رواية جداريات عنقاء مرّة أخرى

clip_image002_f8bbf.jpg

صدرت رواية "جداريات عنقاء" للكاتبة الفلسطينية مروى فتحي منصور، عام 2019 عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، وتقع في 330 صفحة من الحجم المتوسط، وصمّمها ومنتجها وأخرجها شربل إلياس.

هذه الرّواية الأولى للكتابة مروى فتحي منصور ابنة مدينة جنين الفلسطينيّة.

 تلفت انتباهنا هذه الرّواية من عنوانها على غلافها الأوّل، فالجداريّات هي اللوحات الفنّيّة التي ترسم على الجدران، أي أنّها ظاهرة للجميع، والكلّ يستطيع مشاهدتها، والعنقاء طائر وهميّ ورد في الأساطير القديمة، ويتميّز بطول العنق، وطول العنق دليل على الجمال، وورد في الأساطير حول هذه الطّائر أنّه يحترق ويتحوّل إلى رماد، ثمّ لا يلبث أن يعود حيّا من جديد، وعنوان الرّواية هذا يدعو القارئ إلى التّفكير بالذي تريد الرّوائيّة طرحه في روايتها هذه، ولم أصل إلى هدف الرّواية من عنوانها، لكنّه حرّضني على قراءتها؛ كما أنّ الرّواية نفسها بأسلوبها السّلس، وطغيان عنصر التّشويق فيها قد دفعتني لقراءتها في جلسة واحدة، لأخرج بنتيجة مفادها أنّ معاناة المرأة في مجتمعاتنا الذّكوريّة ظاهرة ومعلومة للجميع، لكنّ أحدا لم يعمل على تغيير هذا الواقع، وفي الوقت نفسه فإنّ المرأة هذه الإنسان الجميل، تدهش نصفها الآخر الذي سبب معاناتها، وتحرق نفسها من أجله، ولتخرج مرّة أخرى من بين الرّماد، لتعيد دورة الحياة.

وإذا ما وصلنا إلى صفحة "4" سنجد الإهداء دون أن تضع الكاتبة عنوانا له، فنجد أنّ الكاتبة قد بدأته بـ: "إلى والدي ووالدتي اللذان شكّلا نظرتي لنفسي من علوّ شاهق"، وبعد قراءتي للرّواية وجدت لغتها لغة أدبيّة فصيحة سليمة، فاستغربت لماذا رفعت "اللذان" في السّطر الأوّل للإهداء، مع أنّها مجرورة، والصحيح أن تكون "اللذين" لأنها بدل من المبدل منه" إلى والدي ووالدتي". ولا يمكن تبرير هذا الخطأ إلى بالسّرعة وعدم الانتباه، وما أظنّ أنّ هكذا خطأ يمرّ على الكاتبة لو انتبهت له. لكنّ هذا السّطر الأوّل في الإهداء يشي بأنّ تربية الآباء للبنات تقوم على غرس الدّونيّة في نفوسهنّ منذ الصّغر! فالذي ينظر للآخرين من علوّ يعني أنّه يتعالى عليهم. وفي هذا نقد لاذع للثّقافة والتّربية الذّكوريّة في نظرتها للمرأة. ومن هنا فإنّ السّؤال الذي يطرح نفسه من جديد وهو: ما العمل أمام هذا الواقع المرّ؟ وبطريقة غير مباشرة تجيب الكاتبة على هذا السّؤال في إهدائها في الفقرة الأخيرة من الصّفحة الرّابعة فتقول:" إلى كلّ طاغ ظنّ أنّه يطمس النّاطقين بالحقّ بجرّة قلم سيلغي قدرتهم على بوح الحقيقة، هي أوّل الغيث والعاصفة قادمة، ومصير فرعون آتيك، أعدك"ص4. وفي محاولة لفهم ما بين السّطور سنجد أنّ الكاتبة تعتبر روايتها ثورة على الطّغيان والخلل الاجتماعيّ، المتمثّلة بالعادات والتّقاليد السّلبيّة، وأنّ المتمسّكين بهذه المفاهيم الخاطئة سيتساقطون أمام الوعي القادم لا محالة، تماما مثلما سقط من قبل طغيان الفراعنة. وهذا الطّغيان كما يظهر في تتمّة الإهداء في ص5، بأنّ القهر التي تتعرّض له النّساء بشكل خاصّ والمجتمع بشكل عامّ، ليس بعيدا عمّا يعانيه الوطن، الذي تصفه "بين جدرانه معتقل، معتقل في معتقل الرّوح، ويقضي الله إلى الخلاص منه من يشاء"، وهذا يعني أنّ حريّة الوطن مرهونة بحرّيّة أبنائه، وكأنّي بها تتساءل: كيف يمكن تحرير الوطن ما دام نصفه يضطهد نصفه الآخر؟ أو كما يقال" إنّ من يضطهد الآخرين ويسلبهم حرّيّتهم وحقوقهم لا يمكن أن يكون هو نفسه حرّا".

