مساقات، بين ابن معقل وابن جِنِّي!
من غرائب مآخذ (ابن معقل الأزدي، -644هـ= 1246م)، في كتابه «المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي»(1)- وهو يَرُدُّ على (ابن جنِّي، -392/ 393هـ=1001/ 1002م)، في شرحه شِعرَ أبي الطيِّب، في كتابه المسمَّى «الفَسْر»- ومن طرائف فهمه للشِّعر، أنْ قال:
«وقوله: نَزَلْنا عَنِ الأَكوارِ نَمشِي كَرامَةً ... لِـمَنْ بانَ عَنهُ أَنْ نُلِمَّ بِهِ رَكْبا
لم يذكُر معنى البيت، وهو من أغرب المعاني وأحسنها. يقول: نزلْنا عن إبلنا نمشي إكرامًا للمَحبوب الذي بانَ عنه؛ أي: لم يَعْلَم أنْ نُلِمَّ به، أي: بالرَّبع، رَكْبًا، أي: لو أَلْمَمْنا به راكبينَ، لم يَعْلَم بذلك لبُعده عنه، ولكنَّنا أَلْمَمْنا به ماشينَ كرامةً له. فأنْ والفعلُ في موضع رفعٍ بأنه فاعلُ «بانَ عنه.«»
وأقول: لم يشرح (ابنُ جنِّي) البيتَ لوضوحه وتقليديته. أمَّا شرح (ابن معقل)، وتفسيره قول أبي الطيِّب: «لِـمَن بانَ عنه» بأنه يعني: لِـمَن «لم يَعْلَم أننا نُلِمَّ به- أي: بالرَّبع- رَكْبًا...»، فتكلُّفٌ خواء من فهم أساليب الشعراء في التعبير والتصوير. وإنَّما أراد الشاعر القول: «نَزَلْنا عَنِ الأَكوارِ نَمشِي؛ إكرامًا للمحبوب- الذي بانَ عَن الرَّبْع مفارِقًا- وتأدُّبًا من أَنْ نُلِمَّ بِرَبْعِهِ راكبين». ففي البيت تقديمٌ وتأخير، وأصله: «نَزَلْنا عَنِ الأَكوارِ نَمشي كَرامَةً للرَّبْع من أَنْ نُلِمَّ بِهِ راكبين، وتلك الكرامة هي لِمَن بانَ عَنهُ، وليست للرَّبْع نفسه». أمَّا أن يقول الشاعر: إنهم فعلوا ذلك على الرغم من أن المحبوب غائبٌ لا يدري عن فعلهم، ثمَّ زعمُ ابن معقل أن في ذلك غرابةً بلاغيَّةً استحسنَها، فليس بشيء. وشتَّان بين البلاغة والبلاهة، يا ابن معقل، غفر الله لك! ثمَّ إن ما استغربتَه، يا صاحب المآخذ، ليس بأغرب من مخاطبة الشعراء، منذ أقدم الشِّعر العربي، رسومَ الدِّيار وجنادلَها، وتقبيلِهم ثراها وأركانها، حنينًا لمن بانَ عنها وكرامةً له! كما قال (مجنون ليلَى):
أَمُرُّ على الدِّيارِ دِيارِ لَيلَى ... أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وذا الجِدارا
وما حُبُّ الدِّيارِ شَغَفنَ قَلبي ... ولَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيارا
وقد التفتَ (عبد الرحمن البرقوقي)(2) إلى المعنى التداوليِّ لبيت أبي الطَّيِّب، في مثل قول (السري الرفَّاء) عن الطَّلل:
نَحْفَى ونَنْزِلُ وهْوَ أَعْظَمُ حُرْمَةً ... مِن أَنْ يُذَالَ بِراكِبٍ أو ناعِلِ
ونُعيد القولَ، الذي زعمناه في مقالٍ سابق: إنَّ (ابن معقل) ما ينفكُّ يبالغ في التماس مآخذه على (ابن جنِّي)، حتى يورده التمحُّلُ مواردَ تبدو فيها مآخذه عليه هو لا له. انظر، من شواهد ذلك، كيف يأخذ على ابن جنِّي شرحه، قائلًا:
«وقوله: وأُوْرِدُ نَفْسِي والمُهَنَّدُ في يَدِي ... مَوَارِدَ لا يُصْدِرْنَ مَن لا يُجَالِدُ
قال: أي: مَن وَقَفَ مِثلَ موقفي في الحَرب، ولم يكن شجاعًا جَلْدًا، هَلَكَ.
وأقول: لم يَفْهم المعنى، وهو: إنِّي أُوْرِدُ نَفسي مَوارِدَ من الحَرب لا يُنْجي فيها الفِرارُ، لِشِدَّتها وضِيقها وصُعُوْبَتِها، ولا يُنْجِي فيها إلَّا الجِلاد.»(3)
والحقُّ أنَّ في عبارة «لا يُصْدِرْنَ مَن لا يُجَالِدُ» معنًى عامًّا، لا يتعلَّق بـ«الفِرار» وحده، وعموميَّتها أشعر من الإلحاح فيها على فكرة الفِرار؛ فمَوارد الهلاك لا تُصدِر مَن يَرِدُها، لا بالفِرار ولا بغيره، ما لم يكن الجِلادُ منجاةَ الواردين. ومن هنا فتفسير (ابن جنِّي)- كما ترى- أنسب وأحصف وأوجز وأشعر.
