي تغدو فيه الحداثة مبتورة الصلة بالمنطق الداخلي (الشعوري أو اللاشعوري) اللازم لهذا النوع من الكتابة، وإلا انقطعت إمكانات اتصاله بالقارئ".
وهنا يلزمنا لُبثةٌ أخرى للحظ أمورٍ في هذا الاعتراف:
الأول أن حكمه بالاستغلاق منطوٍ على تناقض مع حكمه على النص (إذا افترضنا أنه نص) بأنه "جُمل". ذلك أن "الجملة تعني الفائدة، ولعل الأستاذ يذكر، وهو أحد أساتذة العربية قول ابن مالكٍ "كلامنا لفظٌ مفيدٌ..."، وما هو "مستغلقٌ" غير مفيد، وكأنه – بدون أن يفطن – جمع في صفة النص أنه غير مفيد ومفيدٌ، وهذا هو الجمع بين النقيضين المقرر في علم النطق أنه ممتنع.. وتناقض كذلك إثباته صوراً ليست صوراً لأنها حمرٌ مستنفرة..
والثاني أن ما سماه بالكتابة "التلقائية" إنما هو تجويزٌ أو تشريعٌ للكلام الفارغ.. والأصل في الكتابة أنها قيدٌ أو ضبطٌ للفكر..
والثالث: أنه جعل ما سماه بالشطح الجمالي مذهباً من مذاهب ما سماه بالحداثة.. وكأنه مقتضى على أهل هذا العصر الحديث، وأهل كل عصر يحدث بعده أن يكونوا من الشاطحين، والحجة التي يقيمها الدجل أنهم يبتغون الجمال بشطحهم!
دعاني إلى التوقف عند هذا العيب في هذا المقطع دلالته على مرض فشا في الشعر الحديث كله، وخصوصاً في نصف القرن الأخير، ولولا هذا ما باليت، ليس همي إلى هذا النص أو ذاك، لكنَّ همي إلى الحالة العقلية أو النفسية أو الروحية العامة، هذه الحالة تتجاوز الأفراد من حيث هم أفراد لتشتمل الوجود القومي كله، وهذا هو الخطير، ألسنا أبناء أمة؟ ألست أنا وأنت جزءاً من كل مفترض أن يكون قائماً، وأن يكون وجوداً متماسكاً قوياً عزيزاً؟ تلك هي المسألة التي قلت مستهل هذا البيان الثاني أنها هي التي تعنيني، لا تقصير هنا وتقصير هناك من شاعر، أو غفلةٌ هنا أو غفلةٌ هناك من كاتب أو ناقد، هذا الغموض المتكاثف في الفكر الحديث كله لا في الشعر الحر وحده صار كأنه شيءٌ مرادٌ، لا شيءٌ جاءتنا به مصادفة عمياء أو تفاعلات اجتماعيةٌ ماديةٌ خالصة.. ولك أن تقول إذن إنه "ظاهرة" سياسيةٌ لا ظاهرةٌ فنية..
ظهر ما يشبه هذا النوع من العيب في الحياة العربية قديماً، زمن البعثة النبوية المباركة، لما خطر لنبي كذاب إمكان أن يروج كذبه عند عرب زمانه، وعرض كلامه على أبي بكر رضوان الله عليه فرد المكر رداً حاسماً قاطعاً بكلمة واحدة، قال لهم: ويحكم! أين يذهب بكم، هذا كلامٌ لا يخرج من إل.. قلت للإل معانٍ متعددة، لكن السياق دالٌ دلالةً واضحة على أن المعنى الذي يستقيم معه هو "العقل".
وكأن أبا بكرٍ أراد أن يقول للعرب: إن القرآن على النقيض. أعملوا عقولكم تعرفوه.. قلت: وكانوا مُهيئين للتجاوب مع هذا المطلب لأنهم كانوا أهل شعر، أعني أهل عقل.. للشعر عندهم شرطٌ أولٌ، أو حد أولٌ، أو عمودٌ أولٌ هو العقل.. وذلك بين في اللغة كلها، نثرها وشعرها وقرآنها..