قرأت هذه الرّواية مرّتين، الأولى وهي مخطوطة، والثّانية بعد أن صدرت ورقيّا، مع التّأكيد على عدم معرفتي الشّخصيّة للكاتبة. وأجزم بأنّ الرّواية غير مسبوقة في مضمونها، -على الأقلّ في الأدب الفلسطينيّ المعاصر-.

وقد فاجأتني الكاتبة بقدرتها على كتابة الرّواية وتميّزها من خلال إصدارها الأوّل، ممّا يعني أنّها موهوبة وليست دخيلة على الأدب الرّوائيّ. فالكاتبة متمكّنة من اللغة، ولديها مخزون لغويّ لافت، ولغتها بليغة فصيحة احتوت كلّ صنوف البلاغة بسلاسة دون تكلّف أو تصنّع.

وقد تعدّدت الحكايات والقصص في الرّواية، وبقيت مرتبطة ببعضها البعض بخيط شفيف، وغلب عليها الرّويّ والبناء الرّوائي بأساليب متعدّدة، التي لم ينقصها عنصر التّشويق الذي يجذب القارئ، ويفرض عليه متابعة الأحداث دون ملل، ولم يغب عن الرّواية أسلوب الاسترجاع الذي غذّى عنصر التّشويق وأضفى جماليّات على البناء الرّوائيّ.

وقد أبدعت الكاتبة في روايتها من خلال تعدّد الأحداث والقصص والحكايات التي اختلط فيها الواقع بالخيال "الواقعيّ"، وهذا دلالة واضحة على عمق الثّقافة الاجتماعيّة للكاتبة، والتي أبدعت أيضا في سبر غور شخصيّات رواياتها.

ومن مميّزات هذه الرّواية أنّها رواية نسويّة بامتياز، فالكاتبة منحازة إلى بنات جنسها اللواتي يعانين الاضطهاد في مجتمعاتنا الذّكوريّة التي لم ترحم المرأة في مراحل عمرها المختلفة، وربطت ذلك بفوقيّة الرّجل في استغلال المرأة واضطهادها بغضّ النّظر إن كانت ابنة أو زوجة أو أختا أو عشيقة. ويلاحظ أنّ الرّواية لم تجعل من شعبنا شعبا نموذجيّا كما يحلو للبعض أن يصفه، وقد عرّت هذا المجتمع من خلال العلاقات الاجتماعيّة وعلاقات الحبّ والغرام بين الرّجل والمرأة، وهذه العلاقة غير السّويّة هي التيّ أنجبت علاقات غير سويّة ومخالفة للدّين وللعادات والتّقاليد، ومن يقرأ الرّواية بحياديّة ووعي سيجد أنّ ما ورد فيها هو حقيقة مجتمعنا الذي يدّعي الفضيلة في العلن، ويعمل عكسها في الخفاء، وهذا لا يقتصر على العلاقة بين الرّجل والمرأة فقط، بل يتعدّاها إلى أمور أخرى هي السّبب في الخلل الذي يحصل، وهنا جاء دور الفساد والإفساد الذي يمارسه بعض المتنفذّين، ومن هذا الفساد عدم المساواة بين المواطنين أمام القانون، وهذا يشمل مختلف مناحي الحياة، تقول لوليانة على لسان سيرين في رسالة ألكترونيّة:" أنّ القاضي هو الجلاد يا بنيّتي" ص158،  وتواصل "تذكّرني بطعم مرّ في حلقومي يرافقني منذ كنت طالبة بالمدرسة، عندما يتمّ تهميشنا وعقابنا بينما تبقى بنت المديرة وبنات المدرّسات دون عقاب، علنا ودون تفسير، ولا تجرؤ واحدة من الطالبات على السّؤال والاحتجاج" ص158، " ولقد كبرت في داخلي الغصّة درست المحاماة، وإذ بي أجد أنّ شريحة من الشّعب فوق المساءلة وفوق القانون". ص159.

