ولادة الرواية البوليسية في الأدب الفلسطيني
مقدمة
إن كتابة الرواية البوليسية في الأدب العربي عامة وفي الأدب الفلسطيني خاصة مغامرة يُستحق القيام بها، فالأدب العربي يكاد يخلو من الروايات البوليسية، ولذلك أية محاولة لإدخال مثل هذا النوع من الأدب وتعميمه ضمن الثقافة العربية جديرة بالترحيب. يتطرق الروائي المغربي شعيب حليفي إلى وضع الرواية البوليسية في الوطن العربي في مقالة له نُشرت في مجلة فصول الصادرة في كانون الثاني 2010 ويقول: "أن إنتاج الرواية البوليسية في الوطن العربي متعثر وشبه منعدم، الأمر الذي لم يسمح بتبلور رواية بوليسية عربية بالمواصفات المعروفة". وفي هذا السياق تشكل رواية قضية في المدينة المقدسة للمؤلف اسحاق الطويل الصادرة عام 2018 عن دار الرعاة للدراسات والنشر وجسور للنشر والتوزيع خطوة أولى متواضعة نحو وضع اللبنات الأساسية للرواية البوليسية في الأدب العربي الفلسطيني. وفي حين نجد أن السواد الأعظم من المؤلفين الفلسطينيين الروائيين منهم والشعراء منهمكون في معالجة قضايا وطنية وسياسية واجتماعية في كتاباتهم، نجد أن المؤلف اسحاق الطويل يتخذ منحًى روائيا جديدا ويقدّم للقارئ رواية بوليسية جديدة قوامها الإثارة والتشويق، إذ يبقى القارئ في حالة شغف واشتياق لاستكمال أحداث الرواية بأكملها عند قراءتها.
الرواية البوليسية
الرواية البوليسية هي قصة غامضة تنطوي على ارتكاب للجريمة واكتشاف الجاني، وفيها تكون عادة الشخصية الرئيسية هي محقق خاص يقوم بحل ألغاز الجريمة عن طريق الملاحظة والتفكير المنطقي وبناء الاستنتاجات. وعادة تتكوّن الرواية البوليسية من خمسة عناصر رئيسية يمكن إيجازها فيما يلي: (1) الجريمة التي تبدو في البداية صعبة الاكتشاف؛ (2) المشتبه به الذي تشير الأدلة الظرفية إلى ارتكابه الجريمة؛ (3) عمل الشرطة وتخبطها في التعامل مع الحدث؛ (4) تدخل المحقق الخاص الذي يتمتع بقوة ملاحظة وذكاء حاد؛ (5) وأخيرًا النهاية غير المتوقعة التي يكشف فيها المحقق هوية الجاني. وهنا يمكن الإشادة بالمؤلف إسحاق الطويل؛ لأنه في كافة القصص الأربعة التي يقدمها لنا في روايته نجد أنه يلتزم بهذه العناصر الخمسة مما يضفي على القصص وحدة الحبكة، أي أن هناك في كل قصة مجموعة من الأحداث ترتبط فيما بينها بعلاقة سببية ولها بداية ووسط ونهاية. ولا يوجد فيها أي حدث أو أي شخصية أو حبكة فرعية لا تدفع الحدث الرئيسي نحو نهايته. فلنأخذ على سبيل المثال قصة "جريمة الغرفة المغلقة" ونحاول معا التعرّف على العناصر الخمسة المذكورة.