ولا يخلو زمن – بطبيعة الحال، أن بحكم ما طبع الناس عليه – من قلة العقل.. لكن هذه الحقيقة العامة لا ينبغي أن تُطمئننا، لأن الذي نحن فيه في هذا الزمن مختلف.. إنه ركونٌ إلى التسيب واستنامة له، حتى لكأن الناس في خدر.. وإلا فكيف جاز للكتابة "التلقائية" أن تكون "مذهباً" عند أناس مفترضٍ أنهم عقلاء؟!
والسؤال الصعب الآن: ما الذي هيأ لهذا العيب المدمر أن يوجد، وأن يتمكن؟ الجواب عندي، وعند كل ناظر متأمل فيما سبق لا مناص من أيكون منوطاً بنشأة تلك الطريقة التي جدت على نظم الشعر فعدلت به عن البيت الذي له أولٌ معلوم وآخرٌ معلوم إلى "تفعيلة" تنطلق بلا رسن ثم تمضي إلى حيث تدفع بها ريح المصادفة وإغراءات الأصوات أو أجراس الأحرف، ثم لا تكون النتيجة بعد هذا التفلت إلا ضعف القدرة على الضبط وكبح الجماح والقيادة الرشيدة للفكر الشعري.. لا مناص، ويندر جداً أن تجد من يفلح في النجاة من هذا الوبال.. ثم يقع هذا النثار بين يدي الناقد فيقلبه ذات اليمين وذات الشمال راجياً أن يحصل على معنىً فلا يجد إلا أوشالاً ويضطر عندما تعجز "ملكة" التخيل والفهم عنده عن الاستيعاب إلى "الاعتراف" بالعيب متظاهراً بإيثار الإنصاف..
ما الذي شق اللغة – وهي في الأصل شيء واحد بطبيعة الحال – شقين، فصارت إلى نثر وشعر؟ الجواب القديم والذي سيظل صحيحاً عندنا على الأقل هو "الوزن والقافية".. بهما وقعت الفرقة البينة وهذا واضح.. أما غير الواضح فهو كيف كان ما كان؟ في حوالي ألف وثلاثمئة صفحةٍ حاول السوداني عبد الله الطيب أن يجيب، لكنه – واأسفا – ضل، لأنه رفض القول بالفطرة وانحاز انحيازاً كاملاً إلى تفسير حسي مادي.. وهو رجل ذو علم واسع باللغة، وصاحب شعر كذلك، فهو لهذا مستحق للاهتمام وفحص ما يزعم، وقد أسرف جداً في ذهابه إلى أن العروض العربي وافد من اليونان، مستنداً إلى رأي خاطئ أن العروضين ينتميان إلى ضرب واحد يوصف في علم اللغة بالكمي.. وقد رددت عليه في مقام آخر، فلا حاجة إلى تكرار القول..
لكن الذي يعنينا من ذكره من هنا ما نحن فيه من النظر في مسألة الشعر الحر، وعلاقتها بالعقل العربي من جهة، وبالسياسة العربية من جهة أخرى، وإن كانت الجهتان عندي جهةً واحدة، أو كأنها كذلك.
السؤال الصعب، وما أكثر الأسئلة الصعبة، من أين جاءنا الوزن والقافية؟ وإن اعتمدنا القول بالفطرة، فما حقيقة الفطرة؟ وكيف أمكن لها أن تئول إلى لغة ذات قوام بديع قائمٍ على "أنظمة" متعددة – كما قلنا من قبل – اتحدت في "نظام" شامل سرى في كل جوانبها وهيأ لها أن تكون ملهمة للعقل العربي إلهاماتٍ متنوعةً ذات نتائج مشهودٍ لها بالعظمة حتى من أعداء العربية؟ واجهت المسألة في البيان الأول، مستشهداً بالخفيف، أنه لحنٌ فذ.. لم أقصد الخفيف من حيث هو، بل قصدت كل بحر يشبهه من البحور المتغايرة التفاعيل كالطويل أو البسيط على سبيل المثال.. ظناً مني أن تفسير الجمال الموسيقي مع التغاير أصعب منه مع التماثل، لظهور التكرار مع الأخير وعدم ظهوره مع الأول.. أثرت المسألة وتركتها بلا حل، معتذراً بأنها "روحية"، وأن الروح من أمر الخالق.. ومرت أعوام وأعوام والمسألة باقيةٌ على غموضها، ومع اعترافي بأنها لا تزال غامضةً وجدت عندي بعض الضوء.
