التراث الإسلامي في المشرحة
وتستمر الحرب هذه الأيام ضد ما هو مسلم أو إسلامي، ولعل أكثر ما يؤلم في هذه الحرب أن ينخرط فيها بعض أبناء الأمة، رغبة منهم في الظهور الإعلامي مرة، والشهرة مرة أخرى، أو طمعاً في كسب مادي مرة ثالثة، أو عن غباء وجهل في كل مرة ! وقد لاحظنا خلال الأيام القليلة الماضية اشتداد هذه الحرب بالهجوم على "التراث الإسلامي" فذهب أكثر من واحد من أعداء التراث إلى تشبيه التراث بالأصنام والأوثان، زاعمين أن المسلمين باتوا يعبدون التراث بدل عبادة الله، بل إن أحدهم قبل أيام راح يشكك بالتراث جملة وتفصيلاً، فنشر في صفحته على الفيسبوك يقول: "في التراث أكبر الأكاذيب التي صاغها العشارون لإلهاء البسطاء عن ما يكيده السادة"!
· فكان جوابي :
في هذا القول جهل فاضح، لأن التراث الإسلامي يضم - في رأي أكثر الباحثين - كتاب الله وسنة نبيه، ومن ثم فإن اتهام التراث بالكذب في هذه الصورة السافرة يعني اتهام كتاب الله وسنة نبيه بالكذب، تحت ستار نقد التراث، وفي قول هذا الناقد أيضاً جهل مركب لاتهامه التراث جملة دون تمييز بين الصحيح منه والخاطئ.
وحرصاً منا على عدم الخوض في مجادلة مثل هؤلاء الناقمين على التراث نختصر الحوار بمناقشة التراث نفسه فنجد أن مسألة التراث الإسلامي تتنازعها اليوم ثلاثة مواقف متباينة، هي :
1 – موقف يدعو إلى تجديد الدين من خلال إقصاء التراث بزعم أن هذا التراث يقف حجر عثرة أمام محاولات التجديد، وأن التراث لم تعد للأمة حاجة فيه، بل بات يعوق الأمة عن التقدم والتطور والانتقال إلى دورة حضارية جديدة، إلا أن هؤلاء القائلين بإقصاء التراث، يبالغون في العداء والتشكيك بالتراث كما رأينا في مقولة الناقد المذكور آنفاً؛ مما يدفع جمهور المسلمين لاتخاذ مواقف متشددة تجاه محاولات هؤلاء المشككين بالتراث، ومواقف معارضة بشدة لمحاولات تجديد الدين عامة !
2 - موقف المحافظين الداعين إلى المحافظة على التراث، بحجة أنه الضمانة لحفظ الدين، وحمايته من الدخلاء الذين وردت الإشارة إليهم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (يحمل هذا العلم من كل خَلَف عُدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) إلا أن هؤلاء الداعين إلى المحافظة على التراث تغلب عليهم النزعة الخطابية؛ لانطلاقهم عادة من ردة فعل على الفريق السابق المنادي بإقصاء التراث والتخلي عنه بحجة التجديد ! لكن يُحسب لهؤلاء الداعين إلى المحافظة على التراث تقديمهم الأولوية للوحي على العقل، إلا أن نظرتهم إلى الوحي تظل أسيرة إلى تراث السلف مما يحول بينهم وبين التجديد المنشود للدين، ونلمس في طروحات هؤلاء المحافظين توجس غير مبرر من وضع التراث موضع السؤال، ناسين أو متناسين أن السؤال هو نقطة الانطلاق الفعلية نحو أي تغيير أو تجديد !
3 - موقف يدعو إلى التوفيق بين التراث والتجديد، إلا أن أصحاب هذا الموقف التلفيقي نادراً ما يحققون إضافات ذات بال؛ لأنهم غالباً ما ينتهون في النهاية إلى أحد الموقفين السابقين!
· وجوابنا .. هو ضرورة الانتباه أن في التراث مكونين مختلفين :
- الأول : إلهى مقدس، هو وحي من الله عز وجل؛ فهو معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
- الثانى : بشري لا قداسة فيه ولا عصمة له، يتمثل في إبداعات السلف العلمية والحضارية، وهذه الإبداعات يجوز عليها – بحكم بشريتها – الصواب والخطأ .
وبناء على نظرتنا هذه إلى التراث الإسلامي وما يخالطه من عامل بشري قابل للخطأ والصواب فإننا نؤمن بضرورة تجديد التراث؛ بل واعتبار تجديده "فريضة دينية" من فروض الكفايات التي تأثم الأمة إذا لم تقم بها .
هذا مع تأكيدنا أن أية محاولة للتجديد يجب أن تنطلق من "الوحي" الذي هو الركيزة التي قام عليها التراث أول مرة، دون أن إغفال معطيات عصرنا واحتياجات أمتنا التي تختلف قليلاً أو كثيراً عن عصور ومعطيات واحتياجات السلف الذين أسسوا التراث أول مرة .
· ومن هنا نقترح ..
- إعادة بناء "الفقه الإسلامي" بناء يهتم بـ "المعاملات" اهتمامه بـ "العبادات.
- وإعادة بناء "أصول الدين" بناء يهتم بقضايا "الإنسان" اهتمامه بقضايا "العقيدة" .
- وإعادة بناء "السيرة النبوية" بناء يركز على "الأحداث" بدل تركيزه على "الأشخاص" .
- وإعادة بناء "علم الحديث" بناء يركز على "المتن" تركيزه على "السند" .
بهذه الصورة .. يمكن إنهاء الجدل العقيم حول التراث، ويمكن إعادة بناء التراث بناء يجعله أكثر تفاعلاً مع العصر، وأكثر تلبية لاحتياجات الأمة، وبهذا البناء المتجدد تتحقق عملياً الإرادة الإلهية التي أشار لها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : (يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/599)
وسوم: العدد 784