الشاعر الداعية محمد منلا غزيل: حياته – 1
(1355 ـ 1437 هـ) = ( 1936- 2016م )
هو الشاعر الإسلامي المعاصر محمد منلا الدرويش غزيل الذي يعدّ في طليعة الشعراء الذين ساروا على منهج الأدب الإسلامي، نهل من ديباجة البحتري الصافية، حتى لقبه أحد أساتذته بالبحتري الصغير، وقد منحت مدينة منبج الأمة العديد من الشعراء المبدعين المتميزين قديماً وحديثاً، فهي مدينة الشعر والشعراء بحق، ففي ربوعها درجَ دوقلة المنبجي، وعمر أبو ريشة، ومحمد منلا غزيل، وعبد الله عيسى السلامة، وحسن النيفي، وعليان، ومصطفى الزايد، وسيد أحمد السيد.. وغيرهم كثير.
ولادته ونشأته:
ولد محمد منلا الدرويش الغزيل في منبج من أعمال حلب في سورية عام 1936م. وينتمي الشاعر إلى قبيلة ( الغلاظ )، وهي إحدى قبائل ( الشواهرة ) التي تعود إلى (الدمالخة) التي تدعي أنها من نسل الحسين - رضي الله عنه-.
وأما أمه فهي الحاجة (فضة المحمد الحاج نعسان) من قبيلة النعيم المشهورة، وما يزال الشاعر يذكر ذكرى أليمة، عندما عاد في السابع من آذار عام 1952م من محاضرة الأستاذ خليل الهنداوي بدار الكتب الوطنية، انتهت إليه مكالمة هاتفية تخبره أن أمه مريضة، وتدعوه إليها، فخفّ إليها، غير أن المنية عاجلتها في صباح العاشر من آذار، وكان لوفاتها جرح غائر في نفس الفتى ، استطاعت الأحداث الأليمة – فيما بعد- أن تغطي عليه، وقد كتب عنها فيما بعد أقصوصة بعنوان ( الأم الطيبة) لتنشر في مجلة ثانوية العروبة للبنات بحلب، وفيها وصف حي للحظات الوفاة، ولم ينظم قصيدة رثاء فيها .
وهو يفتخر ببلدته كثيراً، ويحنّ إليها كلما ابتعد عنها ..ويرى فيها كل الأماني .
ولمنبج الأثر الكبير في نفش شاعرنا ونتاجه وروحانيته، فقد ألهمته الصفاء والأصالة، وأعطاها كل الثقة واليقين، وقد صمم في فترة ما ..عدم متابعة الشعر ..لكنه لم يستطع ذلك ..إذ عاد إليه يذكيه بقريحته .
وكان يلقب الشاعر غزيل في منبج بالبحتري الصغير.
دراسته، ومراحل تهليمه:
تعلم محمد منلا غزيل القرآن في كتّاب الشيخ (عبد الرحمن الداغستاني).
ثم درس الابتدائية في مدرسة قريبة من داره تسمى نموذج منبج، وذلك عام 1950 م، وكان من التلاميذ المتفوقين وخاصة في المواد الأدبية .
ثم حصل على الإعدادية بتفوق عام 1954م .
درس الثانوية في مدرسة المأمون، ثم درس في المعري، ثم درس في ثانوية سيف الدولة، ثم في مدرسة هنانو بحلب، وحصل على الشهادة الثانوية عام 1957م .
وحصل على الإجازة في الآداب قسم اللغة العربية من جامعة دمشق 1961 م.
وحصل على دبلوم عامة في التربية من كلية التربية بجامعة دمشق 1962 م.
أساتذته، وشيوخه:
تلقى التعليم على أيدي أساتذة أكفاء، نذكر منهم: الشيخ أحمد عز الدين البيانوني، وإسماعيل حقي الذي لقبه بالبحتري الصغير، والأديب القاص فاضل ضياء الدين: الذي كان له تأثير خاص في تنمية موهبته الأدبية، وتشجيعه بإعطائه العلامة التامة (مئة من مئة) في مادة اللغة العربية، ومظفر سلطان صاحب كتاب (العماد الأصفهاني)، وهو رسالة ماجستير في الأدب، وكذلك كان من أساتذته عبد الوهاب الصابوني.
ومن أبرز أساتذته في الدعوة والحركة الإسلامية الشهيد سيد قطب - رحمه الله-، والإمام المودودي حيث التهم كل ما وصل إليه من كتب الإمامين في العلم والأدب والفكر والدعوة، وتأثر بأسلوبهما.
ثقافته، وحبه للمطالعة:
وأما حبه وشغفه بالكتاب، فحدث ولا حرج، فهو منذ شبابه المبكر كان يتردد على دار الكتب الوطنية في حلب باستمرار، يطالع الصحف والمجلات والكتب الأدبية، ودواوين الشعراء المحدثين، ومما أعجبه في هذه المرحلة من العمر: أغاريد ربيع بلبل، وعذارى لعمر موسى باشا، وعلى بساط الريح لفوزي معلوف، وكان لهذه المطالعات الخاصة، والكتب المدرسية، ولتشجيع الأستاذ فاضل ضياء الدين، وللمحاضرات والأمسيات الأدبية التي كان يحضرها بدار الكتب كان لهذا وذاك أثره الكبير في نمو موهبته الأدبية، وتفتح ينابيع الإلهام الشاعري وتفجرها في نفس الفتى، فانطلق يكتب الشعر المنثور بغزارة. وينشر منه بكثرة – كما تقدم- فلفت انتاجه الخصب منذ عام 1952م الأنظار إليه، وتوقع له عارفوه مستقبلاً أدبياً باهراً.
وبقي الكتاب رفيقه وجليسه حتى آخر لحظة من عمره، وكان من عادته أن لا يحتفظ بالكتاب فهو بعد أن يقرأه يهديه لطلابه ومحبيه، وقد أهداني أكثر من كتاب منها تفسير سورة الكوثر للشيخ عبد الله سراج الدين.. وغيره.
انضمامه إلى الإخوان المسلمين:
وفي حزيران 1954م بدأ انتاج الشاعر يتخذ لنفسه مساراً آخر جديداً، يتسم بالطابع الإسلامي المتميز، سبقه وتبعه سلوك إسلامي متميز، إذ انتمى إلى كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث، إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكان نقيب أسرته د. فخر الدين قباوة، حفظه الله، وإذا الفتى يشب عن الطوق، ويعي طبيعة انتمائه هذاـ، وخطورته، فتمتد يده إلى ابنه البكر ( طفولة قلب)، ويضرم النيران فيه، باليد نفسها التي طالما تعبت في تدبيج كلماته، ولسانه ينشد بعد قلبه:
مزقتها ذكريات الأمس واندثرت طفولة القلب في دوامة الندم
كراسة الشعر شعر الأمس من غزلي بين الرماد طوتها جذوة الكلم
واليوم أحلى أغاريدي وأعذبها ما زفّه ملهم الإيمان والشمم
يا أيها القلب، فاستمسك بعروته لقد حظيت بحبل الله فاعتصم ِ
ومنذ ذلك الوقت جعل شعاره: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون مالا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
لقد حمل الشاعر محمد منلا غزيِّل هم أمته، وجعل أمر إصلاح مجتمعه والتصدي لمحاولات التخريب التي يمارسها النظام عبر حزب البعث وفكره الاشتراكي المعادي للدين والأخلاق همه ورسالة حياته؛ فشغل جلَّ وقته في نشر رسالة الإسلام، والقيام بدور اجتماعي وتكافلي ضمن حدود استطاعته.
وتعرَّض لأذى النظام ومضايقته، واستدعائه للتحقيق والمسائلة والاعتقال، إلى أن اعتقل عام 1980م وتعرض للتعذيب الشديد، حيث بقي شهراً طريح الفراش بعد خروجه من السجن، وبقي إلى آخر حياته ملاحقًا، ووضع تحت المراقبة والمنع من الخروج من بلدته.
كان للصدح بالحق جزء كبير من انتاجه الأدبي، وهو صاحب القصيدة المشهورة (بعقيدتي) والتي من أبياتها:
سيزول ليل الظالمين *** وليل بغيٍ مجرم
سيزول بالنور الظلام *** ظلام عهد معتم
وسيشرق الفجر المبين *** ويرتوي القلب الظمي
أعماله، ومسؤولياته:
عمل الأستاذ محمد منلا غزيل مدرساً لمادة اللغة العربية في ثانويات محافظة حلب من 1962 – 1969م.
ثم أحيل إلى التقاعد لأسباب صحية..، وكان يخطب الجمعة في مسجد عقيل المنبجي وغيره من مساجد منبج العامرة حتى جاء عام 1980م فألقى خطبة حضرها وزير الأوقاف محمد الخطيب تحدث فيها حول الدين النصيحة، وطلب من الوزير أن ينصح الرئيس إن أخطأ فكانت آخر خطبة له إذا طلب الوزير إيقافه عن الخطابة.
وعاش غزيل بقية عمره عيشة الزهد والكفاف، ولم تعطه الحكومة سوى جزء بسيط كراتب تقاعدي.
من دواوينه الشعرية:
1 - في ظلال الدعوة: صدر عام 1375ه/ 1956 م . وقد ضمنها الشاعر 20 قصيدة، وفيه يبدأ الشاعر: حياتي، فجر الدعوة، تيار، قبسات من شعلة الذكرى، رحلة النور، والإيمان والإشراق والقافلة وهذه عناوين قصائد في الديوان.
كتب الشاعر هذه القصائد في نهاية المرحلة الثانوية، ونجد فيها أن الشاعر يحمل همّ الدعوة، والدفاع عن العقيدة، فهو يدعو الشباب إلى درب الحق، ومحاربة الباطل، واستئصال جذور الفساد ليبزغ الفجر من جديد على يد زمرة مؤمنة صادقة تحمي العقيدة وتبلغ دعوة الله.
2 - الصبح القريب: وهو ديوانه الثاني - صدر عام 1378ه/ 1959 م، وقد ضم 19 قصيدة .
في نهاية المرحلة الجامعية كان الشاعر على موعد مع مجموعته الثانية لتخرج إلى النور.
فأصدر الصبح القريب وفيه تناول جهاد الأمة العربية والإسلامية، وتجاوز الحدود الإقليمية فمجد جهاد الجزائر، وقارن فيه بين الأمس واليوم، ودعا إلى الجهاد والوحدة والبطولة، وهدم الجسور وإزاحة الحدود، لتعود الأمة إلى سابق عهدها، وكانت قصائده نبراس الكفاح، وتحية، وحنين، وهذه عناوين قصائد في هذا الديوان.
3 - الله والطاغوت: أصدر الشاعر ديوانه الله والطاغوت عام 1381ه/ 1962 م، وقد ضم 11 قصيدة، منها: الفرات والنواة، خيام الغجر، في سبيل الله، الحرف والمعركة، الركب والحداء، وفي هذه المجموعة يمزج الشاعر بين الحنين إلى بلده منبج وتغنيه بحبه الأول، وبين حنينه إلى عودة أمته إلى سابق عهدها من القوة والعزة والمكانة المرموقة بين الأمم.
4 - اللؤلؤ المكنون: صدر في عام 1962 م .وهو يضم مجموعاته الشعرية الثلاث، آنفة الذكر، مضافاً إليها ديوانه الغزلي (طفولة قلب) أو بعض قصائده .
5 - طاقة الريحان: بعد انقطاع الشاعر عن كتابة الشعر لمدة ثمان سنوات لأسباب مرضية، أصدر الشاعر ديوان طاقة الريحان عام 1394ه/ 1974 م .وقد ضمت 10 قصائد، منها طاقة الريحان، متاع، ذكرى وقعة بدر، نفحة خالدة .