هنا يلزمنا وقفةٌ مع مصطلح مألوفٍ في علم الموسيقى غير مألوف في علم العروض: الإيقاع..
جاء في "اللسان": "الإيقاع من إيقاع اللحن والغناء.. وهو أن يوقع الألحان ويبينها.. وسمي الخليل رحمه الله كتاباً من كتبه في ذلك المعنى "كتاب الإيقاع".. واضح من هذا أن الكلمة مستعملةٌ في لغتنا من قديم.. لكن ليس بين أيدينا كتاب الخليل في العروض، ولا كتابه في الإيقاع.. وعلينا إذن أن نعمل الاستنتاج بقدر الإمكان لنعرف شيئاً يطمأن إليه عن طبيعة الإيقاع.. تدلنا قواعد الاشتقاق في التصريف العربي على أن الكلمة مصدر "أوقع أو "أفعل" الثلاثي المزيد بالهمزة..
أما المجرد فهو "وقع" الذي يجيء مباشرة من المادة الأصلية الثلاثية، الواو والقاف والعين، والذي مصدره وقع ، والوقع لغةً: هو الأثر الذي يحدثه الصوت مطلقاً وينقله العصب إلى الوجدان.. وهذا لا يعنينا هنا، وليس يعنينا كذلك الصوت اللغوي لأنه مبحثٌ متعلق بعلم الأصوات.. إنما الذي يعنينا الآن فهو ما يمكن أن يسمى "الصوت الشعري".. أي الصوت الذي هو أول الشعر.. هذا الصوت الشعري منصوصٌ عليه في كل كتب العروض.. يقول التبريزي مثلاً:
الشعر كله مركبٌ من سبب ووتد وفاصلة". هذه هي أجزاء الشعر الأوائل.. وكلٌ منها مركبٌ من سكوناتٍ وحركاتٍ متضامة في كتلة صوتية واحدة.. هذه الكتلة وصفها "الشريف الحسيني" – رحمه الله عليه – وصفاً دقيقاً بقوله إنها لا "تتبعض"، يعني لا تتجزأ، وإن كانت مركبة من أجزاء، يعني أن تجزءها أو أجزاءها تعني الناظر في علم الأصوات ولا تعني الناظر في علم الشعر، الذي هو العروض فيما نحن بصدده.. هذه الكينونة، أو الكينونات، لكل منها وقعٌ في الأذن العربية، وربما في غيرها أيضاً أحياناً.. فإذا طلبنا صفةً لهذا الواقع مستقلاً مجرداً، فماذا نجد؟ أعنى عندما "نعلو" ولنذكر ما جاء في "ابن جنى" عن العلو فيما سبق – متجاوزين الدلالة اللغوية للألفاظ الممثلة لتلك الأجزاء الأوائل.. نجد السبب الخفيف كأنه نقرةٌ واحدة، "تم" – لكن لها تميزها مع كونها واحدة – ونجد الوتد المجموع نقرتين على نحو خاص تتم، ثم نجد الفاصلة الصغيرة ثلاث نقراتٍ على نحو خاص تتتم.. وكأننا نصغى حنيئذٍ إلى "موسيقى" خالصة.. لكن هذه الموسيقى التي كأنها خالصةٌ ليست هي الشعر.. إن الشعر مختلفٌ جداً..
