روايات باكثير (قراءة في الرؤية والتشكيل) د. عبدالله الخطيب
علي أحمد باكثير: أديب كبير.. أديب إسلامي أصيل، استطاع – في عمره القصير (59 سنة) – أن يقدم الكثير الكثير من ألوان الأدب المتميز بجدته.. وهب نفسه، وقلمه، وحياته، للأدب، فأبدع في أكثر ما كتب، وهو أهل لأن تقدم الدراسات حول حياته، وفكره السياسي، والاجتماعي، والأدبي، وحول كل جنس من الأجناس الأدبية التي صال فيها وجال: شعراً، ومسرحية، ورواية – أن تقدم أكثر من دراسة، أكثر من رسالة جامعية، فإذا ظلم باكثير في حياته وبعد وفاته، فقد آن الأوان لينهض الشباب الجامعي برفع الغبن الذي ناله وغاله، وليضعوا عن كاهله أوزار المرجفين والمخاصمين بعيداً عن شرف الخصومة، فقد آذوه وأنقضوا ظهره ولولا تثبيت الله له، ولولا إيمانه، ولولا إرادة التحدي والقتال عنده في غير ميدان، لخسر الأدب العربي عامة، ومذهب الإسلامية في الأدب خاصة، أديباً عظيماً، هيهات أن يجود الزمان بمثله، والدليل على ذلك: هذا الفراغ الذي تركه خلفه بوفاته، وهو فراغ كبير، لم يستطع أي أديب عصري أن يشغله .
ومن هؤلاء الشبان الجامعيين، صاحب هذا الكتاب القيم في نهجه، وأسلوبه، ومسالك تفكيره، وجديته...
حضرت مناقشة عدد من الرسائل الجامعية – ماجستير ودكتوراه – وقرأت عدداً من رسائل الدراسات العليا قبل أن تصير كتباً مطبوعة، وبعد أن طبعت، وكثير من تلك الرسائل لم تكن لتنال رضا مناقشيها، وحاضري مناقشتها، وقارئيها – من بعد – ولكني وجدت صاحب هذا الكتاب/ الرسالة، دارساً جاداً، متأنياً في دراسته، ومطالعاته، غير متعجل فيما يكتب، وفيما يقدم من تحليل ورأي، همه: الجديد، وليس حمل (الشهادة) وهذا يبشر بخير كثير إن شاء الله تعالى.
واختياره لدراسة روايات باكثير التاريخية: دليل وعي ومعرفة بالساحة الأدبية عامة، والإسلامية خاصة، فباكثير أديب بارز، وهو مؤسس مذهب (الإسلامية) في الأدب، بلا منازع، كما هو رائد شعر التفعيلة بلا منازع، وكل من نازعه في هذه الريادة، متبر فيما ينازعه فيه، هو، أو من يزعم له الريادة من النقاد المنحازين لخصوم باكثير، المتحاملين – إن لم أقل الحاقدين – على باكثير، حسبما تدعوهم أيديولوجيتهم إليه، وتأمرهم به، فقد عرف هؤلاء أي رجل هذا الشاب الحضرمي الذي اتخذ من القاهرة مستقراً له، وأي داعية إلى الأدب النظيف، الأدب الملتزم بقيم الإسلام ومبادئه وشريعته وأخلاقه.. عرفوا خطورة ما يقدم من ألوان المسرحية، والرواية، والشعر في وقت مبكر، فشنوا عليه حملة شعواء لم تخب نارها بعد.. وقد يحسب القارئ المتعجل، وسليم النية، أن مبعث هذه الخصومة: الحسد.. ويا ليت المسألة تقف عند الحسد، وعداوة الكار لدى بعض كتبة المسرح، فهؤلاء رأوه مجلياً في هذا الميدان، فحسدوه ونقموا عليه وكادوه، فمسرحياته التي مُثلت على خشبة المسرح، وكذلك أفلامه السينمائية، كان لها حضورها القوي في نفوس كل من شاهدها، برغم كل العقبات التي كانت توضع في طريقه، لتحول دون نجاحه ونجاحها، ولكن.. هيهات.. فقد كان – باكثير – بما أوتي من حس فني وذائقة أدبية، ومن عشق لهذا الفن، حمله على إتقان ما يكتب، وتجويد ما يقدم، وعلى الإخلاص لفكرته .. – كان باكثير، بهذه وبغيرها، أكبر من كل العقبات التي يضعها في طريقه: المعوِّقون المعوَّقون، والحاسدون الحاقدون على هذا الشاب الذي جاء من أقاصي البلاد العربية، ليزاحمهم في مصر (الفرعونية)..كما زعموا ويزعمون.. في بلدهم الذي هو ملكهم، ولا يسمحون لمنافس (أجنبي) غريب، أن يثبت أقدامه التي تسير بخطوات واثقة على (أرضهم). صاحب هذا الكتاب/ الرسالة: دارس جاد، وكاتب ملتزم، وداعية على طريق مستقيم لاحب، يظهر التزامه من الأسطر الأولى التي خطها يراعه.