الجريمة التي تحدث في هذه القصة هي جريمة قتل. يُخبرنا الراوي إيهاب أنه عندما دخل هو وآدم ومدير الجامعة ريجسكي الغرفة التي صدر منها صرخة مدوية وجدوا "جثة مدرس التربية الرياضية المدرب ديمتري ذي (29) عاما مصابا بطلق ناري في الرأس، وجثة شابة تدعى لودميلا ذات (25) عاما وكان يخرج من فمها زبد أبيض يدل على التسمم" (ص 26). أمّا المشتبه بهم في ارتكاب الجريمة فهم المدير ريجسكي، ومدرسّة الميكانيكا ليليا، ومُدرسّة اللغة الروسية سارة، ومعلم التاريخ ألكسندر وعامل النظافة سنيجكي. هؤلاء جميعهم كانوا في المبنى الغربي للجامعة حيث أرتكبت الجريمة بين الساعة الخامسة والسادسة. فالأدلة الظرفية تشير إلى أن واحدا منهم أو أكثر قد ارتكب الجريمة، وهذا ما دعا آدم لاستدعائهم؛ لأنه أراد أن يسمع منهم لماذا توجهوا إلى القسم الغربي بذلك التوقيت؟ يحاول فريق التحقيق من الشرطة برئاسة غربشتوف حلّ القضية، لكنه يتخبط ويفشل؛ لأنه لا يحاول الكشف عن تفاصيل القضية، إنما يبني استنتاجاته على ما يُدلي به آدم وعلى الإفادات التي يجمعها ونتائج التحقيق الأولي. فهو يقفز إلى النتائج ويقول بتسرع: "تبدو أنها أسهل الجرائم التي واجهتها وهي منتهية على ما أظن. حيث أن كلاهما قد قتل الآخر" (ص 26). إلا أن آدم يبيّن أن المحقق غربتشوف على خطأ، وبذكائه وفطنته يتلو على غربتشوف مجريات الحدث، ويكتشف عدة أمور غامضة تؤدي به إلى اكتشاف الجاني، كما نرى أن آدم يعاين مسرح الجريمة جيدا؛ كي يكتشف أثارا تمكنه من حل لغز حدوث الجريمة، فيرى ما لا يراه غربتشوف من آثار تقييد أحدثه سلك بلاستيكي على يد الفتاة لودميلا، كما يرى أن هنالك تناقضا بين موقع وجود الجثث في آخر الغرفة والنافذة المسكورة في مقدمة الغرفة، إذ "لم يكن هناك وقت كثير بين صوت تكسر الزجاج وصوت الصرخة التي سمعناها ودخولنا إلى الغرفة" (ص 28). أخيرا يتمكن آدم من التعرف على هوية الجاني بعد سلسلة من الأسئلة يطرحها على المشتبه بهم، والتي يتلاعب بها بهم بطريقة درامية شيقة تؤدي بسارة إلى الاعتراف بأنها هي من قتلت المدرب ديمتري والشابة لودميلا.
إسحاق الطويل وآرثر كونان دويل
بالطبع لا مجال هنا للمقارنة بين كاتب مبتدئ يحاول شق طريقه في عالم الرواية البوليسية مثل الأستاذ إسحاق الطويل، وبين كاتب يعتبر ديناصورا عالميا في مجال كتابة الرواية البوليسية مثل الكاتب الأسكتلندي آرثر كونان دويل. لكن لا بد هنا من إثارة بعض النقاط التي تشير إلى تأثر المؤلف إسحاق الطويل بالكاتب آرثر كونان دويل.
وكما يقول الأستاذ جميل السلحوت في مقالته بعنوان "قضية إسحاق الطويل وأدب المغامرات" الصادرة في موقع وكالة معا الإكتروني بتاريخ 30 أيلول 2018: "واضح أن كاتبنا الشاب معجب بأدب المغامرات اوالأدب البوليسي، كما يتضح من خلال هذا العمل أن الكاتب يمتلك خيالا خصبا لا حدود له". من يقرأ رواية قضية المدينة المقدسة يشعر وكأنه يقرأ رواية للكاتب الاسكتلندي آرثر كونان دويل، ويبدو جليا أن إسحاق الطويل في روايته يحاول جاهدا إن لم يكن تقليد أو نسخ فعلى الأقل انتهاج الأسلوب الروائي ذاته، الذي يستخدمه الكاتب آرثر كونان دويل في رواياته والذي يتميز باستخدام الجمل القصيرة عامة، وتقديم أكبر قدر من التفاصيل والمبالغة أحيانا في الأحداث بغية خلق الإثارة، كما أن الأحداث جميعها تتبع تسلسلا زمنيا دقيقا. وهذا ما يحاول المؤلف إسحاق الطويل الاستفادة منه في روايته. فلننظر على سبيل المثال لهذه الفقرة التي تحتوي على مجموعة من الجمل القصيرة المتتالية والتي أيضا تثير فضول القارئ لمعرفة من هو الشريك المتواطئ، وما هي الخدعة التي لدى المحقق آدم، وأيضا معرفة ماذا يريد آدم من الفتاة أليس؟ وما هي الأمور التي يحتاجها قبل اللقاء بها . يقول آدم: "أعلم يا سيدي، ولكنها الحقيقة. شكرا لك يا يعقوب، فقد كان لدي شك في ذلك، ولكن ليس أمامنا الآن سوى الوثوق باستنتاجاتنا حتي نطيح بمكسيم.، ولكن قبل ذلك يجب ان نطيح بالشريك المتواطئ، وتوجد لدي خدعة لفعل ذلك. ولكنني بحاجة إلى تعاونكم، وأيضا نحتاج الفتاة أليس في ذلك، فهي تمتلك خبرة في الأجهزة الإلكترونية. أرجو أن تنسق لنا لقاء معها في اليومين القادمين، وأحتاج بعض الأمور قبل لقائنا" (ص 71). يوجد في هذه الفقرة القصيرة وحدها إثنتي عشرة جملة، وكل جملة فيها تدفع بالحبكة الرئيسية إلى الأمام، وفيها دعوة للقارئ كي يستمر في القراءة ليشارك آدم في حل اللغز الذي أمامه.
