أشواك براري جميل السلحوت والعبر المستفادة
يطول مخاض الصراعات في دواخلنا، ينمو الألم فيها على مخزون الذاكرة الحبلى بتجارب وأحداث ومشاهدات مشروخة بالعذاب بالدم بالقهر بالغضب بالظلم بقلة الحيلة بالاضهاد، كلٌ قيد تجربته. يسير الإنسان سنوات من حياته وهو يجر حمله الثقيل، يريد أن يلفظه خارج حدود جسده، ذاكرته، يريد لكل خلية في جسده أن تغتسل من آثار الدم والألم التي تصاحب عملية الميلاد؛ لكنه لا يتحلى بالشجاعة؛ ليأخذ نفسا عميقا حتى يلحقه بزفرة طويلة قوية تفرغ كل حمله؛ فهو يخشى ان لا يتقبل العالم مولوده المشوّه الموسوم بآثار العذاب والقهر والظلم. حتى تأتي على الإنسان لحظة يرغب فيها أن يحيا خفيفا نظيفا متحررا من كل قيود الذاكرة.
الأشواك التي تعترض الإنسان العادي تنزفه دما وألما، وأما الإنسان الذي لديه القوة والعزيمة والرغبة في تحقيق ذاته وطموحاته، كا أشار الكاتب"أنا لم اكتب عن مأساتي الشخصية لأستدر عطف أي إنسان، وإنما للتأكيد على قدرة الإنسان على تحقيق طموحاته إن كانت لديه الرغبة في ذلك" ؛ فإن هذه الأشواك لم تُنزفه إلا نجاحات مستمرة، وهذا يتجلى في مسيرة الكاتب الإبداعية وإنتاجاته الأدبية. ويشير الكاتب إلى نقطة مهمة وعلى الأجيال أن تدركها، وهي أنه غير غاضب على جيل الآباء، بل بالعكس هو فخور بهم؛ لأنهم قدموا له ما استطاعوا، ولم يبخلوا عليه بشيء يملكونه فهذا هو حظهم من الحياة.
تطرق الكاتب إلى الحديث عن أسباب المعاناة التي مرّ بها وأبناء جيله منذ طفولتهم، ألا وهي الفقروالجهل والتخلف والظلم والقهر والمحتل. والتي كانت امتدادا لما عاناه الآباء الذين عاصروا العهد العثماني، ثم الاحتلال البريطاني ووعد بلفور، وما تمخض عنه من احتلال صهيوني، وبالتالي فقد كانوا ضحية، لم يعيشوا مراحل حياتهم كما ينبغي، فما كان منهم إلا أن ورِثوا وورَّثوا، لأن"فاقد الشيء لا يعطيه".
وأهم ما يميز هذا الكتاب أنه لم يصوّر مأساة الكاتب الشخصية فقط بقدر ما صور واقعا اجتماعيّا اقتصاديّا، وعلميّا عاشه الملايين من أبناء شعبه وأمته، فهو نقل أحداثا ووقائع جمعية تنقل حال فترة زمنية شارك بها، إلا أنها لم تقتصر على ذاته فقط، بل كانت ذاته متواجدة في زوايا متفرقة، ولذلك عند تصنيف هذا الكتاب نجده يتأرجح بين السيرة الذاتية والمذكرات.
من الأحداث المؤلمة التي حدثت نتيجة الجهل: العم خضر الذي مات عطشا قبل أن يبلغ الثانية، حيث أنه أصيب بدمل في حنجرته ممّا أدى إلى كويه والتوصية بعدم سقايته الماء حتى توفي وهو يقول "إمبو"، والعمّة خضرة التي توفيت غرقا في بئر براري عرب السواحرة حيث عصفت بها الريح بينما كانت ذاهبة لجلب الماء من البئر بعمر سبع سنوات، وعين الكاتب التي أصيبت نتيجة حادثة بسيطة من حجر رماه طفل؛ إلا أنها بسبب الجهل جعلته يمرّ في مراحل عذاب مقيتة أدت إلى فقدان بصره فيها.