إن من يقرأ الكتاب/ الرسالة هذه، يجد أمامه جهداً واصباً، وعملاً دائباً أخرج الكتاب بهذه الصورة التي سوف يحمدها الدارسون له، في كل المحاور والمجالي التي رادها في بحثه الرصين هنا..
قدم موجزاً عن حياة باكثير، ليس بالطويل الممل، ولا القصير المخل، وقدم صوراً واضحة عن المشاهد السياسية والفكرية والاجتماعية، التي عايشها باكثير، وكانت لها بصماتها على حياته، وفكره، وأدبه، ومواهبه، ومواقفه..
ومهد لدراسته بوضع بعض الصور لتكون معالم واضحة لما سوف يقدم، قبل الخوض في الميدان الذي اختاره لرسالته، ودراسته عن روايات باكثير، وكان رصده في هذه التوطئة واعياً، وأميناً.. وهاتان صفتان لا بد منهما للدارس الذي يحترم نفسه وبحوثه..
حلل روايات باكثير التاريخية وتحدث – في الفصل الثاني – عن فن الرواية التاريخية عند باكثير، فأجاد، وحوت خاتمة دراسته خلاصة هي مجموعة نتائج ما توصل إليه.
إن من ينظر إلى قائمة المصادر والمراجع، القديمة والحديثة التي اهتدى بها في كتابه، من كتب، وصحافة ، وإحصاءات، يعرف الجهد الجاهد الذي بذله الباحث من أجل الإحاطة بموضوعه ويدل على المتابعة الدائبة، والاستقراء والاستقصاء، من أجل إعطاء الدراسة حقها، وليكون إنصافه لباكثير، مستنداً إلى مجموعة طيبة من الأدلة والبراهين التي تدعم ما اقتنع به وتوصل إليه، عبر مطالعاته المستفيضة في تلك المصادر والمراجع.
ولقد وعى إسقاطات باكثير على واقعنا المعيش، فاستخلص خلاصات تدل على عبقرية باكثير الذي وعى زمانه، كما وعى التاريخ فأسقط الثاني على الأول، في عمليات فنية واعية، فتراه كان يتحدث عن الأيام التي يحياها بكل ما فيها، وبقيت طريقته فيها مستقيمة.
من يقرأ مسرح باكثير السياسي، من دون أن يعرف كاتبها، يحسب كاتبها عصرياً لنا، يعايش أحداث اليوم، ويكتب عنها ويعالجها بأسلوب فني راق.
وكذلك قل عن سائر أعماله الروائية والشعرية، بما حوت من إسقاطات على واقعنا الذي نعيشه وعشناه في العقود الأخيرة، بينما كتبها باكثير في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته وستينياته.
قدم الأستاذ الدكتور عبد الله الخطيب كل ذلك، بأسلوب أدبي رصين، خلا من أي وهن، وهذا يعني أنه يعد بالكثير إذا تفرغ لدراساته، ونأى بنفسه عن حطام هذه الحياة، الذي يقتتل الناس حوله، ويتنافسون عليه..
هذا ما نرجوه منه، وله، ومن الله التوفيق والتسديد..
وسوم: العدد 828