أشواك البراري وسيرة التّحدّي
عرف عن الكثير من الأدباء والعلماء والمشاهير من السّياسيين كتابة سيرتهم الذّاتيّة وتفصيل مسيرتهم الحياتيّة وتجاربهم المميّزة نحو: مذكّراتي لنجيب محفوظ، رحيق العمر لحيدر أمين، مذكّرات نجيب الرّيحاني، أنا للعقّاد، حياتي لأحمد أمين، سجن العمر لتوفيق الحكيم، والأيام لطه حسين، مسيرة نحو الحريّة لنلسون منديلا، السادات البحث عن الذّات. وغيرهم الكثير.
في سيرته الذّاتيّة " أشواك البراري-طفولتي" الصادرة عن مكتبة كل شيء الحيفاوية أدخلنا الكاتب المقدسي جميل السلحوت إِلى مجتمع البداوة الّذي عاشه سنوات الخمسينات في أكناف بيت المقدس.
تعتبر السّيرة الذّاتيّة في " أشواك البراري" ملحقا توثيقيّا لحقبة زمنيّة معيّنة – بعد انسحاب الانتداب البريطاني من البلاد، وتولّي الحكم الأردني على الجزء الشّرقي من فلسطين .
عندما تقرأ في سيرة الأديب السلحوت تشعر وكأنّك تعيش في عالم غريب عنك، عالم من الخيال نسجه الكاتب بمحض خيال يبعد كثيرا عن الواقع الّذي كان يحياه العالم؛ حيث شبع من الحربين العالميّة الأولى والثانية، صنع الدّبابات والطّائرات والذّرّة والمدمّرات الحربيّة والألكترونيّات ورفع البنيان ودّمّره وبناه من جديد؛ ونحن نقرأ عن صور غريبة يحياها العربيّ في منطقة القدس، وخاصّة البدوي الّذي يركض خلف قطيع من الغنم لا يعرف ما يحيط به من حضارة، ولا يعرف شيئا عن الوسائل الحديثة في ذلك الوقت. نقرأ عن امرأة تضع جنينها في صيرة للأغنام، تترك مولودها وتسرح في البراري خلف قطيع الأغنام، وهمّ الرّجل أن يكون له عزوة كبيرة من الأولاد الذّكور.
التّعليم هو آخر، بل أبعد الاحتمالات الّتي يفكّر بها البدوي. انعدمت لديهم أيّة وسيلة للرّفاهية وجودة للحياة، لم يؤمنوا بالطّبّ الحديث، فربّما لم يسمعوا عنه؛ لذلك لم يلجأوا اليه، حتّى في أصعب ظروفهم، أفضل مثال على ذلك إصابة الكاتب بعينه ولجوئهم إِلى الفتّاحين والوصفات الشّعبيّة الّتي سبّبت له الأذى مدى الحياة.
غلبت على أحداث السّيرة الذّاتيّة عواطف الحزن، والألم، والقهر، سواء في مرحلة طفولة الكاتب، أو مراهقته، أو بداية شبابه.
اعترت حياة الكاتب جميل السّلحوت حالة نفسيّة لازمته خلال طفولته، إِثر معاملته بأنّه انسان معاق؛ بسبب فقدان عينه.
في السّيرة نرى كيف سيطر الفقر على مجتمع أو طبقة تجري ليل نهار لكسب عيشها بمختلف الوسائل وسط أوضاع سياسيّة مكهربة، كان أغلب الحذر من الشّباب المثقّفين أن يلجأوا إِلى الأحزاب الشّيوعيّة، من خلال قراءتنا النّاقدة والواعيّة لنصوص الكاتب نشعر كيف استطاع هذا الرّجل، وهذا الطّفل أن يخرج ذاته إِلى الحياة رغم العقبات ورغم المعيقات، ورغم الجهل والانحطاط الفكري والاجتماعي؛ كيف استطاع أن ينفذ بجلده وينسلخ كما الأفعى؛ ليصنع لنفسه جلدا جديدا يحميه من عثرات الزّمن. تمسّك بكل قوّته بشيء اسمه العلم والمعرفة. أعطى لنفسه حقًا من حقوقها؛ بل اغتصب هذا الحقّ وتحدّى نفسه قبل أن يتحدّى عائلته وبالأخصّ والده.
في " أشواك البراري" صنع الكاتب لنفسه عالما خاصّا دون أن يبتعد عن أهله، بل جارى التّيّار واستطاع أن يساير الأمور؛ كي تسير الحياة ببعض من السّلاسة الّتي تمنّاها. لم تعرف روحه اليأس أبدا، دائما كان لديه طموح نحو مستقبل أفضل وسعى كي يحقّق هذا الطّموح بواسطة اكماله للتّعليم الجامعيّ.
الحريّة كانت أوّل همّه؛ لأنه عرف معنى الظلم وقسوة الحياة وجفافها. قرّر أن يعطي من حياته وجهده ووقته ما استطاع.
لغة السّيرة كانت سهلة تصل القارئ بمدى السّلاسة دون جهد أو عناء.
أرى بأنّ عنوان السّيرة كان ملائمًا للأحداث. أشواك البراري ذكّرتني بشجر (العوسج) الّذي تحدّث عنه شعراء الجاهليّة.
هذه هي سيرة الكاتب الّذي تحلّى بالجرأة والصّراحة.
وسوم: العدد 780