الريادة الإسلامية في ميدان الدراسات المنهجية، الإمام أبو حامد الغزالي أنموذجا
نحن في عصر ادعاء وغرور . والغرور قبيح عندما يكون بالمال والبنين وبما يملك الإنسان من أرصدة وعقارات ومتاع ووسائل ؛ ولكنه أقبح ما يكون في أبواب المعرفة والعلم وما يصدر عن الجامعات ومراكز البحوث والدراسات !!
وما أقبح ادعاء الموضوعية والمنهجية من قوم مردوا على الابتسار والاختزال والاجتزاء والتشويه والكذب والافتراء ؛ سواء وقع ذلك في علوم المادة أو في علوم الإنسان أو في أبواب تقويم الحضارات والثقافات والشعوب والمجموعات ..
نرجو أن نجد وقتا لنشر قوائم بما يسمى " الاكتشافات العلمية " أو "الشواهد العلمية " المزيفة في ميادين الأنثربولوجيا وعلوم الإنسان لدعم نظرية ودحض أخرى ، ثم بعد أن يؤدي شاهد الزور وظيفته يتم الكشف عن زيفه واختلاقه .سنتجاوز اليوم هذا السياق العلمي الذي سطا عليه المزيفون وأصحاب الأغراض ، لنذهب إلى سياق آخر مما يسمى البحث العلمي في تفسير الظواهر الاجتماعية والأحداث السياسية ، وتقويم المفاهيم والأفكار ، وتوصيف الملل والنحل والمذاهب والجماعات ..
ولن نضيع الوقت في الحديث عن واقع ما يسمى " البحث العلمي " أو " التحليل السياسي " أو دراسة "الظواهر الاجتماعية " بكل مافي ذلك من وهن وسلبية ، إلى حد أن مركز دراسات علمي عالمي مرموق يحلل ظاهرة الربيع العربي فيتهم الأنثربولوجيا والتاريخ والثقافة والإنسان دون أن ينبس ببنت شفة عن واقع يحكمه الاستبداد والظلم والفساد والانكسار ..ثم تجد الناس إذا قال مثل القائمين على هذا المركز سمعوا لقوله ، وأذنوا له ، ورددوا ما يقول .
وعلى صعيد آخر نجد بعض الناس إذا أرادوا أن يتحدثوا عن مفهوم أو ملة أو مذهب أو جماعة تحدثوا بما تراكم في عقولهم أو ران على قلوبهم من نثارات محبين أو مبغضين ، ملبسين كل ذلك لباس المنهجية والعلمية والبحث العلمي !!
تجربة الإمام أبي حامد الغزالي 450 – 505 / في ميدان البحث والتقصي والحيادية في البحث عن الحقيقة كانت متقدمة ورائدة في مناهج البحث العلمي.
كان رحمه الله تعالى إذا أراد أن يدرس مذهبا أو فكرة لا يكتفي بقراءة كتب أصحابها والقائلين بها بل يعمد إلى معايشتهم ومخالطتهم والاستئناس بهم وأحيانا الانضمام إليهم كما فعل مع الباطنية ، وقد كانوا في عصره ، ومن أخطر وأعمق التنظيمات السرية ، وأشدها انتشارا وفتكا ..
ثم يعمد هذا الإمام " حجة الإسلام " على عرض مذهب القوم ، وأفكارهم على نحو من التمام والكمال والجمال بأسلوبه الرائق البديع ببلاغة وطريقة لا يقدرون على مثلها هم لو أرادوا .
لا يدس عليهم ، ولا يتهمهم ، ولا يزور أقوالهم ، ولا ينسب إليهم آراء لا يتبنونها ، وإنما يبالغ في الدقة والبيان والفصاحة في عرض عقائد وأفكار مخالفيه كما هي وعلى أجمل ما تكون ؛ حتى انتقده على ذلك جملة من علماء المسلمين وقالوا : تزين الباطل وتجمله ثم لعلك لا تنجح في هدمه!!
كان الإمام أبو حامد الغزالي يفعل كل ذلك مع مذاهب خصومه من باطنية وفلاسفة وعدمية وشكاك ثم يكر على مذاهبهم وأقوالهم فينقضها برأيه وعلى طريقته .
والذي يهمنا في هذا السياق هو الرغبة الصادقة في العلم والفهم . والمنهجية الصادقة في التقصي عن الحقيقة . والاستعداد الكامل لتبني الحق والإذعان له . ثم التفوق الدائم في نصرة ما يعتقد أنه الحق والصواب .
ليس مهما أن نتفق على أن الإمام أبا حامد الغزالي قد أصاب الحقيقة في كل ما اجتهد فيه بل المهم في هذا السياق أنه كان حريصا عليها ، ملتزما في "وضع الهناء موضع النقب " كما تقول العرب .
البحث العلمي ، والنقد المنهجي الايجابي والسلبي على السواء ، ليس تعبيرا عن رغبات خفية في الادعاء والانتقام . أن يشوه الإنسان خصمه على الورق لا يعني أنه انتصر عليه بل يعني أنه يشوه نفسه أمام العقلاء الذين لا تنطلي عليهم الأحابيل ولا الأساليب .
البحث العلمي المنهجي هو القول السديد الذي يكون مدخلا للصلاح والإصلاح .( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ).
والباحث المنصف هو القاضي الفاضل الذي يملك المرجع ويملك المعيار ليضع الحقائق والأباطيل في إطارها بكلمات تخرج من بين شفتيه .
وأهم المراقي على طريق هذه المنصة:
توثيق المصادر – عدالة أصحابها بمفهوم للعدالة يليق بكل قضية – تعدد هذه المصادر في القضايا التي تختلف فيها وجهات النظر – البعد عن التنميط السائد وإماطة مشاعر الحب والكره المسبق عن مدخلات الأحكام – ثم استخدام المعايير العلمية المتبعة في كل ميدان بحسبه للوصول إلى النتائج ...
كل أولئك شروط أولية للبحث العلمي والتقويم الحضاري والتحليل السياسي والقول السديد ..
ثم نقرأ وتقرؤون ...
والله من وراء الخلق جميعا محيط .
وسوم: العدد 820