وفي هذه المجموعة تلمح الأمل والتفاؤل والبشرى حيث ينطلق الشاعر فيكتب الكلمة الحرة والقصيدة المعبرة عن الغد المشرق حين يصور الغد بأنه آت لا شك فيه؛ لأنه موعود الله ورسوله.
6 - البنيان المرصوص: وبعد عام واحد من إصدار مجموعته الرابعة أصدر المجموعة الخامسة البنيان المرصوص عام 1975 م .وقد ضمت 9 قصائد، منها: صدقت يا شاعر الأنصار، نداء المعركة، لون من الرثاء، العطايا الخمس.
ويتغنى الشاعر في هذه المجموعة بذكرى ميلاد الرسول، وتمجيد ذكرياته وانتصاراته، ويؤكد على أن النصر قادم لا محالة ولن يكون ذلك إلا بالجهاد والبذل والشهادة والدفاع عن دين الله وعن الرسالة والرسول وحماية كرامة الأمة.
7 – اللواء الأبيض: وبعد ثلاث سنوات أصدر الشاعر مجموعته السادسة عام 1978م. وقد ضمت 7 قصائد، وهي:
إن كان قال فقد صدق، البراق الأبيض، هوامش نقشبندية على أوراق وهابي، بطاقة إلى صديق مجهول.
8- الراية: ذكره الأستاذ أحمد دوغان في كتابه الحركة الشعرية في حلب، وقال عنه: إنه يضم آخر إنتاجه، ولكن حسب ما علمت من الأستاذ محمد غزيل وغيره أن هذا الديوان لم ير النور.
9– طفولة قلب: وهي المجموعة الشعرية السابعة، وقد ضمت شعره الغزلي – صدر عام 1373ه/ 1954م- مزقها الشاعر بعد التزامه الإسلام منهجاً في الحياة.
10– الأعمال الشعرية الكاملة: صدر عن دار السلام للطباعة والنشر عام 1978 م، وهذه المجموعات الشعرية ضمت حوالي / 80 / قصيدة، وتقع في 270 صفحة من القطع المتوسط. وقد أعاد طباعتها الشاعر حسن النيفي في جزأين صدرها بمقدمة نقدية وذلك عام 2007م.
وله مقطوعات شعرية ألقاها في المناسبات المختلفة كذكرى المولد، والهجرة، والإسراء، ومجالس العزاء.
ومن تلك القصائد:
-قصيدة تحت عنوان المنديل الأخضر التي نشرتها جريدة الجهاد الحلبية عام 1952م.
-قصيدة شهرزاد التي نشرتها الميادين الدمشقية عام 1952م.
-قصيدة ظلال التي نشرها عام 1953م وكذلك كتب في نفس العام قصيدة حطام، وحكايات، ومن الأعماق.
وفي مجال النثر، له:
لم يتوقف عطاء الأستاذ محمد منلا غزيل على الأعمال الشعرية، بل تعداه إلى الأعمال النثرية، فكان يخطب الجمعة، ويلقي المحاضرات الثقافية، وينشر المقالات في المجلات الإسلامية الصادرة في سورية والأردن، فإلى جانب هذا الإنتاج الشعري كان يكتب في مجلة حضارة الإسلام بعض المقالات التي جمعها في ثلاثة كتب نثرية، وبعضها ما يزال مخطوطاً ينتظر من يفرغه من المسجلة وأقراص الحاسوب، ومن أهم كتبه المطبوعة:
1 – في رحاب الأدب العربي: مجموعة محاضرات ألقاها الشاعر في المركز الثقافي العربي في منبج خلال السبعينات، وقد صدر عن المكتبة العربية بحلب من القطع المتوسط وذلك عام 1398ه/ 1978م، وتحدث فيه عن شاعر الرسول حسان بن ثابت، والبحتري، وأبي فراس الحمداني، وأحمد شوقي، كما تحدث عن الأديبة أمينة قطب، ..
2 – على طريق الوعي الحضاري الإسلامي: صدر عن المكتبة العربية بحلب عام 1398ه/ 1978م، تناول فيه 11 مقالاً عن الحضارة كان قد نشرها في مجلة حضارة الإسلام الصادرة في دمشق، تحدث فيها عن الفكر العربي والإسلامي وأبعاد الوعي، والوعي الحضاري في وجه الصهيونية ..
3- كلمات على طريق الوعي الحضاري: صدر عن المكتبة العربية بحلب، وقد ضم الكتاب تسع مقالات، وهو من القطع المتوسط، نشره عام 1978م .
4 – حول المسألة الحضارية وبعدها الثقافي: رسالة صغيرة حوت محاضرة ألقاها في المركز الثقافي بمنبج، وقد صدرت عن مكتبة الفتح بدمشق، وهي من القطع الصغير، عام 1392ه/ 1972م. ناقش فيه فكرة الصراع العربي الإسرائيلي وكيفية إيقاظ الفكر لتحرير الأرض.
5-قراءة معاصرة للحكم العربية في التراث الإسلامي: بياناً وعرفاناً وبرهاناً: وهي محاضرة ألقاها في المركز الثقافي العربي في منبج وذلك عام 1999م.
بالإضافة إلى عدد من الدراسات التي نشرها في الصحف، ولا سيما في مجلة حضارة الإسلام وغيرها من المجلات السورية والعربية، ولم يجمعها في كتاب.
عزوفه عن الزواج:
أحبّ الشاعر في صباه فتاة من منبج، وقال فيها قصائد غزل عذري، ولكنها تزوجت، وتركته يعيش مع الأحلام، ثم أحب فتاة من دمشق كان يسميها (نجمة قاسيون)، ولكنه صدم بعد زواجها من غيره، فأقلع عن الزواج بعد ذلك، وبقي عزباً لينضم إلى فئة العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج، أمثال: بشر الحافي، والمعري، وابن تيمية، والنووي، والعقاد، وسيد قطب.
يوم تكريم، ووفاء:
وحين بلغ الأستاذ الشاعر محمد منلا غزيل سنّ السبعين تداعى بعض علماء وأدباء حلب وريفها لإحياء حفل تكريم الأديب الداعية محمد منلا غزيل، وقد كتب الأستاذ عبد الستار إبراهيم السعيدي ما قيل في ذلك الحفل ونشره في كتابه فارس القوافي محمد منلا غزيل، وقد طبع الكتاب في دار الإصلاح – لصاحبها الحاج يحيى استانبولي- رحمه الله-، وكتب د. إبراهيم الديبو مصوراً ما جرى في تلك الحفلة: ( لعل العنوان يبدو غريباً لأول وهلة ومثيراً للاهتمام لدى محبي الأستاذ الأديب، والشاعر والداعية محمد منلا غزيل، فكل من يتابع أخباره ، ويطلع على أحواله يعلم بأن الأستاذ لم يتزوج، وأنه آثر العلم على الزواج كما هو شأن بعض الأدباء والمفكرين والعلماء الذين عاشوا مع كتبهم وأفكارهم بعيداً عن ضوضاء الحياة الزوجية ومشاغلها.
وقد يتساءل من يقرأ هذا العنوان: ما حقيقة هذا العرس ؟ ومتى ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ أسئلة كثيرة أجيب عنها، وأقول: لم يكن عرس الغزيل كما عهدتم من الأعراس، حفل غناء وطبل ورقص، ولم يكن هناك عروس تزف إليه، وهو ابن السبعين، زهد بها في شبيبته وآثر عليها حياة الزهد والانقطاع إلى كتبه وأفكاره، فعرسه اليوم من لون جديد، وهو أقرب إلى نفسه وطبيعته الخاصة، وينسجم مع ما قدمه، وبذله، إن عرسه في الحقيقة كان يوم تكريمه, يوم كانت منبج ساحة استقبال للوفود القادمين من حلب، والباب، وجرابلس.. وغيرها من المدن والقرى، كلهم قدموا ليشاركوا الأستاذ المربي بيوم تكريمه والاحتفاء به، وذلك بدعوى من مديرية الثقافة بحلب بالتعاون مع المركز الثقافي في منبج مساء يوم الاثنين الموافق 3/12/2007م، الساعة السادسة مساء في قاعة المحاضرات بالمركز الثقافي العربي في منبج، وكان في مقدمة الحاضرين والمكرِّمين: الأستاذ عبدو محمد رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب بحلب، والأستاذ محمد كامل قطان مدير الثقافة بحلب، والأستاذ الدكتور بكري الشيخ أمين، والأستاذ الدكتور عمر دقاق، والأستاذ الباحث محمود فاخوري، والأستاذ الدكتور عبد السلام الراغب، بالإضافة إلى مشاركة عدد كبير من الدكاترة، والباحثين، والشعراء، والمحبين للأستاذ الغزيل، وقد جمع يوم تكريمه بين أطياف المجتمع المختلفة: رجال السياسة، والأدب، والفكر، والشريعة، ولا يمكن لأمثالهم أن يجمعهم إلا رجل له مكانة في نفوس الجميع كالأستاذ الغزيل الذي عرف بسماحته وحبه للجميع وقبوله للآخر الذي اختلف معه.
فيوم الاثنين كان يوماً مشهوداً لم تعرفه منبج ولا مركزها الثقافي من قبل، فمسرح المركز الثقافي الجديد مع اتساعه لم يستوعب القادمين والمشاركين، وهذا دليل حب وتقدير واعتراف بالفضل للشاعر المكرَّم، ولعل أعظم شيء أدخل البهجة إلى نفس الأستاذ الغزيل ما رآه أمام عينيه من ذلك الحب وتلك الحفاوة البالغة من قبل أولئك الضيوف والمشاركين الذين يتبوؤون مكانة علمية عالية في الشعر والأدب والسياسة ، فكانت شهادتهم أعظم وسام له وكان تكريمهم له تكريما لرجل قدم الكثير لأهل بلدته ولوطنه، فكنا نشعر بالغبطة، ونحن نسمع تلك الشهادات، ونصغي لكلمات الثناء على الأستاذ الشاعر، ونرى أن التكريم كان لمنبج وأهلها من خلاله، وأن منبج في هذا اليوم قد توشحت وشاح الكرامة والتقدير.
وقد تناول المشاركون في كلماتهم صوراً من حياته وزهده وشعره وأدبه، مع اعترافهم بأن كلماتهم لا توفيه حقه، وهي شهادة اعتراف بفضله وجهده وتميزه على الجانب الأدبي والجانب الإنساني، ويمكن أن أجمل أهم ما تناوله المتحدثون وذلك في عدة نقاط:
- الأستاذ الغزيل له منهجه الخاص في الحياة وطريقته في الزهد أقرب ما تكون إلى طريقة أبي العلاء المعري.
- القضايا التي طرحها في شعره كانت تحمل لمسات إنسانية تقارب ما جاء في شعر الصعاليك، بعيداً عن الإيحاءات الخاطئة من كلمة الصعاليك.
- كان متميزاً في شعره ومتفرداً في أسلوبه، ولم يكن مقلدا لغيره.
- كان شعره مرآة لنفسه، ويكشف عن ثقافة واسعة واهتمام كبير بقضايا الأمة والمجتمع.
- تميز بالعفوية والاستطراد، والتنقل بين الأفكار والمسائل دون أن يشعر مستمعه بالملل.
