شهقات ملونة للشاعرة وعد جرجس تعلق بيارق الأمل على جماجم المحن وتفتت آثار الخيبات
عن ديوان “شهقات ملونة” للصديقة الشاعرة وعد جرجس …
كتبت الشاعرة وعد جرجس قصائد الديوان في فترات متفاوتة تمتد إلى بضع سنوات، وانتظرت طويلا لتنتج لنفسها ولنا كقراء ومتذوقي الشعر والشعراء والنقاد .... لوحات مزركشة من الحرف والشعر الممزوج بالأحاسيس والمشاعر الجياشة والصادقة في ديوان اسمه شهقات ملونة.
لقد سبق وكتبت عن الديوان بشكل مختصر عندما تم إصداره
(بأن قصائد الديوان هي جهد أيام وليال، من حرارة الحنين، واختلاج الوتين ... صرخات في وجه الحرب والدمار، القتل والإرهاب، ألام طويلة ممتدة على خاصرة الوطن والقلب، حزن ووجس ....
بعضها كالعتاب ... كالنداء للمستضعفين للانتفاض على الجور. تلمس واقعهم المعاش وصراعاتهم اليومية من أجل البقاء ضد الكم الهائل من الاستغلال والنفاق والإرهاب التي تقع بحقهم، إنها انعكاس للهول الذي أصاب البشر والبلد)
فقد صدر عن دار السكرية للنشر والتوزيع في القاهرة ـ مصر ديوان "شهقات ملونة" للشاعرة السورية وعد جرجس، ديوان مكون من 200 صفحة خليط بين قصائد الحب، الحرب، المرأة، ومحاربة الإرهاب، والحنين للوطن .... يختلف الأسلوب بين النثر وشعر التفعيلة.
بين ضفتي الديوان شهقات ملونة على شكل أزهار متعددة الألوان ومختلفة العبق، هذه الشهقات تلامس الأعماق فتشعرها تائهة وحائرة وأحيانًا ظامئة أو تنثر العطر واللون حول مساحة كبيرة من الهم والشجن أو ترسم الفرح على بتلات الزهور آيلة للسقوط فتسقيها من الماء الأمل.
بين ثنايا حروفها ستجد الإرادة القوية رغم المعاناة، والإصرار على بلوغ الهدف رغم المعوقات، في كل قصيدة يمكن للقارئ أن يرسم لها خرائط عديدة. حروفها ممزوجة بموسيقا الحزن، تائهة في مغتربات بعيدة، تبحث عن حبل النجاة لقلب تضخم همومه ولوطن انغمس في اللون الأحمر.
تنقط دمعة العيون كالحبر على الورق لترسم للحبيب الفرح وتذكره بالوعد الذي تم رغم الخطر، وتضع للوطن خرائط للبناء والبعث من جديد رغم تكديسه بالرصاص والعفن فالشوق طال لهما لا بد للقدر أن يهندس آخر حلقة اللقاء والعناق
لها أسلوبها الخاص في الصياغة والتجديد وتقديم مشاعرها وأحاسيسها في قالب شعري وتعبيد طرق الأمل التي تؤدي إلى المبتغى الإنساني الأسمى.
في المقطع أدناه من قصيدة رائعة باسم "ناي صفن" يفوح عطر الشعر خفاقا بين ثنايا الحروف، أظن بأن هذا النص يجعل المرء يتوه في بحاره ويضعه في الحيرة عن المصدر الذي خرج هذا العبق الشعري، ويأخذه إلى تأويلات متعددة دون أن يتمكن من إثبات صحة رأيه بشكل كامل، وهذا هو الشعر من حيث الانزياحية والانبهار!
ينابيعُ خيرٍ
أضحت سبايا
تنازع ... تقاوم
تبارك وتلعنْ
هباءً تناقض
كطفلٍ تجرثمت
مقلتيهِ بالدُّخانِ
يناجي حضنَ
أمّهِ تارةً
وتارة يجنُّ
ويبكي ويلعن
بيأسٍ أنزلَ
العجوزُ عصاتهُ
ماسحاً دمعتيهِ
مودّعاً رفاتهُ
التي شيّعتها
بالأقدام ِوالزغاريدِ
جيوشُ الفِتَن.
طرق الديوان إلى معظم المواضيع التي يمكن أن تلمس مشاعر وأعماق أي إنسان، فقد كتبت الأستاذة جرجس عن الهموم التي تؤرق الإنسان بشكل عام، ومنها الغربة والحنين لبلدها ومربع صباها فالشاعرة أيضًا مغتربة منذ سنوات في دولة ألمانيا.
في قصيدة "مسافرون" نرى أن الشاعرة تتكلم عن المغتربون الذين أصابهم التيه فترجمت إحساسها كمغتربة بصيغة الجماعة إلى الشعر. البلاد المهجر لن تكون وطنًا بديلًا مهما قدمت للمرء من الحقوق والمغريات، وخاصة إذا وصل الشخص إلى الغربة في السن الرشد فالمغترب ينبض قلبه على أمل الرجوع يومًا ما إلى حضن الوطن، يستنزفه الذكريات والحنين في كل لحظة، ينتظر أيامًا وسنينًا لعل معجزة تحدث، والعودة تتحقق.