وإنما هذه الأجزاء الأوائل مقدمة ليس إلا له، أو تمهيدٌ يشبه في وظيفته وظيفة الحرف المتحرك – أول النطق.. وإنما هي الشرط الأول للشعر.. ولما كانت اللغة برمتها هي ما بعد الحرف المتحرك، فكذلك الشعر برمته هو ما بعد السبب والوتد والفاصلة..
هل آن الآن بعد هذا القدر من التفصيل أوان تعريف الإيقاع، أعني الإيقاع في الشعر العربي؟ فلنحاول..
"الإيقاع أثرٌ سائغٌ واقعٌ في الوجدان تحدثه كتلةٌ صوتيةٌ منطوقةٌ، ذات مدى يضيق حيناً حتى يكون بقدر السبب الخفيف، ويتسع حيناً حتى يكون بقدر بيتٍ من "الطويل"، أو مما يضارعه طولاً". لكن هذا لا يكفي لأنه يغفل "القافية" وفعلها في اللحن والإيقاع لا يقل خطراً على فعل الوزن.. ثم إنه يغفل كذلك الأثر الحادث من توالى الأبيات المقفاة منشئةً بنيةً ذات وقع إجمالي مضافٍ عند نهاية المطاف إلى وقع كل بيت على حدة..
وصدق الذي قال "الشعر صعب"! ومن صعوبته أن تعريفنا قد يرد عليه استدراك. فمما يؤخذ منه أن النثر أيضاً قد يكون له ضرب من الإيقاع، إذ أن الأجزاء الأوائل دخلةٌ بالضرورة فيه وكل منها إيقاع.. والرد أنه لا بأس بهذا.. إن هذا الضرب من الإيقاع النثري إحدى مزايا العربية، لكنه لا يرقى إلى الإيقاع الشعري، لأن الإيقاع لا يكون شعراً إلا إذا آلت الأجزاء إلى "نمط"، أي إلى رسم يمثل في المخيلة قادرٍ على أن يهز النفس هزاً يحسه كل ذي حس.. وأقصى ما يمكن أن تئول إليه الأجزاء الأوائل أن تتركب بحيث تنشأ من تركبها الأجزاء الثواني،، التي هي بمصطلح العروضيين "التفاعيل"، والتفعيلة مستقلةً إيقاعٌ، هذا أمرٌ لا شك فيه، يمكن تبينه بالنقر، لكنها كذلك لا تقوى على أن تئول إلى نمطٍ ما بقيت عرضة لفوضى النثر.. في النثر يمكنك أن تجمع بين "فعولن"، و"مستفعلن" مثلاً، لكن الأنماط الشعرية تأبى هذا الجمع.. والأنماط الشعرية هي المنصوص عليها في علم العروض، المسماة بالبحور، والقابلة لأن يضاف إليها غيرها بالاختراع..
والسؤال الآن ما معيار النمطية، ثم نثبت نمطاً ونفى آخر؟
والجواب الذي أوقن أنه لا جواب غيره، والذي قد يرى العقل التحليلي أو الرياضي أنه غير كافٍ، هو "الذوق" أو "الفطرة" التي ردها عبد الله الطيب رداً لم يكن يليق به، مؤثراً عليها الزعم بأن العرب استعاروا أنماطهم أو بحورهم من يونان..
وبقى شيءٌ في مسألة الإيقاع مهم جداً.. يقال إن من خصائص الإيقاع التكرار.. والعربية لا تأبى هذا القول.. إن الناظر المتأمل في مشتقات مادة "وقع" يمكنه أن يلحظ في يسر صفة التكرار.. جاء في "اللسان": يقال سمعت وقع المطر، وهو شدة ضربه الأرض إذا وبل..
ويقال سمعت لحوافر الدواب وقعاً ووقوعاً.. ووقيعة الطائر، وموقعته – بفتح القاف – موضع وقوعه الذي يقع عليه ويعتاد الطائر إتيانه..
والتوقع تنظر الأمر.." وهذا المعنى المستنبط استنباطاً في العربية منصوصٌ عليه نصاً في غيرها.. جاء في معجم "وبستر" مثلاً في تعريف الإيقاع إنه: تعاقبٌ متكررٌ منتظم..