وحتّى في العلاقة الحميمة بين الرّجل والمرأة، هناك من يضطهد شريكته، ويتعامل معها وكأنّها "مجرّد منفضة سجائر"! أي أنها وعاء لتفريغ شهواته. وهناك فرق بين هذا وبين نقيضه الذي:"إنّه يعشق التّفاصيل في المرأة، والأهمّ يعشق أن يُمتّع المرأة أكثر من يتمتّع، حيث تكمن متعته في رؤيتها مستمتعة به، ...هل يستوي مع الذي يعتبر المرأة مطفأة سجائر؟" ص209.

و "زينة" إحدى بطلات الرّواية فتاة يتيمة لا إخوة لها، تشكّل نموذجا للخلل الاجتماعيّ الموجود بيننا، فقد اضطرّت للزّواج من عجوز تسعينيّ هربا من ابن عمّها المنحرف الذي كان ينوي الزّواج منها عنوة، وعند هذا الزّوج كانت مجرّد خادمة لهذا العجوز، وتلقى الاضطهاد من أبنائه. وعندما دخلت المستشفى لإجراء عملية جراحيّة لاستئصال المرارة، شاء حظّها العاثر أن تدخله ابنة أحد المتنفذين للاجهاض من جنين حملت به سفاحا، وجرى عكس الأمور في المستشفى بحيث سجّلت "زينة" بأنّها هي التي أجهضت! وهذا شكّل فضيحة لها. وعندما تولّت "لوليانة" محامية "جمعيّة حماية المرأة  من العنف" عمليّة الدّفاع عن "زينة" جوبهت من إدارة المستشفى، لكنّها لم تيأس، وواصلت دفاعها عن "زينة"، وعندما وصلت إلى اثبات الحقيقة فوجئت بأنّ "زينة" نفسها قد أسقطت القضيّة تحت ضغوطات من متنفذين، لتواجه المحامية بتهمة التحريض والفساد وقلب الحقائق! وهذه إشارة ذكيّة إلى أنّ المرأة في المجتمعات الذّكوريّة تساهم في اضطهاد نفسها، حتّى وإن كانت مرغمة.

والمحامية لوليانة أيضا لها مشاكلها الخاصّة هي الأخرى، فقد فشلت في حبّها الأوّل، ولم تجد في زوجها الشّريك المناسب الذي يلبّي طموحها ورغباتها كزوجة وكإنسانة ممّا دفعها إلى تعدّد علاقاتها مع الرّجال.

وحتّى الدّكتور وليد "الطبيب النّفسي في "جمعية مقاومة العنف ضدّ المرأة" كان يستغل مريضاته جنسيّا بدلا من حمايتهنّ!

يبقى أن نقول أنّ هذه الرّواية الجريئة بحاجة إلى دراسات عميقة للوقوف على خباياها وأهدافها.

وسوم: العدد 833