تناول الكاتب في كتابه عناوين مختلفة لا تتمركز حول شخصية الكاتب أو تأثيرها عليه، بل كانت نقلا للأحداث. مثل "التهريب بين الأردن وفلسطين" زمن الانتداب، وكيف أن الضرائب المرتفعة التي فرضها المحتل البريطاني على فلسطين عملت على تشريد شعبها، وفي الوقت نفسه سهلوا الهجرات اليهودية اليها لتنفيذ وعد بلفور، ولم يفرضوا ضرائب على الاردن، مما شجع عمليات تهريب البضائع من الأردن الى فلسطين، ودفع أبناء السواحرة للعمل في التهريب لصالح تجار القدس في أراضيهم التي لم يسيطر عليها الانجليز. وأيضا "بدايات التعليم" حيث يشير الكاتب إلى عبد القادر الحسيني(البيك) الذي شاركوه الثورة، وكيف كان يحضهم على تعليم أبنائهم، وتطرق الى معاناتهم في التعليم التي تدرجت من كلية النهضة في حي البقعة في القدس وكلية صهيون قرب باب الخليل في أواخر عشرينات القرن العشرين، ممّا اضطرهم بعد ذلك لبناء البيوت الحجرية في جبل المكبر؛ ليكون أولادهم قربهم، وكيف أدّى ذلك إلى انتشار ظاهرة الزواج من اثنتين واحدة تمكث في بيت في منطقة المدارس، والثانية مرافقة له في البراري.
وأمّا "المرأة" فقد أشار الكاتب إلى معاناتها في ذلك الوقت، حيث لم يقتصر دورها على الانجاب، بل تعدّاه إلى القيام بكل الأعمال الشاقة من إنجاب وإرضاع وتنظيف البيت، والاعتناء بالمواشي وحلبها وصناعة اللبن والجبن، وكذلك الحياكة ونسيج الصوف وغيره من الأمور، بينما اقتصر عمل الزوج على بيع المنتجات التي تصنعها المرأة، وذكر الكاتب أيضا كيف كانت تتعرض للضرب والرفض من قبل المجتمع منذ صغرها، وأورد الكثير من الأمثال التي أشارت إلى ذلك"البنات مثل خبيزة المزابل" "دلل ابنك بغنيك ودلل بنتك بتخزيك" "ابنك الك وبنتك لغيرك"، وكما وضح كيف أن تعليم البنات تأخر كثيرا عن تعليم الذكور الذي بدأ في أواخر عشرينات القرن العشرين، في حين افتتحت اول مدرسة ابتدائية للبنات عام 1954 ولم تتعدّ التعليم الابتدائي بسبب ظاهرة الزواج المبكر، وعدم وجود مدارس اعدادية إلا في قرية سلوان المجاورة، وثانوية في القدس، وأما"ولادته" وأهم ما يؤلم فيها أنه ليس فقط ولد في كهف بينما كانت أمّه(حردانة)، بل تاريخ ميلاد هذا الابن السابع كان تقديريا من قبل طبيب الصحة الذي اختار يوما أصبح في عام 1967 ذكرى هزيمة ماحقة. وأما اسم(جميل) فقد اختاره والده الذي حمله أحد أبناء عمّومته، مما أثار غضب والدته، وتوعدت بخنق جميل الصغير(الكاتب)، وبشكل عام أشار الكاتب إلى الطريقة الخاطئة المؤذية التي كانت تلد فيها المرأة دون أن يسمح لها بالتوجه إلى المستشفى.
في الحقيقة هناك الكثير من العناوين التي تناولها الكاتب وتحتاج إلى قراءة أعمق لما تحمله من عمق الألم وحتى تكون عبرة ودرسا للأجيال، لا يسعني إلا الإشارة إليها والتي منها: صيام رمضان" "رعاية الأطفال" "النظافة"، "انتعال الأحذية" "الملابس" "الختان" "المدرسة" "مظاهرة ضد حلف بغداد" "مواليد العائلة الجدد" "الجوع كافر" "صيد الحيوانات لأكل لحومها"، "المدرسة". لا يسعني التعريج على كل العناوين ولكن بالنسبة لما سرده الكاتب عن انعدام النظافة فهو شيء فوق التصور، ولكن السؤال: هل التطور والتقدم الذي جلا أبدان الناس وأماكن عيشهم وطعامهم ولباسهم...الخ، استطاع أن ينظف نفوسهم؟
هناك الكثير من الإشارات إلى مستقبل الكاتب الإبداعي التي سببت له العذاب والمعاناة في بداية طريقه، وهي عمق بصيرته التي جعلتهم ينعتونه بالكافر، وأمّا عندما طلب منه المعلم كتابة موضوع في الصف الرابع ولم يصدق المعلم أنه من كتبه اتهمه (غشاش كذاب).
لقد نجح الكاتب في "أشواك البراري" الصادر عن مكتبة كلّ شيء حيفا من مشاركة الأجيال الصغيرة القارئة تجاربه بحلوها ومرها وبأسلوب سلس بسيط، وتزويدهم بالدروس والعبر والحكم التي ستعينهم في مسيرتهم الحياتية ليتجنبوا الوقوع في الخطأ وتفاديه.
وأعتقد أن هذا الكتاب من الأهمية توفّره في المكتبات المدرسية والعامة، وأن تعنى وزارتا التربية والتعليم بقراءة هذا الكتاب ومنافشة المعلمين له مع طلابهم.
وسوم: العدد 781