قراءة في كتاب " درب الآلام نحو الحرية " للكاتب عزمي بشارة
أصدر الدكتور عزمي بشارة في العام ٢٠١٣ كتابه عن الثورة السورية مؤرخاً وموثقاً لأحداث الثورة مابين العامين ( ٢٠١١ – ٢٠١٣ ) ، باعتبار أن هاتين السنتين شهدتا وبوضوح ظهور الأسباب العميقة لانفجار حركة الاحتجاجات في سوريا والتي مازالت مستمرة حتى تاريخ هذا المقال بتضحيات أبنائها ودمائهم تكشف حقيقة العصابة الأسدية وعمالتها ، هذه العمالة التي عبر عنها الكاتب بوصفه لهذه العصابة بأنها " مستعمر داخلي " ، في إشارة واضحة وصريحة منه لعلاقتها بالاستعمار الخارجي الذي بات واضحًا اليوم انه هو من انشأها ويحميها ويؤمن دوماً أسباب بقائها واستمرارها .
تألف هذا الكتاب من ٦٤٣ صفحة مقسمة على ثلاثة عشر فصلاً اختار الكاتب أن تكون عنواين هذه الفصول كما محتواها أدلةً دامغةً على إجرام هذه العصابة وموقفه منها ، فسمى الفصل الأول " الحصاد المر " في إشارة للفساد والسياسة القمعية التي كانت السمة المميزة لحكم آل الاسد واوصلت سوريا العظيمة إلى ماهي عليه اليوم ، وكان الفصل الثاني " من الشرارة يندلع اللهيب" في إشارة إلى أحداث دمشق في سوق الحميدية عام ٢٠١١ وماتلاها من جرائم بحق أطفال درعا كانت الشرارة التي أشعلت جذوة نار الثورة ، ثم ينتقل للفصل الثالث " الساحات الكبرى " ليؤكد أن جميع المدن السورية وقراها كانت ساحات ثائرة في وجه هذه العصابة "سلمياً " رغم القبضة الأمنية عليها ، ثم الفصل الرابع " المدن المليونية " الذي رصد فيه الكاتب الأعداد العظيمة من الشعب السوري التي شاركت في الثورة ، ثم الفصل الخامس " الثورة المسلحة خيار النظام " ليكون عنوان هذا الفصل هو الحقيقة التي طالما أنكرتها العصابة ، ثم الفصل السادس " استراتيجية النظام والشبيحة " فكشف ممارساتهم القبيحة كطبعهم والفصل السابع " ترييف الحزب وتطييف الجيش " ليشرح سياسة هذه العصابة وأسلوبها في السيطرة و التخفي وراء "حزب البعث" عن طريق استبعاد للطبقة الفكرية فيه ، في الوقت الذي جعل الطائفية سبيله للسيطرة على الجيش الذي أراده سوطاً على الشعب ، لينتقل بعدها إلى الفصل الثامن الذي كان عنوانه " كشف غطاء الاستبداد" في إشارة للكذبة التي لطالما اختبأت خلفها العصابة بادعائها أنها تمثل "محور المقاومة" بينما تمارس "الاستبداد "، ثم لينتقل إلى الفصل التاسع " بين العنف الثوري وذيول المرحلة السابقة " فيشرح ظهور الحركات الجهادية وأسبابها ودوافعها ، ثم في الفصل العاشر " المعارضة السياسية والثورة " فيفصل بين مفهومي المعارضة والثورة وليوثق ايضاً حراك المعارضة قبل وخلال الثورة ويشرح أخطائها، لينتقل بعدها إلى الفصل الحادي عشر " فاعلون جدد" فيؤكد أن الساحة السياسية السورية قد دخلها شباب الثورة الذين هم الفاعلون ، ثم ينتقل للفصل الثاني عشر والثالث عشر فيتحدث عن " مبادرات الحل السياسي والمواقف الدولية " و" العقوبات الاقتصادية " فيشرح أثر هذه العقوبات على هذه العصابة ومدى جديتها وفاعليتها .
