طوارئ التجديد وعتبات الفقه

* ومن الأمور التي استجدت على الغناء والإنشاد في العصر العباسي بالذات، هو اختلاط هذا الفن بغناء الطرق الصوفية، التي اخترقت هذا الفن وأفسدته بمقولاتها وأغرقته بعقائدها المنحرفة، وقد أشار الإمام الشافعي إلى ذلك عند سفره إلى مصر بقوله ـ تركت بغداد وقد أحدث فيها الزنادقة (الصوفية) شيئاً اسمه السماع)(2) وتأتي شهادة الإمام الشافعي هذه من القرن الثاني الهجري فيما  أفسدته الصوفية (الزنادقة) من الغناء حين ربطت الغناء بالرقص والطرب والمعاني المخالفة للشرع.

* ولما جاء العصر الحديث انطلقت الأنشودة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين، من تراث بسيط يعتمد على بعض الابتهالات والتواشيح الدينية، وكانت بداياتها متقطعة بل مضطربة، ولا تسير على وتيرة واحدة، ولا تملك فقها يُرشد خطاها، ويضبط مسيرة تطويرها، وكانت في أكثرها تعتمد على المنتقى من الأناشيد الصوفية، ثم تطورت بأسلوب القفزات المتباعدة مما أدى إلى تشظيها، لأنها لم ترافقها حركة نقدية تأخذ بيدها وتحاكم خطواتها، وتبين هفواتها، ولا يزال المنشد الإسلامي مستمراً في هذا النهج، لأننا لا نجد نقدا يرافق خطاه، مما يشعرنا بالقلق على مستقبل هذه الأنشودة، أن تصل إلى الطريق المسدود الذي ينهي وجودها.

ولذلك فهي بحاجة إلى وعي الذات، وإعادة البناء على أسس إسلامية مدروسة، بجميع الجوانب الأدبية والفنية والشرعية، حتى تستقل عن انحرافات الأنشودة الصوفية، واعتزالها للحياة العملية ومواجع المسلمين وأحوالهم، وكذلك عن انحرافات الغناء المعاصر، الذي حصر نفسه في الأمور العاطفية، وضخمها في حياة الأمة.

وحتى تحقق هذه الأنشودة متطلبات الدين، ولا تتنازل عن ضرورات الفن الممتع الراقي، وإلا فأنها تفقد مبرر وجودها ودلالة اسمها، وقناعة الناس بها، بعد أن أصبح البحث عن الأنشودة الإسلامية الصافية في وسط هذا الكم المُـنشد، أشبه بالبحث عن دينار من الذهب في وسط كومة من القش.

إن وظيفة المنشد المسلم أن يكشف عن الجمال المخبوء، وسط هذا الركام من الأصوات وأحداث الحياة، من خلال تجليه وظهوره في منهج الإسلام، وفهمه للفن والجمال والحياة.

وبذلك يستطيع الفنان المسلم أن يفك الإرتباط مع الفن الهابط والرقص الصوفي المنحرف، ليحقق طموحه في الاستقلال، عن أمراض الواقع التي علقت في حياة المسلمين في عهود التخلف والإنحراف، ويصنع الفرح في قلب جمهوره، بما يملك من تحقيق الشروط الفنية والشرعية في فنه، وسوف ينجح إذا انطلق من ذاته، وأهمل تقاليد هذا الفن عند غيره، وصنع له تقاليد تتناسب مع قيمه ودينه، لأنه إذا قلد غيره، جعل من هذا الغير وسلوكه قاعدة، وبذلك يبني على باطل ويخدع نفسه عند النتائج، والبحث عن الثمار، ويصنع الغش في ذوق الأمة وإقبالها على الأمور.

3- عتبات الفقه:

أ- العتبة الأولى: (خلاصات مختارة)

من بحث للأستاذ عبدالجبار سعيد / ماجستير في العلوم الشرعية / نشره في جريدة الرباط حول الموسيقى والسماع والحكم الشرعي، استطاع هذا الباحث أن يعطينا الخلاصة العلمية لهذا الموضوع التي نتوقع معالجته بشكل جيد من خلال النقاط التالية:

(1- البعض اجتهد في فهم آية من القرآن الكريم هي ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله)(3) وهي آية لم تصرح من بعيد أو قريب بحرمة الموسيقى، ولا حرمة الآلات الموسيقية ولا حرمة السماع، وإنما هو فهم تفسيري لبعض التابعين أو المفسرين، وكلها لا ترقى إلى مستوى الدليل المحرم.

2- أما أدلة التحريم من السنة، والتي يسوقها القائلون بالحرمة، فهي في غالبها لا ترقى إلى مستوى الدليل، إما لضعفه كالحديث الذي يتوعد السامع (بالآنك) أي الرصاص المذاب، وغيره من الأحاديث التي في رجالها أكثر من مطعن.

3- إن أقوى الأحاديث الواردة في هذا الباب، ما رواه الإمام البخاري (معلقا)  بصيغة الجزم عن شيخه هشام بن عمار، ومن المعلوم أن ما كان معلقاً فلا يصل إلى مرحلة الحديث الصحيح، وهو الذي نصه (ليكونن من أمتي من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف......).

4- القائلون بحرمة الآلات الموسيقية، لم يجدوا علة التحريم، وبعضهم قال: العلة في أنها قد تكون سببا لشرب الخمر وقد تكون سببا للزنا، وهي علل غير منضبطة، ولا تستحق أن تسمى بالعلة، وحتى من اعتبر العزف صفة للآلات فهي غير مقنعة.

5- وأخيراً وليس آخرا، إذا كانت حرمة الآلات الموسيقية قطعية الثبوت واضحة العلة، فلماذا كثرت فيها الاستثناءات، فبعضهم استثنى من الآلات (الدف)، ومنهم من استثنى (الطبل) ومنهم من استثنى (الدربكة) و (المزمار) حتى وصل الأمر إلى استثناء (العود) عند الفقيه ابن العربي المالكي الإمام التقي الورع)(4).

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي )

وسوم: العدد 839