الصعوبة أكبر تكمن عندما يكون الوطن في حالة الحرب وعدم الاستقرار فالشوق يخلطه الدمع في كأس اليأس، والحسرة قد تطول كثيرًا، وفي كل هذه المسافة يتوجع القلب لهفة على لقاء الأحبة وشم تراب الوطن بشكل دائم واحتضان كل شيء فيه فتهمر الدموع على خدود الوحدة والولع في كل حين، وفي كل هذه المسافة ...
مسافرون
ونبقى هكذا بلا
وطن
على ضفائر السنين
مقعَدين
وفي مسافة الحزن
يتلونا الحنين تيهًا
وعطش
فتتلوه العيون!
وفي قصيدة "ويسأل الوطن" تعبر عن عشق المرء لوطنه وما يمكن أن يقدمه في سبيله، ولكن في حالة انعدام العدل لا يجد المرء من سبيل سوى ترك عشقه، ويرد المرء على الوطن: هل تراني غريبًا ولا بد من حرماني من حقوقي وبالتالي السفر إلى خارج أسوارك؟ فأنا لم أتركك كرهًا ولا أخون العهد، لكن ميزان العدالة لم يميل للفقراء والمخلصين، ومن كانوا في المراكز المتقدمة والمناصب الكبيرة هم الناهبون للخيرات فكان لا بد من البحث عن ملاذ وملجأ يقدم لنا ولو جزءًا من حقوقنا مقابل ما نقدمه من الواجبات ... ولو بعض من العدالة!
ويسأل الوطن
ويسأل الوطن لم هجرت وجهي!
وتركتني مثل الغريب في الكفن؟
أتعلم لم أهجرك
لست أخون عهدك لكنني
كنت فقيرًا أسأل عن خبز أولادي
إذا جاعوا فما من مانح
عفوًا وطن
وغيرنا كانوا على كل الموائد
سيدي
أترابي
ساعاتهم من الذهب
وأنا الغريب قد ذهب
وفي مقطع أدناه، تعبر عن مدى ألم الرحيل والابتعاد الحبيب كما يمكن أن نسقطها على الوطن، تشبه وجود الحبيب بالورد المتوهج ورحيله يعني فناء الورد واختفاء عطره وغياب الجمال في أفق وعالم الحبيبة، والروح تتوه في المدى وتدندن تارة ة وتصرخ تارة أخرى عن السبب!
لا تبتعد
فالنفس عند رحيلك
تذوي كما ذاك الورد
والروح تسأل حائرة
أين هو لم ابتعدّ!؟
.................
وفي نفس القصيدة تختم بهذه المقطوعة الجميلة، تستمر في مناجاته ... ألا يبتعد، فالنفس ظامئة للعشق لا يتحمل الرحيل، الرحيل يوغز في مكنونات الصدر وتصيب النفس بالهذيان والضياع، والقلب عندما يتوقف تغذيته بمياه العشق والحنان ينزف ويصرخ في كل الاتجاهات، لا يرى سواك ويأخذ الابتسامة من دفء حنانك كما الورد ينثر العطر في سماء لقاءاتنا، وتقفل نصها: أولا تحبها لوعد؟ عاهدها أن لا تبتعد... يا لها من البراءة والصدق في المشاعر!
لا تبتعد
فالنفس عند رحيلك
يخدش الصدر ويرتعد
والقلب عندما تَصمُتُ
يبكي ويصرخ فلتعُد
فلقد تعودَ دفئكَ
والورد منكَ والشَهد
أولا تحبُها لِوَعد؟
عاهدها أن لا تبتعد
الديوان يستحق القراءة وكتابة دراسة مفصلة عنه بل كل مقطع وقصيدة تحتاج إلى دراسة عميقة لما يحتوي الديوان من مواضيع مختلفة ولغة شعرية فنية جميلة وذات دلالات عميقة، ويغلب عليه الطابع الدراما ونهايات قد تكون مفتوحة أحيانًا، لكنها تشير إلى طرق الحل والنجاة، اجتهدت الشاعرة فيه ونجحت في تقديم ما هو الجميل.
الشاعرة والقاصة والكاتبة وعد جرجس هي ابنة منطقة الجزيرة ضمن الحدود السياسية للدولة السورية، تلك المنطقة التي أنتمي إليها أيضًا، لذلك أراها استطاعت أن تترجم عوالم وهموم بيئتها إلى لغة شعرية جميلة، فهي تكتب بصدق وحس شعري متميز، تنتقي كلماتها بعناية فائقة لأنها تعرف قيمة الشعر وتهمها ذوق القارئ.
الجدير بالذكر، أن الشاعرة وعد جرجس لها مخطوطات أخرى جاهزة للطبع منها:
ـ ديوان شعري "رواية حب زهرة" ـ مجموعة قصصية "للواقع ظل يتنفس" ـ كتاب حكم وعبر يومية "مواسم الأنفاس"
إضافة إلى رواية قيد الكتابة بعنوان "زوايا صامتة"
العدد رقم 117
صحيفة صدى المستقبل
وسوم: العدد 839