ويظهر تأثر المؤلف إسحاق الطويل بالكاتب الأسكتلندي في أمرين آخرين أولهما خلق شخصية آدم، والتي هي مرآة لشخصية شرلوك هولمز المحقق التي ابتكرها آرثر كونان دويل في رواياته. اشتهر شرلوك هولمز بمهارته في التفكير والتنكر والتمويه واستخدام معلوماته في مجال الطب الشرعي لحل قضايا جنائية بالغة التعقيد. يصف إيهاب آدم بأنه ذي قدر كبير "من الذكاء ودقة الملاحظة ... وهو يعلم الكثير عن علم النفس والجريمة والتاريخ والسياسة والاقتصاد، وباقي العلوم، وهذه المعرفة مع دقة ملاحظته الكبيرة التي كانت السبب الرئيسي لشهرة آدم المحلية والعالمية بعد حل لغز أول جريمة قتل حدثت في الجامعة" (ص 23-24). وبالفعل يُطلق المحقق غربتشوف ولو ساخرا اسم هولمز على آدم، ويُعرف آدم لاحقا بـ "هولمز القرن الحادي والعشرين". ومن الجدير ذكره في هذا الصدد أن أشهر المحققين في عالم الرواية البوليسية كان لهم شركاؤهم المتميزون، وهم أيضا يقومون بدور سرد الرواية، ومن أمثلة ذلك الكابتن آرثر هيستنغز أعز أصدقاء المحقق بوارو في روايات أغاثا كريستي.
أمّا الأمر الثاني الذي يُظهر بوضوح تأثر الكاتب إسحاق الطويل بالمؤلف آرثر كونان دويل هو ابتكار شخصية إيهاب المرادفة لشخصية الدكتور واتسون الصديق الوفي والمخلص والشريك لشرلوك هولمز، والذي يُظهر إعجابا كبيرا بالمهارات العقلية التي يمتلكها هولمز. وكذلك الأمر بالنسبة لإيهاب، فهو يصبح صديقا مخلصا لآدم ويصاحبه في جميع مغامراته ولا ينفك في التعبير عن إعجابه بذكاء آدم. إضافة إلى ذلك، واتسون هو الراوي الرئيسي في روايات آرثر كونان دويل، كما يجعل المؤلف إسحاق الطويل إيهاب هو الراوي الأساسي في روايته قضية في المدينة المقدسة. وأخيرا حتى أن الطريقة التي يتعرف بها إيهاب على آدم تشابه إلى حد كبير الطريقة التي يتعرف بها الدكتور واتسن على هولمز، والتي نقرأ عنها في رواية دراسة في اللون القرمزي، أي اللون الأحمر الذي يرمز للدماء والقتل. فكلاهما يبحثان عن زميل يشاركهما مكان سكناهم، إيهاب يجد آدم والدكتور واتسون يجد شرلوك هولمز.
