في الإنشاء الشفوي والكتابي
(1)
أشرت إلى أحد أمراض الإنشاء في موضوع (أشتات في تعليم اللغة العربية وتدريسها 1) المنشور في 15/1/2019م على الرابط: https://www.alukah.net/social/0/132086/، وبينت بطاقته أيضا.
وهنا أضع مقالات قصيرة كنت قد كتبتها منذ سنوات لأعالج بها أوجه قصور تختص بالإنشاء وتوظيفه بنوعيه، وأجد الأمر ما زال على حاله من ذاك القصور؛ مما يوجب جمعها في مكان واحد للفائدة.
(2)
أولا- الإنشاء الشفوي .. المحتوى مهاد النشاط التعليمي الموجه وغير الموجه
يعامل الإنشاء الشفهي معاملة الإنشاء التحريري، بل يكون الإنشاء الشفوي صدى للإنشاء التحريري؛ فهو مقدمة له وتهيئة في حصة سابقة؛ فحصته دائما قبل التحريري- على الرغم من اختلافهما وانتمائهما إلى مهارتين لغويتين منفصلتين.
كيف؟
ينتمي الإنشاء الشفوي إلى مهارة الكلام أو التحدث من مرسله ومنتجه، ويدعم فن الخطابة، ويتطلب مهارة الاستماع اللغوية من الآخرين المتلقين. وينتمي الإنشاء التحريري إلى مهارة الكتابة من منتجه ومرسله، ويدعم الأدب بأنواعه القصصية والمقالية، ويتطلب مهارة القراءة اللغوية من الآخرين المتلقين.
وهذا يجعل الإنشاء الشفوي غير مرتبط بالإنشاء التحريري ذلك الارتباط الموجود في مراحل التعليم الآن، بل هما فرعان مستقلان أحدهما عن الآخر، والارتباط بينهما ارتباط عام لا يختلف عن ذلك الارتباط بين فروع اللغة.
وهذا المقال يحاول أن يقارب ذلك المعنى بمقاربته طريقة تدريس جديدة للإنشاء الشفوي قوامها التدريب بعد التنظير!
كيف؟
إن أشكال الحديث تتعدد وتختلف؟
كيف؟
هناك الندوات، وهناك المحاضرات، وهناك الخطب، و... إلخ.
ويقتضي ذلك مهارت عقلية وتنظيمية، مثل تنظيم فريق العمل، لا سيما في الندوات والمحاضرات إذا كلف المعلم التلاميذ والطلاب تنسيق الأمر كله بدءا من الموضوع، وانتهاء بالتقويم.
كيف؟
على المعلم أن يُكسب الطلاب والتلاميذ المهارت اللازمة، ثم يكلفهم بعد ذلك بالتنفيذ الجزئي ثم بالتنفيذ الكلي داخل الفصل قبالة زملائهم، ثم بالتنفيذ الخارجي قبالة زملاء المدرسة وغيرهم.
كيف؟
إن تكوين فريق مهارة، والعمل ضمنه مهارة أخرى، وتنظيم العمل كله مهارة، وهكذا. فماذا يلزم المعلم وماذا يلزم التلميذ والطالب؟
يلزم المعلم أن يفهم طلابه أن الإنشاء الشفوي وسيلة إلى اكتشاف مهاراتهم اللغوية والعقلية وإنمائها بالتدريب، ويلزم الطالب أن يسعى إلى التفاعل الذي سيغير عاداته التفكيرية والسلوكية.
كيف؟
إن مهارة تكوين فريق تقتضي: وجود أفراد ثلاثة أو أربعة، وتحديد موضوع، وتوزيع الاختصاصات من محاضر ومذيع و...إلخ، وتحديد المتحدث باسم الفريق، وغير ذلك من أمور تنظيمية تجعل التلميذ والطالب يمران بمواقف تعليمية متعددة يختلط فيها النظري بالعملي فتفيدهم، وتجعل الإنشاء الشفوي وسيلة لتنميتهم تنمية شاملة.
وإن مهارة استماع بقية عناصر الفصل تجعل الفصل مجتمعا متفاعلا له هدف عام مشترك، وتشمله روح التعاون والتآزر كل في موقعه.
وإن مهارة اختيار الموضوع مهارة مهمة؛ إذ تنمي الإحساس بأهمية الأحداث، وتنمي الذكاء الوجداني والاجتماعي لدى الفريق أولا ثم لدى المستمعين بعد ذلك.