وأرى أن ما ذكر مع أهميته لم يتناول كل جوانب شخصيته، ولم يلق الضوء على أشياء مهمة في حياته، فكان تركيز المتحدثين على شعره وأدبه، ومن المعروف بأن الأستاذ الغزيل قد توقف عن كتابة الشعر بعد عام 1978م فلم يصدر له بعد ديوانه اللواء الأبيض أي عمل شعري وأدبي، فكان ما قدمه حتى ذلك التاريخ محور الحديث والكلام لدى المشاركين، وهو جانب تاريخي يمكن أن نطلق عليه" غزيل التاريخ والذكرى"، وبذلك تم إغفال جوانب أخرى من حياته يمكن أن نطلق عليها " غزيل اليوم والمستقبل"، وهي تحتاج أن نبرزها، ونتكلم عنها, فالأستاذ الغزيل أهل للتكريم لشعره وأدبه, وأهل للتكريم لجهوده الدعوية والاجتماعية، استحق التكريم لماضيه، ويستحق التكريم أيضاً لحاضره، استحق التكريم كأديب وشاعر ويستحق مثل ذلك كداعية ومربي ومهتم بمجتمعه، وإن كنا نعذر الأساتذة المتحدثين الذين قدموا من حلب ليشاركوا في تكريمه أنهم لم يتناولوا الجانب الآخر من حياته فلا يمكن أن نعذر المشاركين من أهل بلدته الذين عرفوه، وعايشوه لسنوات عديدة، وهم يشهدون له في كل يوم نشاطاً دعوياً من خلال مشاركاته في مناسبات العزاء والأعراس والمناسبات الدينية والاجتماعية المتنوعة والندوات والمحاضرات.
شغل نفسه الأستاذ الغزيل منذ الثمانينيات بهموم الدعوة الإسلامية، وحافظته التي تميز بها في مجال الشعر والأدب لم تخنه أيضاً في مجال الحديث والآثار والتاريخ والأمثال، فكان يتنقل بين رياض العلم والدعوة، وهو يحمل هم الإصلاح والتغيير، فكان شاعر الدعوة أولاً وكان يفتخر بما قاله له الشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله تعالى-: " يا بني كان حسان شاعر الدعوة في أيامه فكن شاعرها اليوم" ثم أصبح ثانيا الداعية الشاعر، فشغلت الدعوة مكان الصدارة في اهتماماته، ترك نظم الشعر، وفرغ نفسه لأمر واحد لم يفارقه أبداً، وهو: الدعوة الحسنى للإسلام، والاهتمام بقضايا المسلم المعاصر، والسعي إلى تثقيفه وتزويده بأدوات الفهم، وغرس هم الإصلاح في نفوس الشباب، ولم يكن في ذلك تقليدياً أبداً بل كان شخصية مبدعة وذهنية متفردة، يرتقي باهتمامات الناس وثقافتهم، فكم رأينا من دعاة لم تتجاوز ثقافتهم حدود البلدة التي هم فيها، ولم ترتق أفكارهم إلى مستوى الإبداع والتميز، فهناك سقف معرفي لا يستطيع أحدهم أن يتجاوزه، وهناك مسلمات في المنهج والفهم يصعب عليهم أن يغيروا فيها أو أن يتجاوزوها، فهم صالحون لأنفسهم ومؤثرون في غيرهم ولكن على مستوى بسيط محدود، أما أصحاب التفرد والإبداع فهم صالحون لأنفسهم ولغيرهم وتأثيرهم يتجاوز الحدود المعهودة، ويؤسس لاهتمامات أكبر وثقافة أوسع، فهؤلاء هم الذين يستحقون التكريم، وهم قلة عرفنا منهم في بلدتنا الشيخ جمعة أبو زلام، وهو عالم ومصلح ومربي والشاعر يوسف عبيد -رحمهما الله تعالى- ومن المعاصرين الأستاذ الشاعر محمد منلا غزيل صاحب التكريم، والشاعر حسن النيفي.
فتكريم الغزيل هو عرس له رأى فيه تكريماً للأدب والشعر والإبداع والمبدعين، فرجل يقدم كل ما عنده لخدمة دينه ومجتمعه وأهل بلدته يستحق هذه الحفاوة، ويستحق أن تسمى قاعة المطالعة في المركز الثقافي في منبج باسمه –، وقد أوعز بذلك الأستاذ محمد كامل قطان مدير الثقافة بحلب-، وهو الذي عرف بنهمه الشديد في المطالعة والقراءة في المركز الثقافي حتى قيل بأنه قرأ كل ما حوته المكتبة من كتب، فهو أهل للاحترام والوفاء، فمهما اختلفت معه لا بد أن تجله وأن تجل فيه كل جهد ونشاط لم يضن به على أحد.
حياة الغزيل اليوم هي استمرار للمنهج الذي سار عليه في شعره، وهو الكدح في الدعوة والجهاد، وإذا أردنا أن نفصل بين مرحلتين من حياته، فيمكن القول: بأنه نظَّر أولاً، ثم طبق ثانياً، فشعره الذي طبع منذ سنة 1956م حتى 1978م يمثل الجانب النظري في حياته: دعوة إلى الجهاد والعمل ونشر الهداية، ونصرة الحق والعدل والفضيلة، وقد شغل نفسه بتأصيل ذلك في شعره فاتضح أمامه السبيل، ثم توقف عن نظم الشعر، وبدأ مرحلة العمل والتطبيق، وهي المرحلة الممتدة من 1978م حتى هذا التاريخ، ولنا الآن أن نشير إلى أبرز سمات هذا الطريق الذي دعا إليه ففي قصيدة الركب والحداء يبين لنا أنه اختار سنة الكدح والسعي لنشر الخير والهداية، فقال:
سنة الكدح نهجنا مذ خلقنا مذ وعتنا الآجيال والآزال
وقد ذكَّرته مرة بما قاله الإمام الغزالي بعد أن اختار حياة العزلة:
- تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل وعدت إلى تصحيح أول منزل
- ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل
- غزلت لها غزلا رقيقا فلم أجد لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
فقلت له أما آن للغزيل أن يضع مغزله ؟ فقال: لا يمكن أن أكسر مغزلي وأترك الغزل أبدا، فهو وفيّ لعهده وطريقته، لذلك كان يجاهد بكلمته في كل مكان يحل فيه، ويرى أن الهزيمة ليست من سجايا الصادقين المؤمنين وهو الذي يقول في قصيدة لهيب:
- طه العظيم رسول الله لقننا أن الهزيمة ليست من سجايانا
فحياته اليوم عمل خير نافع لأهل بلدته ولغيرهم، يقدم العلم والأدب والفكر، ولا يبخل بما يصل إليه من مال- وهو قليل- بل ينفقه في نشر العلم والسعي إليه ومساعدة المحتاجين، وقد ذكر الأستاذ الكبير عبد الرحمن عقبة في مداخلة قصيرة يوم تكريمه أنه منذ سنوات زار صديقا من أهل الأدب كانت له صولة وجولة، وكان له اسم ومكانة، ثم تغير حاله ودبّ به المرض، ولازمته الحاجة والفاقة، وعندما سأله عن حالته أخبره بأن الأستاذ الغزيل يزوره في كل شهر ، ويقدم له ألف ليرة سورية، فهذه صورة عرفها الأستاذ عبد الرحمن عطبة، وهناك صور كثيرة وأمثلة لا تحصى اطلع عليها بعض المرافقين له، وسائقوا السيارات التي يصطحبها في تنقلاته اليومية، وقد أخبرني أحدهم بأشياء كثيرة وقال بأن الأستاذ الغزيل كان يصطحبني لأماكن لم أزرها ، ولم أعرفها من قبل فكان يزور المرأة العاجزة والأرملة والفقيرة وصاحب الحاجة ويقدم لهم المساعدة المالية أو العينية، كما أخبرني بعض الزملاء بأن الأستاذ الغزيل كان لا يترك مالا زائدا يبيت عنده، فكان يأتي إلى أصحاب البقاليات، ويقول لأحدهم افتح لي دفتر الحساب، وانظر إلى أصحاب الديون، وخذ هذا المال وفاء لديونهم وهو لا يعرفهم ، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره لي صديق بأن حالته المادية قد ساءت وأن له أياد على كثير من الناس ولكنهم تنكروا له ولم يكن أحد منهم يشعر بحاجته ويقدم له المساعدة إلا الأستاذ محمد منلا غزيل، ومكتبات طلاب العلم في منبج مدينة له، فكلما رأى طالب علم قدم له هدية يحملها في يده كتاب علم أو شريط كاسيت أو سيدي للكمبيوتر.
فهذه أمثلة قليلة تؤكد كم كان يحمل في قلبه من إنسانية وحب لأبناء دينه ووطنه، وقد كشف عن ذلك الحب في قصيدته راية الأنصار، فقال:
يا إخوة التوحيد يا أصحابنا الأحرار يجيش في أعماقنا من حبكم تيار
فهذه المعاني التي عاش لها الأستاذ الغزيل هي من وحي إيمانه وثقته برسالة الإسلام، فكان همه الأول أن تسود العدالة والهداية على الأرض، فما كان يشغله ملبس أو مطعم أو مظهر، بل كان يتطلع إلى زيتونة الإيمان التي أشار إليها في قصيدته الله والطاغوت:
- زيتونة الإيمان إن صباحنا قدر سيطلع رغم كل جبان
فكان يتطلع إلى صباح الإيمان تحمله القلوب الطاهرة التي ارتوت من هداية القرآن فكان يخاطبها في قصيدته السابقة، فيقول:
- وامشوا على النهج القويم فإنكم أهل القيادة في بني الإنسان
- إبليس لن يقوى على أسواركم مادام يحميها هدى القرآن
وكان يحضها على الجدية في العمل والحفاظ على الفطرة، فيقول في قصيدته الحرف والمعركة:
- رسالة الحرف تأبى أن نضيعها سدى هباء مع الأوهام لاهينا
- لا لن نمرغ في الأوحال فطرتنا مادام نور كتاب الله يهدينا
ثم يذكرها بتكريم الله لها فيقول في قصيدته الله والطاغوت:
- يا أمة شاءها الرحمن هادية ما أنت لولا كتاب الله لولاه
كلمات مزجت بالنور استلهما من كتاب الله تعالى، وجعل منها رسالة يحملها، ويحمِّلها، يهدي بها، ويهتدي، فشعره يحمل رسالة، وهو أول من يعمل بها، ويدعو إلى فضيلة، وهو أول من يتخلق بها، فشاعر يقول، ويفعل يأمر، ويأتمر ينهى، وينتهي تجله النفوس، ويستأهل منا أن نحتفل بعرسه يوم تكريمه.
أخلاقه، وصفاته:
اشتهر الشاعر محمد منلا غزيِّل أنَّه عفيف النفس عزيزٌ أبيٌ، رغم ما مرَّ به من ظروفٍ قاسيةٍ بسبب حصار النظام له وفصله من عمله، فعاش حياة الكفاف مختارًا، وكان عطوفًا على غيره متصدقًا مادًا يد العون والمساعدة مع ما فيه من ضيق ذات اليد، صادق العاطفة، رقيق القلب، جريئًا في الحق، صاحب قلب صاف من الضغائن والأحقاد؛ علاقته طيبة مع الجميع يحضر مجالسهم ومناسباتهم بكل تواضع وسعة صدر .
تميز بالذكاء والقدرة على الإبداع واستحضار الحجة، وكان حافظة جامعة تجمع أرقاماً وتواريخ وأسماء كتب وأسماء مؤلفين وحوادث تاريخية ومناسبات علمية وأدبية وسياسية.
وبقي الشاعر محمد منلا غزيِّل أعزبًا طيلة حياته لم يتزوج.
وقد تحلى الأستاذ الشاعر محمد منلا غزيل بالعديد من الخلال والأخلاق الفاضلة، والسمات والصفات الحميدة، وأهم تلك السجايا:
1-الزهد في الدنيا: وشاعرنا الراحل كان زاهداً في الدنيا وزخارفها، يتجلى ذلك الزهد في لباسه وطعامه وسكنه، يهتم بتزكية الجوهر، ويهمل الشكليات، فالدنيا دوما بين يديه وليست في قلبه، كنت أعطيه بعض المال ليشتري فيه لباساً، فكان يشتري فيه الكتب، ويقرؤها، ثم يهديها، ثم اشتريت له لباساً من سوق منبج، ولكني لم أراه يلبسه.