ما الذي يتكرر، وكيف؟ النظرة العجلى لرسوم الأبحر في كتب عروضنا توحي بأن هناك شيئاً ما يتكرر.. فلننظر – على سبيل المثال – في محاولة الجواب في البحر البسيط:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن
هذه صورته في الدائرة.. أي هذه صورته الأصلية.. وواضحٌ من الرسم تكرر "مستفعلن" وتكرر "فاعلن". وإذا صح أن التكرار من خصائص الإيقاع فإن هذا الرسم الذي بين أيدينا معبر عن إيقاع لا شك فيه، لكن هذا اليقين ينهار بالنظرة المتأملة في تاريخ الشعر العربي كله.. إنا لا نجد في ذلك التاريخ العريق بيتاً واحداً يمكن أن يصدق عليه هذا الرسم في انتظامه الحسابي الدقيق(1). أما الإيقاع الحق فصورته الحق هي ما يلي:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن
هذه هي الصورة التي اعتمدها الشعراء العرب طوال الحقب المتوالية منذ الجاهلية حتى اليوم.. وهي شاهدةٌ على انهيار التكرار بسقوط الثاني الساكن من التفعيلة الأخيرة، أو ما يعرف عند أهل العروض بالخبن.. والسؤال الآن الذي يصعب جداً جوابه هو ما الذي فعله ذلك التغيير الهين جداً في هذا الرتل الصوتي فقلبه من "ثقيل" جداً إلى "سلس جداً؟!
أليس هذا غريباً؟! والأغرب أن التكرار يغيب أحياناً غياباً باتا ولا يغيب الإيقاع أو "الوزن".. خذ مثلاً مخلع البسيط "مستفعلن فاعلن فعولن".. فهذه كينونةٌ عروضية سائغةٌ لا ينبو عنها الذوق.. ومع ذلك فهي جامع ثلاث تفعيلات كلٌ منها قائمٌ برأسه.. فإذا قلنا إن الكامل مثلاً تنشأ موسيقاه من تكرار "متفاعلن" فمم تنشأ الموسيقا في "المخلع" وقد تخلع.. كيف صار كينونةً واحدة وهو كما يدلنا الرسم كأنه يسير على هواه بلا رسن؟!
ومما يلحق بالتكرار في مسألة الإيقاع ما يُسمى بالتناسب، أو التجاوب. رأى بعض النظار المحدثين في العروض أنه إحدى خصائص الإيقاع.. مثال هذا زعمهم أن إيقاع "الطويل" مثلاً قائمٌ على قسمته إلى:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
أو إلى التطابق بين التفعيلة الأولى والثالثة، وبين الثانية والرابعة.. أو بين التفعيلتين الأولى والثانية مجتمعتين، والثالثة والرابعة مجتمعتين.
أو إلى كون الوتد المجموع قائماً أول كل تفعيلة..
يبطل الزعمين الأول والثاني أن الطويل، كما يدلنا تاريخ الشعر العربي كله عروضه مقبوضةٌ دائماً.. أي أن صورته في الاستعمال – ولا عبرة بالتصريع أول القصيدة إن وجد:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
أي لا تطابق بين الثانية والرابعة..
