علوم اللغة والنحو في خدمة القرآن الكريم
1.حكمة النحو:
كل علم من العلوم له حكمة يبدأ منها، وقواعد يبنى عليها، وبعد ذلك ينتشر ويمتد في خدمة الإنسان وتسخير الحياة من أجله، وعلم النحو له حكمة واضحة في تسخير اللغة التي تحفظ جميع العلوم، وتنقلها عبر الأجيال والأماكن لتعيش البشرية مستفيدة من تواصل الخبرات البشرية الضرورية لإقامة الحضارات، ونقلها من جيل إلى جيل، ولولا اللغة لضاعت الحضارات والجهود البشرية في العلوم واضطر كل جيل أن يبدأ من الصفر.
ولو حاولنا أن ننظر في المنطلق الأول للحكمة النحوية في إِدراك الحياة من خلال الكلمة وتقسيمها إلى: اسم، وفعل، وحرف، لوجدنا أنه انطلاقة لتفسير الحياة من خلال الاسم والفعل والحرف وهو انعكاس لجهود علماء النحو وعقليتهم في التفسير.
فالاسم: لفظ يدل على مادة الكون وعالم الغيب، و(أسماء الأشياء) فيهما، أو على (المعاني) التي تدور في النفس البشرية، أثناء مرحلة الفكرة، وقبل انتقالها من داخل النفس إلى الواقع الخارجي المحيط بها. والاسم أسبق من الفعل في الوجود، واسم الجلالة (الله) سبحانه وتعالى هو الاسم الأول والآخر وهو الذي خلق الأسماء الأفعال بأمره كن فيكون. لقوله تعالى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]. وفي هذا إشارة إلى أن علم التوحيد الذي نتعلمه في عقيدتنا يبدأ من الإسم الأول وهو اسم الجلالة ( الله ) الذي صدرت مخلوقات الوجود بأمره .
والفعل: لفظ يدل على انتقال الإنسان بالدلالات من الأسماء (الأشياء والمعاني) إلى الواقع الخارجي أو الداخلي، بالحدث والتجربة والممارسة والتغير والتحول المحيط به في الحياة وعندها تخالط عنصري الزمان والمكان وبذلك تصبح فعلاً، فما حدث وانتهى وقت حدوثه سمي ماضياً، وما يحدث في الحال والمستقبل سمي مضارعاً، وما طُلب إِحداثه سمي أمراً، ومعنى ذلك أن الفعل هو عبارة عن الأعمال والتحولات والتبدلات التي تطرأ على الأسماء (الأشياء والمعاني) وتختلط بعنصر الزمن في الواقع العملي، ومن خلال مراجعة أصل الفعل وجميع المشتقات وهو المصدر أو (اسم المعنى) ما يشير إلى ما تقدمنا به، حيث أن المصدر يشير إلى المعنى في النفس، وقبل خروجه إلى الواقع واختلاطه بعنصر الزمن، فإذا اختلط بعنصر الزمن في الواقع فقد أصبح فعلاً.
الحرف: لفظ ليس له معنى إِذا كان منفرداً، ولا ينكشف معناه إلا إِذا استعمل في الجملة، وله فائدة عظيمة في ربط أجزاء الكلام مع بعضه، وهو أشبه بخيط الخياط، الذي يمنح الثياب القوة والجمال، وكذلك الحرف يعطي الجملة القوة والترابط.
2. علوم اللغة والنحو في خدمة القرآن الكريم:
الحقيقة التي يقررها التاريخ أن جمع الشعر والنثر ونشوء علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة وعروض وفقه لغة، كلها نشأت لهدفين أولهما: خدمة القرآن الكريم وتفسيره ومعرفة أسراره، وثانيهما: حاجة العرب إلى ضبط لغتهم بمقاييس علمية تسهل تعلمها على العربي والأعجمي، ونريد من هذا أن نؤكد على أهمية علم العربية في خدمة القرآن الكريم في هذه الفقرة ضمن الأفكار التالية:
1- إن الضعف في علم العربية، يجعل التفاعل مع آيات القرآن الكريم ضعيفاً، والاستفادة من معانيه ضئيلة، لقد كان العربي عندما خوطب بالقرآن الكريم، يعرف مدلول لغته، ولذلك كان تأثره بالقرآن واضحاً، وخضوعه لأوامره جلياً، ولذلك لا يطمع أحد في نهضة على أساس الإسلام وهو ضعيف في لغة القرآن الكريم.
2- يقول الإمام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم): (واعلم أن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب في فهم الكتاب والسنة، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد كتب عمر t إلى أبي موسى الأشعري، حيث قال له: «تعلموا العربية، فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض، فإنها من دينكم» وما أمر به عمر t من فقه العربية، ومن فقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه، لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية: هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة: هو الطريق إلى فقه أعماله).
3- أما أحاديث الرسول r وأقوال الصحابة في ذلك فهي كثيرة نختار منها: عن أبي هريرة t أن النبي r قال: «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه»، وقال ابن عباس: إذا سألتموني عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر ديوان العرب، وقال ابن عطية: إعراب القرآن أصل في الشريعة، لأنه بذلك تقوم معانيه التي هي الشريعة: ومنع رسول الله r التكلم بغير العربية، لغير ضرورة، فقال: «من يحسن منكم أن يتكلم بالعربية، فلا يتكلم بالعجمية، فإنه يورث النفاق».
4- قال العلامة البيروني المتوفى سنة (440 هـ) في مقدمة كتاب (الصيدنة): «ديننا والدولة عربيان وتوءمان... وكم احتشدت طوائف من التوابع في إلباس الدولة جلابيب العجمة، فلم ينفق لهم في المراد سوق، ما دام الأذان يقرع آذانهم خمساً، وتقام الصلاة بالقرآن العربي المبين خلف الأئمة صفاً صفاً.. وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار الدنيا، وإن كانت كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها، فأنا دخيل إلى العربية والفارسية، والهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية».
5- وقد لاحظت أن بعض الكتب الحديثة في النحو تتهرب من ذكر الشواهد القرآنية، والأحاديث النبوية، وإذا ذكرها المؤلف، ذكرها في مواضع قليلة، وكأنه مكره على ذكرها، وبغض النظر عن النوايا والأسباب التي تقف وراء ذلك التهرب، إلا أننا ننصح أصحاب هذه الكتب ونقول لهم: إن هذا التصرف منهم يقلل من المصداقية العلمية لها، لأن أصحابها خلطوا بين هوى أنفسهم والعلم فأفسدوا هذه المنجزات.
يقول الأستاذ محمد الحسناوي ـ رحمه الله ـ في كتابه (في الأدب والأدب الإسلامي): «بلغني أن الدكتور عبدالرحمن الباشا قد تلقى عرضا من إحدى دور النشر لتأليف كتاب في النحو العربي، على شرط أن يُجرد المؤلّف من شواهد القرآن الكريم، وبالطبع رفض العرض(9)».
وسوم: العدد 799