وإن مهارة التحكيم لاختيار الفريق الأفضل تنمي الاتجاه الموضوعي في التفكير؛ إذ الحكم لا يتم بناء على هوى لكنه يتم على وفق عناصر محددة يُتفق عليها سابقا تتصل بجودة التحدث من استعمال لغة عربية فصحى، واستخدام الجسد في بيان المعاني وتوضيح الفكر، والاستشهاد والتوثيق للفِكَر، ووضوح الفكر وتسلسه، وتكامل الموضوع بين عناصر الفريق وعدم تكرار زميل ما قاله زميله السابق، وخلو التحدث من أمراض الكلام من حبسة وعدم تركيز ونقل وتشويه وحذف، واختيار موضوع حيوي، و ...، و... إلخ.
فهل يحاول المعلمون تجربة ذلك وتحويل حصص الإنشاء الشفوي إلى "ورش عمل أدبية وفكرية ومهارية"؟
ثانيا- إهمال أصول الفنون الأدبية في مادة الإنشاء من عوامل إضعاف الكتابة الوظيفية والإبداعية
(1)
تحتوي اللغة العربية المقررة على مراحل ما قبل الجامعة على كلٍّ غير متجانس.
كيف؟
تحتوي على علوم أي موضوع وطريقة تدريس مثل النحو محتويا الصرف والإملاء محتويا الأصوات والخط، وتحتوي على علم من دون موضوع وطريقة تدريس مثل الإنشاء ثم يكون له موضوع في الثانوية وهو الأدب بشقيه تاريخ الأدب وأصول الفنون الأدبية، وتحتوي على مادة ليست علما من علوم العربية وطريقة تدريس وهي القراءة والنصوص.
لماذا عددت الإنشاء علما وهو يشارك القراءة والنصوص في كونه نتيجة لعلوم العربية ومجلى لها؟
لإن الإنشاء يعتمد على الأدب تاريخا وأصول فنون، أما القراءة والنصوص فهما مجلى فقط لمهارات استيعاب علوم اللغة العربية.
إذا، نجد في اللغة العربية علما وطريقة تدريس، وطريقة تدريس من دون علم ولا موضوع، وموضوع وطريقة تدريس من دون علم.
ولنا أن نسأل: ما المهم بين ما سبق؟
والجواب الذي لا يحتاج إلى تأمل هو العلوم التي تمدنا بالقواعد والمعلومات أي النحو محتويا الصرف والإملاء محتويا الأصوات والخط والأدب الذي يجب أن يمثل البعد العلمي للإنشاء فيما قبل الثانوية، ثم التطبيق الذي يظهر في فهم القراءة وتذوق النصوص.
ولماذا كانت العلوم هي المهمة؟
لأننا نتحدث عن التربية والتعليم التي يكون فيها التعليم مقصودا ومباشرا، فيؤدي تعليم قواعد اللغة العربية في علومها المختلفة إلى اكتساب الحد الأدنى لنماء الموهبة لمن يمتلك الاستعداد، ولنماء المعرفة العلمية لمن لا يمتلك الموهبة لكنه يحب التعليم الذي يكتشف المواهب ويساعدها.
لذا كان واجبا أن يكون للإنشاء موضوعا حتى تنمو الموهبة والمعرفة!
كيف؟
(2)
كتبت سابقا مقالا عنوانه "الأدب غرس لمعلم اللغة العربية لو أراد وأجاد" أشرت فيه إلى طرف مما أقصده اليوم في مقالي هذا، ثم كتبت مقالا مباشرا شيئا ما عنوانه "الإنشاء مادة بلا محتوى .. فهيا يا معلم اللغة العربية"، ثم كتبت ثالثا أشرت فيه إلى استثمار المعرفة الفنية في التعليم كان عنوانه "عناصر القصة وسيلة تربوية لشرح القصص التعليمية"، ثم كتبت رابعا حذرت فيه من تهميش ما لا ينبغي تهميشه نتيجة لاعتماد أسلوب القصة كان عنوانه "مخاطر اعتماد القصة في تدريس التربية الإسلامية".
واليوم أكمل هذه السلسلة بهذا المقال الذي أدعو فيه إلى تدريس أصول الفنون الأدبية موضوعا للإنشاء التحريري؛ فيعطَى الطالب المعرفة النظرية التي تجعله مستعدا لكتابة مقال أو قصة أو مسرحية، ثم يكون التطبيق المبني على أصول مقررة فيؤتي الأمر أكله وثمرته.
وهذا ما يخالف الحاصل الآن؟
كيف؟
ما يتبع الآن فيما قبل التعليم الثانوي هو أن يُطلب من التلميذ كتابة موضوع أي مقال أو قصة، وهو لا يدري شيئا عن أجزاء المقال ومكوناته ولا مكونات القصة، فلا يجدي الأمر نفعا معه حتى لو أملاه المعلم الموضوع كله إملاء.
لماذا؟
لأن التلميذ يجهل - فضلا عن السابق- أصول كتابة الفقرة، وأصول الربط بين الفقرات وسبكها لإنتاج موضوع أي مقال أو قصة.