2-الارتجال والاستطراد: وهذه الصفة اتسم بها الكاتب الجاحظ والرافعي وغيرهما، وعندي أن هذه الصفة جاءت من الإعاقة الجسدية، والفراغ، وعدم الاختلاط بالناس. وأنت تنظر إلى محمد منلا غزيل فتراه كالسيل يتدفق، تسعفه ذاكرة قوية، ولسان طلق لا يتلعثم، وترفده ثقافة واسعة، فهو يتنقل من فكرة إلى أخرى، ويكرر مقولته: الحديث ذو شجون ..وغصون، وهذه الصفة تدل على سعة الثقافة، وكثرة المطالعة، وغزارة المعرفة، فهو يغرف من بحر، وهذه الموهبة جعلته يرتجل الشعر أثناء الحفل، فقد شارك مع حسن عبد الحميد، وحسن هاشم في حفلة بمناسبة ذكرى الهجرة ارتجل فيها الأبيات التي يقول فيها:
البابُ أعلنت النداء ومنبجُ لله أوسٌ آخرون وخـــــــــــــــــــــزرجُ
وبلال يرتقب الصدى والبيدر فلمحمد جندٌ تعدّ وعسكرُ
ومسجد بلال، والبيدر، من مساجد حلب الشهباء التي كان الشاعر محمد منلا غزيل يتردد إليها في الثمانينات من القرن الماضي.
3-الأصالة: وهو شاعر إسلامي ملتزم، يتمسك بالرسالة الإسلامية، والفكر هو سلاحه في الدفاع عن هذه الأمة، وهذا الفكر يستند إلى العودة إلى المنابع الصافية من رسالة الإسلام، لذا يكثر في شعره من الألفاظ الإسلامية، مثل: الدين، والقرآن، والإيمان، والرسول، وسنة الله، حتى عناوين قصائده تتسم بالصبغة الدينية مثل: الفجر، وقبس، والشعاع، وإيمان، وسنة الله، وهي عناوين قصائد له منشورة في ديوانه في ظلال الدعوة، يقول في قصيدة إيمان:
بشريعة الله العظيم وبالنظام المحكمِ
بشريعة القرآن منهاج الحياة الأكرمِ
أنا مؤمن بالنصر للإسلام للنهج السوي الأقوم ِ
فالفكر عند غزيل ينبع من الأصالة التاريخية والتراث والعقيدة والعروبة ولعلّ ذلك يقضي على الزيف والضياع، ويتمثل في أغلب شعره، ويتجلى خاصة في القصائد التالية (تيار، الحروف، الراية، ...وقصيدة الحرف والمعركة، تبين عذاب الحرف وضياعه، وفيها يثور غزيل على هواجس العصر، ويتمسك بالشعاع المنير من حراء وسيناء والفتوحات:
رسالة الحرف تأبى أن نضيعها سدى هباء مع الأوهام لاهينا
لا ..لن نمرغ في الأوحال فطرتنا ما دام نور كتاب الله يهيدنا
4- سرعة البديهة:
ذكر الشاعر محمود الدالي موقفاً طريفاً يدل على سرعة البديهة لدى أستاذنا محمد منلا غزيل حيث قال: ( من المواقف الطريفة التي أذكرها أنني مرةً كنت عريفاً لأمسية شعرية مهمة في منبج، وكنت أقوم بتقديم الشعراء على منبر الشعر، وعندما جاء دور الشاعر الكبير محمد منلا غزيل، ارتجلت قائلاً:
صاغ القصائد من كتائب شعره ..
... وأرتج علي، ثم أعدت البيت، ووقفت عند هذا الشطر... فأجاز لي الغزيل قائلاً: مرصوصة في أوسها والخزرج
فصفق الجمهور بحرارة.
ثناء العلماء، والأدباء عليه:
أثنى عليه العديد من الشعراء والأدباء، وكان ذلك في حفلة التكريم التي أقامتها مديرة الثقافة في حلب في المركز الثقافي في منبج، وفي غيرها من المناسبات:
-يقول الإمام المودودي لأحد أهالي منبج وقد رآه في الحج: أنت من منبج ، منبج البحتري، منبج أبي فراس الحمداني، منبج شاعر العروبة والإسلام محمد منلا غزيل، إنه شاعر ملتزم، وداعية أصولي، ومفكر عبقري).
-وهذا الشاعر يوسف عبيد يقول كلما رآه: ( حضر الشاعر الحكيم، والعبقري الفذ، والملتزم، وحكيم منبج بلا منازع ).
-ويقول د.بكري شيخ أمين رحمه الله تعالى: أنا أحمد الله وأشكره أنني عشت في عصر الشاعر الكبير محمد منلا غزيل، حقاً هو عبقري، وأنا اعتبره المعري الثالث بعد أبي العلاء المعري، والأديب اللبناني عبد الله العلايلي...).
الداعية الحكيم:
وقد كتب د. إبراهيم الديبو مقالة جميلة عن أسلوب محمد منلا غزيل في الدعوة، فقال:
شخصية متنوعة كشخصية الأستاذ محمد منلا غزيل تحتاج أن ندرسها من عدة جوانب، جانب الأدب والشعر، وجانب الثقافة والفكر، وجانب الدعوة والنشاط الاجتماعي، فقد جمع في شخصيته هذه الجوانب جميعها، وعرف كشاعر وأديب قبل أن يعرف كداعية وخطيب، إلا أن نشاطه الدعوي قد غلب على اهتماماته الأخرى، فشغل جلَّ وقته في نشر رسالة الإسلام، والقيام بدور اجتماعي وتكافلي ضمن حدود استطاعته دون أن ينتمي إلى جمعية خيرية، أو مؤسسة اجتماعية، فهو خطيب المجالس وفارس الكلمة وحكيم الدعوة، شغل نفسه بالدعوة على طريقته المميزة بالحكمة والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، ويسانده في ذلك أدب وفكر وفلسفة وثقافة متنوعة لا يجاريه بها أحد من معاصريه، بالإضافة إلى ما تميز به من بداهة وقدرة على الإبداع واستحضار الحجة، وحافظة جامعة تجمع أرقاماً وتواريخ وأسماء كتب وأسماء مؤلفين وحوادث تاريخية ومناسبات علمية وأدبية وسياسية، كل ذلك يحتفظ له بأرشفة ذهنية أشبه ما تكون بجهاز الحاسوب، فحياة طويلة عاشها مع كتب الأدب والحكمة والشعر وعلوم الشريعة صقلت شخصيته العلمية ورسمت معالم طريقته الدعوية، حتى أصبح علماً من أعلام الدعوة، لا يمل المستمع من كلامه بل يشعر بمتعة فكرية، وألفة روحية، ويزداد مستمعه إعجاباً به لسعة اطلاعه وغزارة أفكاره التي يلقيها موثقة مهذبة منمقة، والأعجب من ذلك أنه يستحضر ندوات حضرها وأشعارا ألقاها وقصائد نظمها وحوادث عاشها مؤثراً أو متأثراً بها وكأنها أمام عينيه كسطر واحد، وعقد منظم، يظن من يسمعه أنه يتكلم عن اليوم أو الأمس، ثم يفاجأ به يقول: منذ ربع قرن، أو نصف قرن، قلت كذا، أو كتبت كذا، أو حضرت كذا، فهو مكتبة علمية متحركة، فيكفي أن يسأله السائل عن كلمة أو معلومة أو مؤلف حتى يسرد له كل ما يتعلق بذلك.
له حوارات كثيرة وندوات متعددة، ولا يخلو يومه من مناسبة أو أكثر يكون فيها متكلماً وداعية، بل ربما تمر عليه أيام يحضر في اليوم الواحد منها أربع أو خمس مناسبات، ولا يمكن أن يحضر مجلساً إلا وله الحظ الأوفر من الكلام.
وما أريد أن أقف عنده هو جانب الدعوة، وأترك للإخوة الذين يهتمون بالأدب والشعر أن يتناولوا الجوانب المتعلقة بذلك من شخصيته، فهو نوع من الإكرام لأهل الفضل والعلم والدعوة، فقد شاع في مجتمعاتنا العربية أن أهل الفضل يكرمون بعد موتهم، وهذا بخس لحقهم وجحود لفضلهم، كما شاع أن الإعلام يتناول بعض الشخصيات الأدبية والفكرية والفنية فتسلط عليهم الأضواء وتضخم شخصياتهم ويبالغ في الثناء عليهم والإطراء لهم، ويقابل ذلك إجحاف لمن هم أحق منهم بذلك علماً وقدراً ونشاطاً، فكل من عاش في منبج وما حولها يعلم من هو الأستاذ الأديب الداعية محمد منلا غزيل، ولا يمكن أن يجهله صغير أو كبير، أو قريب أو بعيد، ولعل الإعلام هضمه حقه فلم يتح له أن يتخذ منبراً إعلامياً في الإذاعة أو التلفزيون، إلا أنه يعتبر كل مسجد أو مجلس عزاء أو فرح منبراً له، بالإضافة إلى مشاركاته في الندوات الشعرية واللقاءات الفكرية والعلمية المتنوعة، وسأحاول في هذه الصفحات القليلة أن ألقي الضوء على شخصيته الدعوية من خلال أدواته ومنهجه وسمات شخصيته، وألخص ذلك في عدة أمور
(1) الكلمة: أقوى ما يمتلكه الأستاذ الداعية هو الكلمة، ولا أعني بالكلمة ذلك المعنى الضيق الذي يتبادر للأذهان ابتداء، وإنما أعني الكلمة بمعناها الواسع ومضمونها الشامل الفعال، الكلمة التي تحيي فكرة وتوقظ وجداناً، الكلمة التي تشحن العقل وتهذب النفس، فهو إذا تكلم سحر الناس بأدبه وحكمته، يستحضر في كلماته الشعر والأدب والحكمة، فلا تخلو كلمة من كلماته أو موعظة من مواعظه من ذلك، لغته فصيحة وعباراته متناسقة وبلاغته جلية، يتكلم بلا تكلف ويستحضر بلا مشقة، لا يتقعر الكلام تقعراً أو ينظمه نظماً، بل كل ذلك يخرج منه سهلاً واضحاً، ويردد قول القائل: ولستُ بنحوي يلوك لسانه ولكن سليقي أقول فأعرب، فهو يتكلم سليقة ويعرب بكل عفوية دون تكلف، فهو ينكر على النحوي الذي يعاني في اختيار كلماته ويتقصد العبارات الغريبة أو الكلمات المهجورة، فكلماته تخرج سهلة كما يخرج الماء من فيِّ السقاء، واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء، جلية كانجلاء البدر في ليلة قمراء، ما عرف عنه تلكأ في الكلام أو تعثر في العبارة أو خطأ في النحو ، فهو أستاذ الأدب ومدرس اللغة العربية سابقاً، وشاعر الكلمة وفارس البيان.