أكد الكاتب في كتابه على ثلاث حقائق رئيسية كانت القاسم المشترك لكل ما ورد في فصول هذا الكتاب تتلخص في الآتي :
- أن عصابة الاسد هي المجرم الوحيد الذي تقع عليه مسئولية ما آلت اليه الأوضاع في سوريا اليوم ، وأنه لن يكون هناك حل سياسي مستقبلي يضمن كرامة الشعب السوري وحقوقه قبل القضاء على هذا المجرم ومحاكمته وعصابته على ما ارتكب بحق الشعب السوري .
- أن الشعب السوري في طريقه لاسترداد كرامته يتعرض وحيداً لاقسى أنواع القمع وأكثرها همجية والتي وصفها الكاتب بأنها ( فاقت خيال الشر نفسه ) .
- أن الثورة السورية كانت ومازالت هي "العامل الوحيد" على إعادة تشكيل الهوية الوطنية منذ الاستقلال وحتى اليوم في الوقت الذي منعت عصابة الاسد بكل السبل تكوين هذه الهوية طوال فترة حكمها ليكون الولاء له فقط وليس للوطن .
إن كتاب درب الآلام نحو الحرية بما احتواه من توثيقٍ للاحداث وتحديدٍ لمسببها إنما هو صفعةٌ مبكرة من عمر الثورة في وجه عصابة الإجرام الأسدية ، وهو أيضاً انقلاب صريح أحدثته هذه الثورة في فكر تيارعريض من" المثقفين" العرب والسوريين ، لطالما كان آل الوحش في انظارهم وكتاباتهم قادة للمقاومة في وجه الصهيونية .
تدور هذه الأيام في أوساط الثورة ضجة حول هذا الكتاب بعد مرور ما يقارب الخمس سنوات على إصداره ؟! إذ يدعي أصحاب هذه الضجة أنّ الكتاب يحتوي على مانعتوه بـ " مغالطات " وأن هذه المغالطات التي وقعت كما يقولون في بعض صفحات ، هي بحسب رأيهم من عدم الدقة والسوء مايجعل لزاماً عليهم فضحها والرد عليها ؟! وعلى فرض صحة ما يدّعي أصحاب هذا الرأي ، فإنه قد غاب عنهم في سعيهم المحموم لدحر هذه " المغالطات " حقائق كثيرة لو أدركوها لصمتوا أمامها إذ أن القاعدة تقول : إنّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وسأذكر هنا بعض هذه الحقائق :
- يتحدث الكتاب عن عامين من بداية الثورة فقط ، كانت القبضة الامنية والعسكرية فيها مازالت في أوج قوتها تفصل الثورة الى دوائر تحاصرها في المدن والأرياف ، وبالتالي فما أراه انا في دائرة ما قد لايراه غيري والعكس صحيح ، وهذا ماقد يفسر اختلاف وجهات النظر بينهم وبين ما أورد الكتاب .
- تعرض الكتاب إلى سياسات العصابة الممنهجة وأدواته في خلخلة واختراق المجتمع السوري ما قبل الثورة ، وقد أخذت هذه السياسات وقتها من البحث والتحليل على مرّ السنين بين الباحثين في المجتمع السوري فأوضحوا غاياتها وأثرها، وقد أضحت هذه السياسات من " المسلمات " لا جدوى من إنكارها ، سواء مسّت فئة ما من المجتمع فوافقت هواه وقتها ام لم توافق ، فإذا بنى عليها الكاتب رأياً أو استخلص منها نتيجة أو أشار إلى أثرها في الثورة فأنه ليس مما يعيب الكاتب ولا الثورة لأنّها اصلاً انقلاب على هذا الواقع .
- تحدث الكتاب عن كامل الجغرافيا السورية في الثورة ولم يخصص منطقة بعينها ، وبالتالي فإنه ليس من المعقول أن يتعمد الإساءة إلى منطقة ما دون غيرها ، اذ لامصلحة له في هذا خصوصا انه ليس سورياً يدرك أن الثورة لا اعتبار لديها للمناطقية او العشائرية والمعيار الوحيد فيها هو مدى اقتراب الشخص من الحق وانحيازه إليه وهو ما أكد عليه أكثر من مرة في الكتاب نفسه .