فهل يبدأ المعلمون في جعل المقال والقصة وخصائص الفقرة مادة للإنشاء قبل التعليم الثانوي ولا ينتظرون منهجا من الوزارة؟
ثالثا- محتوى الإنشاء الشفوي والإنشاء التحريري والإملاء والنحو .. وتحقيق الأهداف الوجدانية
عندما تقرأ كتب المناهج وطرق التدريس تجد إجماعا على أن الأهداف المعرفية المتمثلة في التذكر والفهم والتطبيق والتحليل والتركيب والتقويم- أهداف قريبة المنال وسهلة التحقيق؛ لذا يحققها معظم المعلمين.
وتجد إجماعا مضادا على أن الأهداف الوجدانية التي تتمثل في الاستقبال والاستجابة والتقدير أو التقييم والتنظيم والتخصيص- أهداف يصعب قياسها؛ لامتدادها؛ لذا يهملها المعلمون.
هكذا تقول الكتب التي قرأتها كما لو أن بعضها ينقل عن بعض، ولم يحاول كتاب أن يوضح نقاطا على درب التسهيل، ولم يحاول مؤلف أن يُفهم المعلم حتى تُمحى تهمة التقصير عن المعلمين.
لا يحاول أحد رسم خريطة تفاعل للعلاج، لا تجد إلا التشخيص فقط، وكأنه كل شيء!
وبعيدا عن عالم الكتب التربوية التي تقتصر على ما سبق، ودخولا في التجربة التعليمية العملية- نجد المساحة لغرس الأهداف الوجدانية رحبة ومتسعة قبالة المعلم.
كيف؟
إن الأهداف الوجدانية تتصل بالقيم والأخلاق والاتجاهات التي يراد بثها وتثبيتها في نفوس التلاميذ، وتحاول الكتب المقررة أن تحتوي على مادة تفيد في تنفيذ ذلك، وتقتصر مهمة المعلم على توظيفها إن وظفها.
لكن الأمر لا يقتصر على ذلك؛ فهذه نسبة ضئيلة لا تتسع للمعلم الذي يحب عمله ويحب بناء الإنسان، فماذا يفعل هذا المعلم لو أراد بناء طلابه نفسيا وخلقيا؟
هو في فسحة من أمره.
كيف؟
إنه يعايش طلابه عاما دراسيا ممتدا، ويرى طبائعهم، ويعيش تعاملهم بعضهم مع بعض، ويدرك أوجه النقص والخلل؛ لذا فإن أمثلة دروس الإملاء والنحو وقطع الإملاء وموضوعات الإنشاء الشفوي وموضوعات الإنشاء التحريري- يمكنه من خلالها أن يعالج الأمراض الخلقية التي يراها في تلاميذه؛ فلو وجد أن بعضهم يزدري بعضا لتدني المستوى التحصيلي عالج ذلك، ولو وجد حالة خصام بيّن أن الخصام ضعف وليس قوة، وإذا وجد طلابا يتزينون بزينة ظاهرة مثل السلاسل وغيرها وضّح لهم من خلال المادة العلمية في أمثلة النحو الإملاء وقطعها وموضوعات الإنشاء الشفوي وموضوعات الإنشاء التحريري أن الزينة الظاهرة من خصائص النساء وهن مطالبات بألا يبدينها إلى لمن يحل له رؤيتها، وإذا رأى اعتداء جسديا من بعضهم على بعض بين أن القوة الحقيقية تكمن في التحكم في الغضب تحقيقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ).
وليس الاستثمار العلاجي هو الاستثمار الوحيد، فهو استثمار سلبي على الرغم من أهميته، ويبقى الاستثمار الإيجابي المقتضي غرس القيم الطيبة غرسا ابتدائيا، والمواقف التعليمية داخل حجرة الصف كثيرة ومتنوعة وكافية المعلم لو اراد أن يبني نفوسا ويربي عقولا.
هذه التقاويم تقاويم غير مباشرة تأتي في ثنايا تعليمه القواعد، فإذا أضيف التعليم المباشر الذي يأتي تعقيبا آنيا على الأفعال الخاطئة والذي يأتي في ثنايا الكتب التعليمية، وإذا استحضرنا الزمن الذي يمتد عاما دراسيا، وإذا استمر المعلم على ذلك.
إذا اجتمع كل هذا فإن الوجدان سيتغير، ويثبت فيه ما يراد تثبيته، ويخرج منه ما يراد إخراجه، وتنتفي تهمة التقصير عن المعلمين، وتتغير كتب المناهج وطرق التدريس عند ذكر الأهداف الوجدانية ومستوياتها.
إن الأمر لا يحتاج إلى إلى معلم يرى أنه يؤدي مهمة المهام؛ فهو ينشئ الطبيب والمهندس والمحامي وغير ذلك من وظائف المجتمع!
وسوم: العدد 810