(2) مجالس العزاء والأفراح: جرت العادة في بلاد الشام أن يكون مجلس العزاء مجلس علم ووعظ، وأن تكون مناسبة الزواج مناسبة إنشاد وإرشاد، يقوم العلماء والدعاة فيها بواجب دعوي، حسبة لله تعالى، فكان الأستاذ محمد منلا غزيل علماً من أعلام الدعوة في هذه المجالس، له حضوره الكبير وجهوده المتميزة، يحرص أن يكون في كل مجلس ليلقي كلمة ينتظرها الناس لينهلوا من علمه وحكمته، وغالباً ما تشتمل على جانب من الرواية وجانب من الدراية، ففي جانب الرواية يذكر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تناسب المقام الذي هو فيه، ثم ينتقل إلى جانب الدراية والفهم، وذلك من خلال شرح الأحاديث وبيان دقائق العلم التي تتصل بها، وهنا تظهر شخصيته وثقافته الواسعة التي تجذب القلوب والنفوس إليه وإلى كلماته المليئة بالتأثير والإثارة، فهو ابن بيئته يعايش الناس ويعرف أخبارهم ويطلع على أحوالهم ويحفظ أنسابهم ويستفيد من كل ذلك في جذب قلوب الناس والتأثير فيها، لا رغبة منه في استئثار قلوبهم لينال حظ نفسه بل لجمعهم حول مائدة الإسلام وقيمه السامية. وكان يستعين بما يحفظ من أدب وحكمة وشعر في تأكيد المعاني التي يتكلم عنها، ومن ألطف ما سمعته منه، ثلاثة أبيات من الشعر، تحض على خلق الوفاء والإحسان وهي:
- رأى المجنون في البيداء كلباً فمدَّ له من الإحسان ظلا
- فلاموه على ما كــان منه وقالوا قد أنلتَ الكلب نيلا
- فقال دعوا الملامة إنَّ عيني رأتْه مرة في حيِّ ليــلى
(3) الكتاب: عرف عن الأستاذ غزيل اهتمامه بالكتاب، فهو نهم القراءة، يقرأ كل شيء يقع تحت يديه في الأدب والفكر والفلسفة والتاريخ والسياسة، ويتنقل بين العلوم الإسلامية جميعها، له صحبة طويلة مع الكتاب منذ طفولته وحتى أيامه هذه، فكل وقت لا يكون فيه متكلماً أو مشغولاً بحاجاته الضرورية يشغله بالقراءة، فمن المعروف أنه لم يتزوج وآثر العلم على الزواج كما هو شأن بعض العلماء السابقين كالإمام النووي والزمخشري وغيرهم.
(4) الإهداء: كان يهتم كثيراً بطلاب العلم ويقدم لهم الهدايا المفيدة من كتب ومجلات وأشرطة وسيدهات، ومن يقرأ هذا الكلام يظن أن الأستاذ غزيل من الأثرياء الذين أصابتهم التخمة المالية إلا أن من يعرفه يعلم أنه يعيش حياة الكفاف التي آثرها لنفسه، له منهج في الحياة وطريقة أشبه ما تكون بطريقة الزهاد الأوائل، يلبس لباساً متواضعاً ويأكل أكلاً بسيطاً، ولا يهتم بالمظهر أبداً بل كل همه ما يحمله في قلبه وفكره، من يراه لأول وهلة يظنه من بسطاء الناس وعامتهم فإذا ما استمع إلى كلامه امتلأ إعجاباً به وتعلق قلبه بحبه، وانبهر بثقافته وسعة علمه.
كل ما يصل إلى يديه من مال ينفقه على الكتب والأشرطة والسيدهات، وكلما رأى طالب علم رافقه إلى أقرب مكتبة ليشتري له كتاباً أو شريط كاسيت أو سيدي حاسوب، فهو لا يحتفظ لنفسه بأي كتاب أو مجلة، فمكتبته حاضرة في ذهنه يستحضر منها ما يشاء ومتى شاء، فالعلم في الصدور لا في السطور، وهذا يذكرني بقصة زيارتي لمنزل الشيخ الداعية محمد الغزالي رحمه الله تعالى، فقد زرت منزله مع بعض أصدقائي أيام إقامتي في القاهرة، وطلبنا من ابنه المهندس ضياء حفظه الله تعالى أن يطلعنا على مكتبته ومكان جلوسه للكتابة والمطالعة، ففوجئنا بأن مكتبته لا تزيد على مكتبة طالب علم مبتدئ، فقلنا له: هذه مكتبته التي كان يرجع إليها في كل ما يكتب؟
قال: إنما والدي كانت مكتبته الحقيقية هي ما يحمله من علم في رأسه، فكان علمه أكبر من مكتبته، وهذا ما يمكن أن يقال عن الداعية الأستاذ محمد منلا غزيل، هو لا يمتلك مكتبة في بيته، ولكن يحمل مكتبات في قلبه وعقله، هو يحفظ أسماء الكتب وأسماء المؤلفين وكأن ذلك يتراءى له أمام عينيه، وقد علم منه ذلك أبناء بلدته وطلاب العلم خصوصاً، فكان يقضي أوقاتاً كثيرة في المركز الثقافي في منبج، فقد تعود طلاب العلم والباحثون على أن يكون الغزيل بينهم، فإذا أرادوا كتاباً أو معلومة بادروه بالسؤال، وهو يجيبهم ويبين لهم مكان الكتاب ورقمه ويدلهم على الجزء المطلوب وربما أرشدهم لأرقام الصفحات.
(5) السؤال والجواب: وهي طريقة أبلغ في التأثير من غيرها، وهي وسيلة تعليمية وتثقيفية بالإضافة إلى كونها مادة دعوية، فقد دأب في السنوات الأخيرة من مسيرة الدعوة إلى نهج هذه الطريقة، لأسباب من أهمها أنها تثير الانتباه عند الحضور، وأنها ترسخ العلم أكثر من غيرها، وتشجع طلاب العلم على البحث والدراسة وتعودهم على الحوار وتبادل الآراء وقبول الآخر وتوصيل الأفكار بشكل صحيح، فكان يطلب من أحد طلاب العلم الموجودين في أي مجلس من المجالس التي يحضرها أن يحاوره، طبعاً هو يسميه حواراً ولكنه في حقيقته سؤال وجواب، كما أنه لا يحب الكلام في المسائل الخلافية أو دقائق الفقه بل في الفكر والدعوة والحضارة، ويترك للسائل حرية الاختيار، ثم يجيب عن سؤاله مباشرة، وبسبب تزاحم الأفكار والآراء وكثرة المعلومات التي يحملها ربما بعد عن السؤال وخرج عن الموضوع.
فكان لهذه الطريقة الأثر النافع بين طلاب العلم، وبث الحيوية في المجالس، وتحويلها من مجالس للقيل والقال إلى مجالس للعلم والسؤال، وكان لها أثر طيب على نفوس طلاب العلم، وأرى أن لهذا الداعية منة على كل طالب علم أو خطيب مسجد في بلدته منبج والقرى التي تتبع لها، فكم من طالب علم تلقى التشجيع منه وحفزه على الكلام والمناقشة، فهو لا يؤمن بنظرية الاحتكار للعلم والدعوة التي يمارسها بعض أرباب الصدور الضيقة، التي تقوم على تحييد كل طالب علم لا يخرج من عباءتهم أو يتكلم بلسانهم أو باسمهم وكأن العلم أصبح كالسلع يباع ويشترى، وتحتكره بعض المؤسسات كما تحتكر الشركات الصناعية بعض السلع والمواد، فكان موقفه موفقاً، وعلاقته طيبة مع كل الدعاة وطلاب العلم، يسمع من صغيرهم وكبيرهم، ويشجعهم على الكلام ويحضر مجالسهم ومناسباتهم.
(6) مراعاة أحوال المتلقين: فهو يتكلم بالعلم والأدب والحكمة بما يجعل كلامه قريباً من جميع الناس على اختلاف مستوياتهم المعرفية، ويمتلك قدرة كبيرة على تبسيط الأفكار، فربما تكلم في مسألة تعتبر من دقائق المسائل فبسطها إلى درجة يفهمها الإنسان العامي فضلاً عن المثقف، فعلاقته بالناس ومشاركاته الواسعة في أفراحهم وأتراحهم جعلته قادراً أن يصوغ رسائله الدعوية للناس بما يتناسب وأحوالهم وثقافاتهم المتنوعة، لذلك كان يلتفت في كلامه إلى بعض الحضور ويوجه له الكلام ويشد انتباهه بطرفة أو حكمة أو بيت شعر، ولكن هذه القدرة على التبسيط تقابلها قدرة لا تقل عنها في الارتقاء بمستوى الكلام إلى درجة لا يفهمها إلا أهل الاختصاص وأصحاب الشهادات العلمية العالية، وقد رأيت منه ذلك في مجالس كثيرة، فكان إذا تكلم بينهم تكلم عن الأفكار وعن المبادئ وعن القيم العليا وعن الأسس النظرية التي تقوم عليها حضارة الإسلام وعن الخطوات العملية التي تبشر بنهضة حضارية.
فهذه الثنائية التي اجتمعت في شخصية الغزيل جعلته قريباً من الناس على اختلافهم وتنوعهم، كلهم يجد فيه شخصاً محبباً لنفسه, قريبا إلى قلبه، ولعل شخصيته وصفاته هذه – في هذا الجانب- تذكرني بالشيخ الداعية محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى، فكان يجتمع في دروسه أناس من العامة, لم يقرؤوا ولم يكتبوا قط، إلى جانب حملة أعلى الدرجات العلمية, وطبعاً هذا بسبب استخدامه لغة مبسطة واضحة فتجد الجميع ينشدُّ إلى درسه, ويصغي إلى كلماته، كان يفسر القرآن تفسيراً بلاغياً يعتمد على اللغة ودقائقها والبلاغة وأسرارها ويعرض ذلك بأسلوب واضح وطريقة مبسطة، بحيث ينصرف الجميع من درسه وقد حصلوا كثيراً من العلم والفائدة.
وهذا ما يتفق مع شخصية الأستاذ الغزيل كل ينهل من كلماته ويتفاعل مع عباراته، ويستفيد من إشاراته.
فهذه بعض الوسائل الدعوية للأستاذ الداعية محمد منلا غزيل، وهي تكون في جملتها منهجاً يستحق الاهتمام والدراسة، أشرت إليها على عجل، وربما يتاح لي في وقت آخر أن أتناول جوانب أخرى.
(1) ولد الشاعر الداعية محمد منلا غزيل في عام 1936م، في مدينة منبج التي تبعد 80 كيلو متراً عن محافظة حلب في سوريا، وهي بلدة البحتري وأبي ريشة ودوقلة المنبجي، تلقى دروسه الأولى على يد الكتاب في جامع الشيخ عقيل المنبجي، ثم اهتم بحفظ القرآن وحفظ قصائد من الشعر على يد الشيخ عبد الرحمن الداغستاني، وأتم دراسته الابتدائية في مدرسة نموذج منبج، وظهرت موهبته الشعرية والأدبية وهو في الصف الخامس الابتدائي، فنظم قصيدة بعنوان تحية دمشق، وكتب قصتين الأولى بعنوان الوفاء، والثانية بعنوان الجزاء، وفي هذه الفترة أكب على قراءة كتب المنفلوطي (العبرات- مجدولين – في سبيل التاج) ، ثم التحق بثانوية المأمون في حلب للدراسة الإعدادية المتوسطة وأتم المرحلة الثانوية في ثانوية المعري ثم ثانوية سيف الدولة وأخيراً ثانوية إبراهيم هنانو، حيث نال شهادة الدراسة الثانوية الأدبية فرع الآداب واللغات سنة 1957، ثم انتقل إلى دمشق ليدرس في جامعة دمشق في قسم اللغة العربية كلية الآداب بين 1958 حتى عام 1961 حيث نال الليسانس في الآداب آداب اللغة العربية ، وبعد ذلك في عام 1962 نال أهلية التعليم الثانوية في صورة دبلوم عامة في التربية، أما الإنتاج الذي عبر عن معالم تجربته فيتمثل في عدد من الدواوين الشعرية أولها "في ظلال الدعوة" وصدر في حلب عام 1956 وكان الشاعر في العشرين من عمره ، ثم "الصبح القريب" وصدر عام 1959 وهو في السنة الثانية في قسم اللغة العربية شهادة تاريخ العرب والإسلام ثم مجموعة "الله والطاغوت" عام 1962 وهو في صف الدبلوم العامة في كلية التربية وجمع مختارات من شعره في المجموعات الثلاث السابقة بديوان مستقل عنوانه "اللؤلؤ المكنون" عام 1962 ثم لزم الصمت فلم يكتب شيئاً حتى مطالع عام 1971 إثر قيام الحركة التصحيحية في سوريا مما أتاح نوعاً من الانفتاح مما أتاح له أن يستأنف إنتاجه الأدبي فأصدر عدداً من المجموعات هي "طاقة الريحان" 1974 ثم البنيان المرصوص عام 1975 ثم "اللواء الأبيض" 1978، وإلى جانب هذا الإنتاج الشعري كان يكتب في مجلة حضارة الإسلام بعض المقالات التي جمعها في ثلاثة كتب نثرية أولها بعنوان "على طريق الوعي الحضاري العربي الإسلامي" ثانيها بعنوان "في رحاب الأدب العربي" ويضم عدداً من المحاضرات الأدبية ثالثها بعنوان "كلمات على طريق الوعي الحضاري" وظل يكتب حتى أواخر عام 1977 حيث صدرت أعماله الشعرية في مجلد واحد وكذلك صدرت أعماله النثرية موزعة على العناوين الثلاثة السابقة).