- أن النقد في تعريفه هو "وسيلة لادراك الغاية التي تتلمس الحقيقة وتسعى للوصول إليها "، وأنه ما لايدرك كله لايترك جله ، وأن من أهم أدوات النقد هو مبدأ "تحرير محل النزاع" مع المخالف ، فبه نضمن عدم تشعب الخلاف في ما لا خلاف فيه ، لنختصرالجدل ، وتتجاوز الخلاف في اللفظ الذي قد نعتبه ربما على الكاتب في بعض الأحيان إلى صلب الموضوع .
- أنه مما لا يخفى على ناقدٍ ذي علم ، أنه قد يكون متفقاً في النتائج مع من ينقده وفي الوقت ذاته يكون متغايراً معه في منهج العرض ، كما أنه قد يتفق مع من ينتقد في مبدأ الاستدلال على الحقائق غير أن طريقة التعبير لكل منهم قد توهم بنوع من الخلاف يسببه تحكم كل طرف بمقالة الآخر بمفاهيمه هو ، والفطن من أخذ بالنتائج التي توافق مصلحته واهمل مادونها .
- أن من يحاول تضخيم بعض "مغالطات " في كتاب قارب الـ ٧٠٠ صفحة يمتدحه هو ؟! قد أغفل أنّ مجرد إصدار هذا الكتاب بما احتواه عن عزمي بشارة هو في حد ذاته
" نصرٌ للثورة " يجب أن نبرزه لا أن نشكك فيه ، فعزمي بشارة ومايمثله من تيار عروبي قومي ديمقراطي مقاوم كان إلى وقت قريب يعتبر آل الاسد رأس الحربة في محور المقاومة ، وهو ما عبر عنه الكاتب بنفسه في خطابه العرمرم في حفل تأبين المقبور حافظ الأسد اذ نعى فقيد المقاومة في الأمة !! ، والكاتب نفسه اليوم من يسمي قائد المقاومة هذا في كتابه " المستعمر الداخلي " .
- أن الكتاب من عنوانه وحتى آخر كلمة في خاتمته اتهام مباشر وإدانة موصوفة لجرائم العصابة الأسدية وبالتالي فإنه من المنطقي أن تنشغل العصابة نفسها "محل الاتهام " بالبحث عن مغالطات ( لن تجدها) وليس نحن الذين أنصفنا.
- أنه من الحكمة اليوم وفي ظروف معركتنا مع هذه العصابة ألاّ يغرينا إثارة مانسبته أقل من ٠،٥% من "مغالطات " لها أسبابها الموضوعية عن مايقابلها من حقيقة تتجاوز نسبتها في الكتاب ٩٩،٥% ، والكمال لا يكون لغير الله .
- ختامًا : فإنني وإن كنت انطلق في افكاري وآرائي من قاعدة فكرية تَختلف مع القاعدة التي ينطلق منها الدكتور بشارة في فكره وارائه ، إلا أنّ هذا لن يمنعني أمام هذا الإنجاز المهم الذي سطره ، أن اعترف بأنّ كتابه عمل ممتاز لابدّ من الاطلاع عليه والعودة إلى ما فيه من توثيق وتأريخ أنجز في وقت مبكر من عمر الثورة ، وأنه لمن الواضح أنّ الكاتب وفي وقت انشغال الشعب السوري بتفاصيل مأساته أراد أن يكون هذا الكتاب محاولة جريئة ، مبكرة ، لشرح وفهم وتقريب وجهات النظر حول العاصفة التي شهدتها الساحة السورية المعقدة ولاتزال ، وأنني وقد قرأت الكتاب كاملاً وبتأنٍ شديد ، أرى أن صدور هذا الكتاب عن الدكتور عزمي بشارة بما مَثله من فكرٍ وسياسات سابقاً هو " صلاة استغفار" اسأل الله له أن تتبعها " توبة " كاملة عن فكرٍ يرى أن : في زمن الحرب فسحةٌ لديمقراطية !
وسوم: العدد 786