الاستدلال الاستقرائي
يستخدم آدم نهج الاستدلال الاستقرائي لإيجاد الحلول للجرائم التي ينظر فيها ولتحديد هوية الجاني. فعادة وبعد الاطلاع على تفاصيل القضية يتوصل آدم إلى استنتاج معيّن، يحاول إثبات صحته عن طريق معاينة مسرح الجريمة وجمع الاستدلالات منه، أو عن طريق استجواب المشتبه بهم. نقرأ في الفصل الثالث عن آدم وهو يحلل الرسائل التي يُرسلها المجرم الأوكراني مكسيم "تاجر مخدرات وسلاح عالمي ... وهو مطلوب دوليا" (ص 48) ويتوصل إلى نتيجة مفادها إلى أن العملية القادمة للمجرم مكسيم سوف تتم في أوكرانيا، كما أنه بدهائه يستطيع أن يستنتج أن العملية السابقة تمّت في جورجيا. وهذا ما يوضحه الحديث التالي بين آدم والمحقق غربتشوف كما نجده في الفصل الثالث من الرواية:
"آدم: يا سيدي ... بالأمس وصلت إلى استنتاج ... أنت لم تقل لي أين تمّ تنفيذ العملية.
المحقق: نعم ذلك صحيح.
أدم: حسنا ... إذا كانت استنتاجاتي صحيحة فإن العملية كانت في جورجيا ...
المحقق: نعم هذا صحيح. كيف تمكنت من معرفة ذلك؟
آدم: بالنظر إلى الساعة الموجودة في المقدمة ... وبهذا نعلم متى تمّ تنفيذ العملية، وفي أية دولة" (ص 68).
وعندما يدعو آدم إيهاب وأرتيوم أن لا يقلقا "وكما أخبرتكما ... في الغد سأخبركما بكافة التفاصيل" (ص 95) أو عندما يقول لإيهاب في مناسبات عدة ان لا يطرح أسئلة كثيرة؛ لأنه لا يستطيع الإجابة عليها، فهذا دلالة على أنه يعرف الكثير إلا أنه يريد أن يتأكد مما يعرفه قبل إعطاء أية إجابات. والمحقق غربتشوف يمتدح آدم ويقول له: "في الحقيقة أعجبني أسلوبك في الربط بين الأدلة والتخمين الجيد لوقائع الأحداث" (ص 29). ويروي لنا إيهاب في نهاية الرواية واصفا الأسلوب الذي يعمل به آدم: "... إن أسلوبه لم يتغير، فلا يصرّح بكل شيء يعرفه إلا بعد التأكد والانتهاء من الأمر"ص 137.
قضية في المدينة المقدسة
تختلف القصة الأخيرة التي يحمل عنوانها الكتاب "قضية في مدينة القدس" عن غيرها من القصص الواردة في ذات الكتاب. هي قصة بوليسية لا شك في ذلك، غير أنها تحمل في طياتها دلالة تهّم القضية الفلسطينية ومدينة القدس وحمايتها والدفاع عنها. ويبدو أن الكاتب له رسالة معينة يريد أن ينقلها إلى القراء، وهي أن وحدة الفلسطينيين وتضافر جهودهم هي من ستؤدي في النهاية إلى حماية القدس والحفاظ عليها. وعلى الفلسطينيين أن يكونوا مثل "حزمة الأعواد مجتمعة" لا يمكن كسرها. كما يبدو أن الكاتب يحاول التحذير من الصفات التي يتمتع بها الكثير من السياسيين الفلسطينيين وصناع القرار وحتى الشعب نفسه وهي الغدر والكذب والخيانة؛ لأن هذه الصفات ستؤدي في نهاية المطاف إلى الهلاك.
خلاصة
قضية في المدينة المقدسة للروائي إسحاق الطويل كتاب بسيط وسهل. هو ليس أفضل ما يمكن كتابته؛ لكنه خطوة أولى في الاتجاه نحو زراعة بذور الرواية البوليسية في الأدب الفلسطيني. وعلى الرغم من بعض الهفوات اللغوية المتناثرة هنا وهناك داخل الكتاب إلا أن القصص التي يحويه مشوّقة وتستحق أن يقضي القارئ ساعة أو ساعتين من عمره في قراءتها. والملاحظة الأخيرة التي أود مشاركتها هي أن الكتاب ليس رواية كاملة متكاملة، بل يتألف من أربع قصص قصيرة مختلفة بطلها واحد، ولذلك هو أقرب إلى مجموعة قصصية من رواية. وإنني أتطلع بشغف إلى قراءة السلسلة الثانية من مغامرات "هولمز القرن الحادي والعشرين" كما يعدنا الكاتب على لسان إيهاب في نهاية الرواية.
وسوم: العدد 792