البحتري الصغير...:
وكتبت بنت الشهباء (أمينة أحمد خشفة):
الشعراء والأدباء، العظماء والمفكرين .. لا يعملون ليعرف الناس قدر شأنهم، أو ليحيطوهم بهالات الشكر والتقدير والثناء , بل إنّ الوعي الخالص لفكرتهم، والتضحية العجيبة لهدفهم, والحبّ المتفاني لمبدئهم هو الذي يصوغ , ويصون منهج سيرة حياتهم .. إنّ لمثل هذا الشاعر الملهم - محمد منلا غزيل - لا يمكن أن تتسع الصفحات لسيرته، والإطلاع على نواحي عبقريته وفن شعره .. الوفاء لدعوة دينه سمت صفحات لسان شعره، وآيات قلمه سحر بيان يترنم من بديع لفظه، وعذب ألحانه، وتدفق عواطفه، وشفافية ورقة روحه. .. باع نفسه لله، ورضي بالقليل، وعاش بالكفاف، وأبغض التفاخر والتباهي بين خلانه، ورأى أن الدنيا زيف وباطل، ومتاع قليل فكان هدفه قول الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وصحبه وسلم-: -
( لَوْ أنَّ لابنِ آدَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يكُونَ لَهُ وَادِيانِ ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتْوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ )) مُتَّفَقٌ عليه. . وها هو يتحدث لنا بلسان قوله عن صاحب هذا الفكر المؤمن الزاهد، فيقول: " ( سحقاً لك أيتها النزوات الرعن، وبعداً لك يا سعار العاطفة الجموح .. إنّك أبداً تضجّين صاخبة , جيّاشة , وإنّك دائماً تثورين هادرة , عارمة .. إليك عني يا نزوات الرعونة، ويا سعار العاطفة الجموح .. فلقد ودّعت الأمس، ودفنت الماضي في قبر بعيد .. عميق .. لا يسبر غوره .. وإنّني أيّتها العاصفة، أيّتها العاطفة، لصامد – بإذن الله – أمام صفعاتك الحلوة المرة: صمود الحقيقة في وجه الوهم، والحقّ في وجه الباطل، والفضيلة في وجه الرذيلة , صمود الجبروت النبيل في وجه الطاغوت، صمود العقل الحرّ أمام طاغوت الشهوة , واللبّ المستنير أمام إغراء الخرافة . والفكر الوقّاد أمام ظلمات الضلالة... فلقد انتصرت أخيراً قوّة الحقّ وقوّة العقل المؤمن، ولم أخسر شيئاً حين ربحت العقل .. ربحت العقل فربحت معه الصحوة بعد الغفلة، وربحت معه الهدي بعد الزيغ . ..وربحت معه التوبة بعد المعصية .. والإسلام بعد الجاهلية "... بدأ حياته في درب الحياة المظلم، وحلكة الليل البهيم، وفتنة القلب العاشق المحبّ المتيم الولهان ... وفجأة إذ بنور الهدي والإيمان ينير قلب روحه وفكر لسانه، وشذا مداد قلمه, لينبثق منه ينبوعاً متدفقاً من عذب نفحات الشعر الثائرة على جولة الظلم والبغي والطغيان، فيروي بها جوانحه الظمأى بهدي الإيمان، ونور الدعوة إلى الإسلام ولد "محمد منلا غزيل "الشاعر المسلم الملتزم الشاعر عام ألف وتسعمئة وستة وثلاثون في منبج، بلدة الشاعر عمر أبو ريشة، والبحتري. ... في هذه البلدة الجميلة، وطبيعتها الخلابة، وظلالها الوارفة، وجمالها المتألق نشأ شاعرنا الملهم؛ حيث درس في الكتّاب على يد الشيخ – عبد الرحمن الداغستاني –، وحفظ القرآن، وعدداً من قصائد الشعر. .. وما زال يذكر شيخه الداغستاني الذي حفّظه قصيدة حسان بن ثابت- رضي الله عنه-، وقد كان مطلعها: أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بمال في الصف الخامس الابتدائي كانت له أول تجربة شعرية، وهو يتغنى بمنبج بلدته الحبيبة: سلام جلّق مــــــــــــــــــدفن آبائي ومنبع نهر البطولة والإباء سلام مــــــــــــــــــن محبّ متيّم في هوى ذات الهمة القعساء هو بعيد الديار عنك ولكن مشوق كشوق قيس لليلاء أنهى المرحلة الابتدائية في منبج بلدته بدرجة امتياز، مما أهلّه للذهاب إلى حلب الشهباء في ثانوية المأمون طالباً داخليًاً مجانًا ... وفي ثانوية المأمون درس على يد الشيخ – رحمه الله – أحمد عز الدين البيانوني، وإسماعيل حقي، والأديب فاضل ضياء الدين ..وغيرهم من أساتذة حلب الشهباء الكبار. .. الشاعر الملهم كان يتردد باستمرار على دار الكتب الوطنية في حلب لينهل من مشارب الكتب، وعلومها الغزيرة، وينابيعها الثرّة منذ أن كان في المراحل الإعدادية الأولى مما ساعده على تنمية موهبته الفطرية المتألقة والمتميزة , وزيادة إنتاجه الشعري الخصب.. جذب الأنظار إليه حين بدأ ينشر في الصحف والمجلات، وفطن له أساتذته مستقبلاً باهراً في عالم الشعر. .. وقد أطلق عليه أستاذه اسماعيل حقي – رحمه الله – ( البحتري الصغير)، وأول مجلة نشرت له تحت اسمه، ولقبه المحبب إليه كانت مجلة الصاحب البيروتية. كتب الطالب الفتى في الصف السابع الإعدادي تحت عنوان: تحية يراع: " (إليه ... إلى مثال النظام ورمزه , وعنوان العظمة والعمل .. أرفع هذه النفثة القصيرة من اليراع الطفل والقلم الفتيّ .. بل هذه الأغرودة النشوانة، والنغمة الشجية .. إلى الأستاذ عمر كردي الأكرم: إن قلت شعراً , قصيد الشعر يخذلني ** فالوصف من اسمه الضواع فوّاحا
والدرّ منظوم إعجاب لمرشــدنا ** نحو النظام , نظام منه قد لاحا قد لاح في الليل نبراسا لنهضـتنا ** وفي النهار ,إلى الإبداع مصباحا مصباح هدي، وبالفاروق متشح ** نال الجزاء فكلّ النفس (أفراحا)
الوقد العاطفي عنوانه، وجمال الروح والفضيلة والخُلق صفته، وجذوة الكلمة شُعلْة لهيب تتوقد من قصيده وقريحة نثر أدبه ... في الصف الثالث الإعدادي نشر دراسة نقدية لديوان الشاعر سليمان العيسى في جريدة الشباب الحلبية .. وأخذت شهرته يوما بعد يوم تزيد، لمَ كان في أبيات شعره تميّزاً، وتألقاً وحُسناً وجمالاً . .. تعّلم فن العروض، وعرف وزن الرجز، وكان في هذه الفترة شعره ينحو نحواً غزلياً، وقد نشر في عام 1953م قصيدة بعنوان (حطام) ومن أبياتها: ضمخّتُ قلبي بالشذى , وفرشت دربي بالمروجْ وحملتُ منديل المنى وحدي على الدرب البهيج كيما أناولَ زهرتي رمــــــــــــــــــــــزاً لأشــــــــــــــــــــــواقٍ تمـــــوج في خافقي . بصبابتي بيض! ويا طهـر الثلوج وفي عام 1954 م بتاريخ الحادي والثلاثين من كانون الثاني نشرت جريدة الجمهور العربي قصيدته العمودية بعنوان ( شعر): يا بسمة الفجر من إشراق دنيانا يا نغمة الشعر بين الورد سكرانا قد داعب الحب من قيثارنا وترا فرتل اللحن , لحن الطهر نشوانا وغرّد البلبل الصداح منتشياً فوق الغصون، وطاب الهمس ألحانا حسنا هيّا أقبلي نروي جوانحنا من خمرة الشوق فالأرواح تهوانا ورتلّي اللحن , لحنا طال مرقده بعد الفراق , ولحنا فيه ذكرانا يحاول الشاعر أن يستعطف حبيبته , وهو يدعو أن تحيا معه هذا الصفاء الروحي، والجمال البريء، والحب الطاهر ... لكن لم تسمعه وتأبه له !!!!!؟؟؟؟... وتحت عنوان ( الشاعر الإنسان ) كتب عنه الأستاذ محمد أحمد الطحان، وهو يقارن بين قصيدته طفولة قلب، وبين قصيدة نزار طفولة نهد، فيقول:
(وعندما نقارن بين مقطوعة طفولة قلب , وقصيدة طفولة نهد لنزار قباني , فإننا نجور على الأولى , تلك المقطوعة الإيمانية , ذات الفكرة الإنسانية السامية , التي أراد أن يعبر الشاعر فيها عمّا يجيش في نفسه من حبّ للرحيل ... للتوبة .. من عالم .. إلى عالم . نجور عليها لأنّ الفكرة الإنسانية فيها هي الأساس , وهي الغاية . أما قصيدة نزار , فضرب من التحلل اللا أخلاقي والتمرد على الفضائل , يمثل بها الشاعر أحد الدعاة إلى الهبوط , وفي أهم فرع من فروع الأدب العربي، .. ويتابع الأستاذ الطحان، فيقول: (فإذا ما رأينا الشاعر الأول يتحدث عن فكرة إنسانية، وأن الأخير يتحدث عن فكرة لا إنسانية، حكمنا مباشرة أن الأول شاعر إنسان، وأن الآخر شاعر لا إنسان . وكلمة ( لا إنسان ) ذات مدلولات كثيرة، يعرفها أصحاب اللغة ..، ويجوز هذا الحكم في كل أسلوب أدبي، سواء كان نثرا أو خطابة أو مقالة أو توقيعات .. ذلك لأن الأدب عامة، وكما كررت مراراً، وسيلة لهدف إنساني، وليس غاية بحدّ ذاته.. .. لكن فطرته التي فطره الله عليها لم تكن إلا أن تعود إلى أصالتها من جديد، فيهجر الماضي هجراً لا عودة له، ويبدأ مع حياته صفحة جديدة، وبدأ يشعر أن من واجبه أن يكون ملتزماً في دينه، وصادقاً في دعوته ويكون شعار لسان قلم شعره في حزيران عام 1954م قول الله تعالى: : (وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ*وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ*إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ))