ويبطل الزعم الثالث أن القسمة العروضية المقررة للطويل ممكنة لا واجبة، أعني يمكن أن ينقسم البحر قسمة أخرى مخالفة لكنها صحيحة، فيرسم البحر كما يلي:
فعولن فعولن فاعلاتن مفاعلن
وفي هذا الرسم الصحيح بلا شك يتخلف الوتد في الثالثة ليحل محله سببٌ خفيفٌ. وإنك لرائيه متحققاً في مطلع جيمية ابن الرومي:
وتقطيعه على الرسم غير المعهود:
أمامك فانر أي نهجيـــ كتنهج طريقان شتى مستقيمٌ وأعوجو
فعول فعلون فاعلاتن مفاعلن فعولن فعولن فاعلاتن مفاعلن
وإذن نخلص من هذا القدر من النظر في المسألة إلى أن الإيقاع في الشعر العربي لا علاقة له بالتكرار ولا بالتناسب.. وإنما هو شيء يصدق عليه ما ارتآه ابن رشيق في مفتتح "العمدة" قال:
"ليس للجودة في الشعر صفة، وإنما هي شيء يقع في النفس".. وأقول محاكياً:
ليس للإيقاع في الشعر صفة، إنما هو شيء يقع في النفس.. ولن يستطيع تحليلٌ مهما دق أن يكشف عنه إلا القشور.. ولا تعجب، ملك الله كله عجب. أما إذا راعك ما قلت فأنصحك أن ترجع إلى كتاب "فلسفة الرياضة" لمحمد ثابت الفندي، وهو أستاذ متخصص في علم الرياضة والفلسفة.. عني – ضمن ما عُني به من مسائل رياضية، بدرس نشأة "العدد" في العقل، وبعد أن طوف مع آراء العلماء في الموضوع عرض لرأي رياضي ألماني كبير هو "كرونكر" لم يرض عنه.. قال كرونكر إن العدد تنزل إلى عقل الإنسان من عند الله.. قال الفندي هذا لاهوت.. وبهذا نُفي الرياضي الكبير من عالم الرياضة كأنه ليس رياضياً وليس كبيراً.. أجدني موقناً بأن الألماني لم يقل ما قال إلا بعد نظر في كل الوجوه المحتملة للتفسير ورأى في كل منها شيئاً من النقص أو العيب دفعه دفعاً إلى ذكر الله عز وجل..
لا أقول هذا ظناً، بل أقوله يقيناً، ودليلي كتاب "الفندي" نفسه.. أخبرنا في ختام كتابه أن الفرنسي "بوانكاريه حكم بأنه لا سبيل إلى التوفيق بين الآراء المتصارعة في ميدان علم الرياضة بشأن مسائلها العويصة، لأنه لا سبيل إلى التوفيق بين أصحاب المذهب العقلي وأصحاب المذهب الحسي (راجع ما سبق بشأنهما)، وبوانكاريه الذي قرر هذا أحد كبار علماء الرياضة والطبيعة في العالم، وصفه كاتب سيرة "أينشتين" بالعظيم بوانكاريه، مع أنه ظل حتى مات معارضاً نسبية أينشتين، وهو إذن رجلٌ لا يستهان برأيه، لكن يبدو أن الرياضي المصري لم يوله ما يستحق من اهتمام، ولولا هذا ما استخف بما قاله كرونكر، لأن ما قاله الألماني والفرنسي شرجٌ واحدٌ – إن جاز لنا استعمال كلمة ابن جنى هنا.. أي أنهما يصدران عن رؤية ثاقبة واحدة، المادة موجودة، هذا مسلم، وكل ما هو مادي يقبل التحليل المادي، أو الحسي، إلى أجزائه الأوائل، لكن ما العمل إذا كان ما نحن بصدده غير مادي، حينئذٍ يخفق التحليل في الوصول إلى جدوى..
هذا هو ما نحن فيه فيما يتعلق بقضايا الشعر العربي، واللغة العربية على وجه العموم. هناك ما يجري على الألسنة، وهو مادة، لهذا يقبل التحليل وقد حلل تحليلات دقيقة كل الدقة عبرت عنها علوم العربية أبلغ تعبير، لكن العلماء العرب، في رؤية ثاقبة، أبصروا الشاطئ الآخر وأدخلوه في اعتبارهم وهم ينظرون إلى المادة ويجيلون فيها حسهم، ساروا معها حتى أسلمتهم إلى الأصل الأصيل وولجت بهم عالم الروح، فانكشف لهم من أمر اللغة والشعر ما لم يكن منكشفاً إلا بتلك الرؤى والثواقب في أصول الكلم، وأصول النحو، وأصول العروض، وأصول البلاغة.
وسوم: العدد 776