وكذا قال (ابن معقل) (4):
«وقوله: عَرَضْتَ لهُ دُوْنَ الحَياةِ وطَرْفِهِ ... وأَبْصَرَ سَيْفَ اللَّهِ مِنْكَ مُجَرَّدا
قال: لمَّا رآكَ لم تَسَعْ عَيْنُهُ غيرَك لعِظَمِكَ في نَفسِه، وحُلْتَ بَيْنَه وبينَ حياتِه فصارَ كالميِّتِ في بُطلانِ حواسِّهِ إِلَّا مِنك.
وأقول: وهذا الذي ذَكَرَه ليس بشيء!
والمعنى: أنَّ الدُّمُسْتُقَ لمَّا رأَى سيفَ الدَّولة خافَ منه؛ فلِشِدَّةِ خَوْفِهِ كأنه حالَ بينَ طَرْفِهِ وحياتِه...».
وفَهْمُ (ابن معقل) مُسِفٌّ عن فهم (ابن جنِّي)، ومع ذلك فهو يرى قول ابن جنِّي ليس بشيء عند قوله! فما الجديد في قول ابن معقل: «إن الدُّمُسْتُقَ خاف من سيف الدَّولة، فكأنَّه حالَ بينَ طَرْفِهِ وحياتِه»؟! وليس هذا سِوى تكرار لبعض عبارة ابن جنِّي، بل تكرار لقول الشاعر نفسه: «عَرَضْتَ لهُ دُوْنَ الحَياةِ وطَرْفِهِ»! على حين شمل تفسير ابن جنِّي: معنى عِظَم الممدوح، حتى لم يَعُد الدُّمُسْتُق يرى سِواه. والقول: إن حيلولة الممدوح بين الدُّمُسْتُق وطَرْفه حيلولةُ فَناء، لا حيلولة نَظَرٍ فقط. كيف لا وهي حيلولة سيفٍ بتَّار، في حَدِّه الحَدُّ بين الحياة والموت!
فأيُّ التفسيرين ليس بشيءٍ، يا (ابن معقل)؟!
بل بلغ الأمر بـ(ابن معقل) مبلغَ الجهل، أو التجاهل، شغفًا بأن يعيب (ابن جنِّي). حتى ليقول:
«وقوله: رَأَيْتُكَ مَحْضَ الحِلْمِ في مَحْضِ قُدْرَةٍ ... ولو شِئتَ كانَ الحِلُمُ منكَ المُهَنَّدا
قال: أي حِلْمُكَ عن الجُهَّال عن قُدْرَةٍ، ولو شِئتَ لَسَلَلْتَ عليهم السَّيفَ.
وأقول: الجَيِّدُ لو قال: (لقَتَلْتَهُم) بالسَّيف.»(5)
أتُراه لا يعرف أن عبارة «سَلَّ السَّيف» كناية تتضمَّن معنى «القتل» وزيادة؟! فكيف استجادَ عبارته المباشرة القميئة: «لقَتَلْتَهُم» على عبارة (ابن جنِّي) البلاغيَّة: «لسَلَلْتَ عليهم السَّيف»؟!
وختامًا، فإن المتأمِّل في مآخذ (ابن معقل) سيلحظ أن نحويَّة الرجل قد جَنَتْ على الذوق الأدبي لديه، إنْ وُجِد. ولا أدلَّ على غيابه من منظوماته الضعيفة، التي كان يَعُدُّها من الشِّعر، وما هي منه. أضف إلى هذا نزوعه النفسي، المشار إليه سابقًا، لتخطيء الشُّرَّاح، ربما لكي يحظى- واقفًا على مشارف عصر «المستدركات» و«الموسوعات» و«الحواشي» و«التعليقات»- بمثل ما حظي به غيره من أعلام تلك القرون. هذا فضلًا عمَّا كان بينه وبين (ابن جنِّي)، خاصة، «ممَّا صنع النُّحاة»، من أسنَّة المِراء والتلاحي، فجاء تحاملُه عليه وعلى شرحه لافتًا جِدًّا(6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (2003)، المآخذ على شُرَّاح ديوان أبي الطيِّب المتنبِّي، تحقيق: عبد العزيز بن ناصر المانع (الرياض: مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلاميَّة)، 1: 21- 22.
(2) (1986)، شرح ديوان المتنبي، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 1: 182.
(3)، (4)، (5) ابن معقل، 1: 50، 54- 55، 56.
(6) انظر شواهد هذا التي رصدها محقِّق المآخِذ في مقدمته، 1: 56- 58.
وسوم: العدد 840