الشعراء 224-225-226-227 وإذ به يهب نفسه للدفاع عن دينه وقيمه وأخلاقه، وهو يأمل أن يتبع سيرة سلفه حسان بن ثابت – رضي الله عنه – وكعب بن مالك. .. في حينها الصحف كانت تفتح له صفحاتها بكل حبّ ووفاء لشعره الذي كان عنوانه : رب اجعل لي لسان صدق في الآخرين ... أراد شاعرنا أن يجعل لشعره منهجاً بعيداً عن الأهواء , والانفعالات التي لا يربطها ضابط , ولا مبدأ ولا قيم , وهو يأمل أن يخلق من شعره مشاعر نبيلةً ومنهجا ثابتا , وهو ينافح عن عقيدته ليصل إلى نصرة الحق المبين .. فسلك سبل الصادقين المخلصين الصالحين، وامتثل لأوامر دينه، ومبدأ عقيدته، وأصبح قلمه نزيها من أهواء انفعالات ونزوات القلب، وسلوكيات مراهقة الشباب والطيش. وفي مقابلة أجراها الشاعر عبد الله عيسى السلامة مع شاعرنا المبدع في سؤال حول مهمة الشعر , فرد عليه قائلاً: مهمة الشعر عندي أن يكون تعبيراً صادقاً عن نفس قائله، شريطة أن تتعلق اهتمامات النفس بمعالي الأمور دون سفاسفها وترّهاتها .. ويسلك التعبير مبيناً عن ذلك , مسالك شتى , سلباً وإيجاباً , هدماً أم بناء ... وليست مهمة الشعر – تصويراً وتعبيراً – أن ينافس الواعظين في توجيههم النبيل، لأن الواعظ يناسبه التفصيل والتبسيط، أما الشعر فهو لغة الإيماء والإيحاء والتلميح ... كان يأمل دائماً أن يبذل كل ما في طاقته الفكرية، وتوثب اندفاعاتها باتجاه الأكمل والأسمى في رسم أبيات قصيده .. ففي ثنايا شعره نجد عناصر الإبداع، ولهيب الثورة، وهو يلهث للدفاع عن أمّة الإسلام أمّة الحقّ، لم يبتعد، ويتخاذل عن مجريات الأحداث، ولم يصب قلبه الرعشة والخوف من الطغيان، ولم ترجف يده من تصرفات لعبة الحكام .. فجاء شعره نفثة مقهورة، وتعبئة شاملة لتأخذ بلبّ العقل والفكر معاً .... لم يكن يريد من الدنيا مباهجها وزخارفها ومتاعها , بل كان لديه رغبة في إذكاء روح الوعي، وتنوير العقول، وبذل التضحيات في سبيل رفع الظلم، ومحاربة الظلم والطغيان. .. عاش حياته في حلب عيشة الفقراء المستعلين – وما زال – لا يحزن على المادة السوداء، ولا حياة الرفاه والبذخ ..وقد نفذ الزهد إلى سويداء قلب روحه .. فكان بحقّ رجل دعوة، وحياته كانت مليئة بالجدّ والدراسة، وجلّ وقته يقضيه بين الذهاب إلى المكتبة الوطنية، والاستماع إلى المحاضرات الفكرية والأدبية, وهو مكبّا على التحصيل العلمي والأدبي، بالإضافة إلى أنه كان يقود المظاهرات الطلابية محمولاً على الأكتاف، ويهزّ بمشاعره الهائجة الثورية، وبأهازيج شعره، وخطب نثره قلب الشباب المسلم. .. امتزج شعره باللون الاجتماعي، والسياسي معا ضمن إطار التزامه بالإسلام، وصدق دعوته وذلك من عام 1954- 1957 التي كانت تعيش فيها سوريا تعدّد الأحزاب، وحرية الصحافة والخطابة والتظاهر. .. ونجده يستلهم الهدى والرشد، وطريق الحق والصواب من خالقه , فهو حسبه وكافيه، و الطريق والسبيل لدحر الظلم والطغاة هو قوله: بجهادنا ... بالحق .. بالإيمان يسري في الدم بالروح تزخر بالسنا , وهــــــــــــدي النبي الأعظم سيزول ليل الظالمين , وليل بغي مجـــــــــــــــرم .. وفي ( قصيدته الفجر) يعلم بحقّ أننا قوم أعزنا الله بالإسلام، وإن ابتغينا العزة من دونه أذلنا الله: والآخرون الهائمون الحالمون بأن يكون الفجر أحمر والهائمون الواهمون تعلقوا بعروبة ترضى بمنكر وتمالئ الطغيان، بالعار، مفهوم الأصالة قد تغير ما الفاتحون، وما العروبة يا أخي لو لم تكن ( الله أكبر) الاستعمار أقام جذوره في الوطن المسلم لكنه على يقين بأن النصر آت رغم أنف الجبروت والكفر, والظلم والاستعمار.... أنا مؤمن بالحق ... بالنصر المبين لدعوتي ليمزق الطغيان كل ممزق بالحق ..ياللقوة ويزفها للأمة الظمأى ...ز شفاء الغلة سنعيدها غراء إسلامية ..... يا أمتي إنه كان شاعرا لقول.... كلمة الحق وفي قصيدته العذبة الفتية يروي لنا شاعرنا قصة بدر تحت عنوان ( العصبة المسلمة) وبدر أي وهج في سناها أضاء القلبَ فاستوحى هداها وذكرني بصورة مصطفاها يقود المؤمنين إلى علاها إلى الفوز المبين إلى التفاني إلى قمم الجهاد , إلى ذراها وذكرني دعاء في لظاها يموج بلهفة رحبٍ مداها تهزّ النفسَ حرقة مجتباها يناجي فاطرَ الكون الإلها : إلهي لستَ تُعبد إن أتاها هلاك يا إلهي أو عراها فهذي قلة نذرتْ قواها لدعوتها , ولن ترضى سواها فهل لمثل هذا الشاعر الملهم المبدع أن تستوفيَ حقه هذه الكلمات المتواضعة؟ حفظه الله , وحفظ يراعه الذي ما زال شعره ينبض بهمساته الندية، وشذا معانيه الفواحة بالحب والعطاء , والوفاء لأمة الإسلام.. .....
- ويقول الشاعر الشاب محمود الحريري يمدح غزيل بين يدي محاضرة له بحلب:
يا من منحتَ الشعر عمراً كاملاً ما ضاع عمر خطّه العظماءُ
جئنا لننهل من معين عبيركم فبفكركم تتعطر الأجواء
حسان يشهد والصحابة والورى وأبو فراس أنك المعطاءُ
مضت السنون وأنت صرحٌ شامخٌ من نبع فيضك يرتوي العلماء
جئنا إليك وروحنا توّاقة فليشيخ منبخ تنثرُ الأضواءُ
الشاعر مصطفى مرعي:
كان التقصير في تقدير عبقرية الشاعر محمد منلا غزيل كبيراً، فلقد لقي العقوق من الحكومة والشعب معاً، ولم يفطن له أحد إلا القلة من طلبة العلم ومن إخوانه:
بشراكِ منبج هذا عُرس غزيّل فاستبشري يا زينة الأوطانِ
فتراقصي طرباً على أنغامهِ هذا الغزيّل منبتُ الإحسانِ
هذا الغزيّل ألمعيٌ شامخٌ كشموخِ شمروخ على الأغصانِ
هذا الغزيّل نبعُ كلّ فضيلةٍ في الدينِ والآداب والإيمانِ
هذا سليلُ البحتريّ بمنبج وأبي الفراس وريشة الفنانِ
من مثلهُ بفصاحةٍ وبلاغةٍ من مثلهُ في الشّعرِ والأوزانِ
من مثلهُ حملَ المكارمَ جمة فغدا الأديبَ , وفارِسَ التّبيانِ
فهو يصور الغزيل بالألمعي الشامخ سليل عباقرة الشعر العربي البحتري، وأبي فراس، وأشاد بفصاحته وبلاغته، فقال:
وحديثهُ يلتذ سامِعُهُ إذا ما كانَ في الآداب والألحانِ
وحديثهُ كالمسكِ فاحَ بمجلسٍ قد زانهُ عبقٌ من الرّيحانِ
أشهى مذاقاً من حديثِ كواعبٍ وخلوّهنَّ بجنةِ الرّضوانِ
أضحى معنّى في هواكِ متيماً هلاّ سقيتِ صواديَ الغزلانِ
هذا محمّدُ وحيُ كلِّ فِراسةٍ يا غادةَ البيداءِ والبلدانِ
لا تبخسوا حقَّ الأديبِ بربّكم فهو الأميرُ وفارسُ الفرسانِ
لله دركَ , أمةٌ في شاعرٍ ! تكسو الحديثَ جلالةَ الإيمانِ
كان -رحمه الله- عذب الحديث، لا يملّ سامعه بالرغم من أنه يكرر كثيراً من الأفكار، فهو فارس البيان، وأمير القوافي، وراح الشاعر يدعو له، فيقول:
دمتم لنا ذخراً، ودام كلامُكم في كلّ حفلٍ راسخَ الأركانِ
يا أيها العشّاقُ يا أهلَ الهوى سهمُ الغرامِ بمنبج أصمان
قالت لك الدنيا .. الشاعر حسن النيفي:
وألقى تلميذه الشاعر حسن النيفي قصيدة تحت عنوان قالت لك الدنيا، وهي مهداة إلى الشاعر (محمد منلا غزيّـــل) بمناسبة بلوغه السبعين، يقول في مطلعها:
خذ مـــا بنبض الكــــون مـــــــن خفقــــــانِ واسفــحْ شجونك فـــي رحــــى أشجانـــــــي واحضن طيوف النّـــور راعشـــة السّنـــــا تحبو علــــــــى هدب الدجـــــى الوسنـــــانِ لك بـــــــــردُ أندائــي وصفو سرائــــــــري وعبير أنفاســـــــي ونفـــــــحُ حنـــــــانـــي خــذْ مــــا تشاء , فقد جلوت لك المنـــــــى ومـــــــلأت كأســــــــك من رحيق جنــــاني لك نعميـــاتي هــــــــــاك خمرتهــــــــــا ولا تحــــــرمْ فـــؤادك من ســـــــــلاف دنــانـي خــــــــذْ زهـــــــوَ أيامـــي وحلو لذائــــذي مصَّ الشذى مـــن نسغــــيَ الهتـــــــــــــان واحلــــــمْ ربيبَ الحسن فـــي ظلِّي كمــــــا حلم السَّنـــــــا المخمور فــــــي أجفـــانـــي خـــــــذْ مــــا أجنُّ وما أبينُ ولا تـــــــــــدعْ كفَّ الذّبـــــــــــول تدبُّ فـــــي بستـــــانـــي هـــــــذي ابتهـــالاتي إليك فمــــا الّـــــــــذي عــــن سرِّكَ المخبوء قــــد أكفـــــــانـــــي ؟ أتـــــراك تصبو أم تصدُّ عــن المنــــــــــــى فلديك خـــــافيتــــــان تصطخبــــــــــــــــــانِ ! قــــالتْ وقـــــالتْ : يا لخيبــة دعوتــــــــي أيعـــــــافنـــي مـــــن شـــبَّ فــي أحضــاني ؟! فهتفتَ ملءَ الكـون : ويحكِ فاسمعـــــــــي فحـــوى الحقيقـــة , واخشعــــي لبيــــانـــــــي
أنــــا في شغاف الكون نفحٌ عاطـــــــــــــــرٌ قـــــد بـــــاركتــــه لطــــــــــــائف الـــــرحمــنِ
أشرقْتُ بالتوحيد يلهــج خـــــــــــــــــــافقي فيسيل ظلِّـــــــي فـــــوق كـــــــلِّ مكـــــــــــــانِ
مــــن كـــــوثر التوحيد كأســــــــــــيَ ثــرَّةٌ شعَّتْ ففــــــاضَ عبيرهـــــــــا الربَّــــــانـــــــي
ولقد سقــــــاني الله عـــــــذبَ نميــــــــــره ويــــداكِ غيــــرَ المــــــرِّ مـــــــا سقتـــــانـــــي
دنيــــــــايَ مـــــن حجرٍ وقلبــــــــــــيَ نبتةٌ مـــــا استعذبتْ إلا ثــــــــــرى الإيمـــــــــــــــانِ
لمِّــــي حطـامــك يا حياة فمــــــــــا اشتكتْ نفســـــي إليك مـــــــــــــــرارة الحرمــــــــــــانِ
فالنفس قــد حمَّتْ وقـــــــــــــد هتك اللظـى بعد التــــــــــــأمّل هــــــــــــــدأة البركـــــــــــانِ
مَنْ فاضَ ضرعُ الشمسِ في أجفانـــــــــــه لــــمْ يغـــرِهِ مـــــــا فيكِ مـــــن لمعـــــــــــــــانِ
أنــــــــا يا حيـــــــاة علـــــــــــى ترابك سيِّدٌ ينداح صــــــوتُ الحقِّ فـــــــــــي شريــــــانـــي
أهــــــواكِ مـــا جافــــــــــى النعيم رغائبي مــــا كنتُ أســــــــلك ديـــــــــــدن الرهبــــــــانِ
فلكـــم صبوْتُ وكــم سكبْتِ لـــــــــيَ المنى لكــــــنْ بكـــــــــــأسٍ متـــــــرعِ الخـــــــــــذلانِ
ثم راح يتحدث عن ديوان محمد منلا غزيل الشعري الأول الذي جاءت تسميته ((طفولة قلب))، فقال:
هـل تذكرين " طفولة القلب ( 1 )" الّــــــذي
أودى اللظـــــــــــى بنشيده الهيمــــــــــــــــــانِ؟
أونجمـــةً فـــــي قــــاسيون تــــــــــــــألَّقتْ
فغزلْتُ مـــــن ومضاتهــــــــا ألحــــــــــانــــــــي
والليلَ فـــــي آفــــاق منبــــــــجَ حاضنــــــاً
غــــــرَّ القوافــــــــي كالعطــــوف الحــــــانـــــي
وراح يتذكر ما فعلته منبج، وما قدمته للأجيال، فقال:
أهنـــا " الوليد ( 2 )" أراق ذوب فـــــــــؤاده
ونعـــــــى، حزينــــاً، غـــــــرَّةَ الإيــــــــــــوانِ
هـــزِّي جذوعَ العمر منبج هــــــــــــل أرى
سيفــــــــــاً تقلَّــده فتـــــــــى حمـــــــــــدانِ؟
أودعْـــتُ خلف الأمس ألف حكــايــــــــــــةٍ
وطويْتُ في جرحــــــــي رسيس أمـــــــــــــــانِ
أهـــــــواك سنبلــــــةً تــــــــــرفُّ لجائـــــعٍ
ونــــــدىً يسيلُ علــــــــى فـــــــــم الظمـــــــآنِ
وعقيــــــدةً سمحـــــاء يقبر عدلُهـــــــــــــا
ظلــــــــمَ العصور وشرعــــــــــــة الأوثــــــــانِ
أهـــــواك حـــــــــراً فـــــــــــي رنين قيوده
عــزفَ الإبـــــــــــاءُ كرامــــــــة الأوطـــــــــانِ
مـا سرُّ سحرك لو نظرت إلـــــــــــى المدى
إلا سمـــوُّ الله فـــــــــــــــــــــــــي الإنســــــــانِ
عبقتْ جراحـــــــاتي فهـــــــــــــاكِ نديَّهــــا
هــــــــــــاكِ انديــــــــاحَ الفكــــر والوجــــــدانِ
خلعتْ علــــــيَّ الكبريـــــــــــاء إزارهـــــــا
لمَّـــــا نقشتُ حروفهــــــــــــــــــــــا ببنـــــــاني
فعلــــــى شمالـــــــــــي جامحــاتُ عزائمي
وعلــــــــــــــى يميني مشعـــــــلُ القـــــــــــرآنِ
أمضي وفي دربــــــــــــــي يواكبني دمـــي
فعلــــــــــــــى ضفــــــــاف الجــرح ينبوعــــانِ
وطنــــي وأحلامــــــــــــي التي بجراحـــــه
نهــــــــران مــــــــــلءَ الروح ينسكبــــــــــــانِ
وطنــــي إليك أســـــــــــــوق كـلَّ رغيبــــةٍ
بدمـــــــــــــي , وكـــــــــــلَّ نفيســـــةٍ بكيـــاني
الله ثـــــمَّ هـــــــــــــواك ليس سواهمـــــــا
رغـــــــــمَ اقفرار العمــــــــر يزدهــــــــــــــــرانِ
ربَّــــاهُ مـــا قصدت سواك قصــــــــــــائدي
وبغير ذكــــــــــرك مــــــــــــــا بريت لســـــــانـي
قـــالتْ وقلتَ ولـــم يـــــــــــزلْ قولاكمــــــا
فـــــــي حلبـــــــــة التــــــــاريــــــخ يصطرعــانِ
متوقَّدَ النَّظرات ! ترنو مــــــــــــــا الَّـــــذي
عينــــــــــاك خلف الأفـــــــــــــــــــق ترتقبــــانِ؟
أتـــــرى إليك المغريــــــــــــــــــات تدافعتْ
أســـــرابَ وهــــــــــمٍ , أم فلـــــــــول دخـــانِ ؟!
فبأيِّ بــــــــارقةٍ تجـــــاوزْتَ الدّجــــــــــــى
وعبرْتَ كـــــــــلَّ شواطــــــــــــــئ الأزمـــــــانِ؟
هبَّتْ تحـــــــاصركَ الجهاتُ جميعُهـــــــــــا
هيهــــــــــــات تمسك بالضيــــــــــــــاء يـــــــدانِ
جـــارتْ على دمـك الطغاة سفاهــــــــــــــةً
فسموْتَ فـــــــــوق سفاهـــــــــــــة الطغيـــــــانِ
وعلوْتَ فــوق الجرح تبسمُ للدّنـــــــــــــى
والحـــــــــزنُ خلفك بــــــــــاسطُ الأركــــــــــــانِ
غادر الشاعر محمد منلا غزيل أحزانه، وراح يتطلع إلى الصبح القريب، وتجاوز معاناته الخاصة واهتم بشؤون أمته ودعوته، وأرادها كالبنيان المرصوص، فلنتابع مع الشاعر حسن النيفي، وهو يصور رحلة الشاعر في هذه الحياة وتنقلاته بين ضفافها:
وهتفْتَ " للصبــــــــح القريب ( 4 )" فمزَّقتْ
صمْتَ الضــــــــلالــــة صيحــــــــةُ الإيمــــــــــانِ
تمشـــــــــــــي يظللك القصيدُ عصائبــــــــاً
مـــــــــــــلء الدّنــــــــى مرصوصة البنيـــــــــانِ
تتهـــــــــاطل الذكـــــــرى عليك أأشــــرقتْ
تلك السّنون وأدبــــــــــــــرتْ بثــــــــــــــــــوانِ؟
"أطلقْ عنـــان الشعر " قلتَ , ولـــم تـزلْ
كفَّـــــــــــــــــــاك تمسك ألــــف ألــــف عنـــــــانِ
مــــــــــن أيِّ شمسٍ قـــــد عصرتَ قصيـدة
وطويتهــــــــــــــــــا مجهولـــــــــــــة العنـــوانِ؟
تحيـــــــــا القصيدة في ضلوعــك مثلمــــــا
يحيــــــــــا العبير " بطـــــــــــاقة الريحـــــــانِ"
يخضلُّ قلبك بالنّعيـــــــــــــــــــــم وبالنّـــدى
ويــــــــــــداكَ بالجمــــــــــــرات تلتهبــــــــــــانِ!
طبعاً من المعروف أن (الصبح القريب)، و(البنيان المرصوص) و(طاقة الريحان) هي عناوين لدواوين الشاعر، ويناجي حسن النيفي صديقه وأستاذه، فيقول:
خــــــــــــــــــــذْ يا خليل العمر كـــــــلَّ تليدةٍ
منّـــــــــــــــي , ودعْ ما ســـــفَّ مـــن هذيــــــانِ
فلكــمْ هفوت وكــم كبوت ولــم يـــــــــــزلْ
يجـــــــــــــــــــري وراء البــارقــــات حصـــــاني
فلك القصـــــــــــــــــائد أقبلتْ مزدانــــــــــةً
بدمائهــــــــــــــــا , خذْهــــــــــا أبـــــــــا الغزلانِ
ويقول الشاعر عبد الجليل عليان:
جردتَ ملتمع البيان قوافيا وسلكتَ درب الحق تخطرُ داعيا
فإذا الحروف على الجوانب تزدهي نخلاً وصفصافاً تسامق عاليا
كم من قصيد للحماس حشدته غابات عشق كم رفعن سواريا
ومضيت لا تثنيك لومة لائم ترك المنابع واستقل سواقيا
وأضأت في جو المكان وبرّه كنتَ المكين وظلّ شعرك ساريا
وقال عليان أيضاً في مديح الغزيل:
بشراك منبج إن ربك باعثٌ فيكِ الغزيّل شاعراً وحكيما
ويقول الشاعر إسماعيل ياسين إبراهيم يمدح غزيل:
لقيا الغزيل فيها العلمُ والحكمُ فيها الطرائف والآداب والقيمُ
فيها الرواية عن طه وسنته من الأحاديث ما يحلو به الكلمُ
ثم الدراية آراء وأجوبة عن المسائل منثور ومنتظم ُ
فيها السرور تعمّ القلب تبهجه فيها النفوس مع الآيات تنسجمُ
شاعريته:
وأما شعره فإنه ينبع من ذات مؤمنة بالله، متمسكة بالعروة الوثقى، كما أنه لم يهمل موضوعات تتعلق بالأمة والوطن، ونادى بالوحدة الكبرى تحت ظلال القرآن والإسلام.
الفكر في شعر غزيل:
عندما يتمسك شاعرنا بالرسالة الإسلامية لا بدّ له من سلاح يدافع به عن هذه الأمة، وسلاحه الفكر الذي يحتوي على نقاط رئيسية أهمها:
1 – الرجوع إلى الصواب، وذلك بالعودة إلى الدين والقرآن والإيمان ..وقد بين ذلك في قصائد عديدة منها الفجر، وقبس، والشعاع، وإيمان، وسنة اله ، وهو القائل في قصيدته إيمان:
بشريعة الله العظيم ..وبالنظام المحكم ِ
بشريعة القرآن ..منهاج الحياة الأكرم ِ
أنا مؤمن بالنصر للإسلام للنهج السوي الأقوم ِ
2 – الفكر المتمثل بالعقيدة والعروبة والتراث ..ولذا كان الفكر عنده نابعاً من الأصالة التاريخية ، والتراث .... ولعل ذلك يقضي على الزيف والضياع، ويتمثل في أغلب شعره، ويتجلى خاصة في القصائد التالية تيار، الحروف، الراية، وقصيدة الحرف والمعركة تبين عذاب الحرف وضياعه، وفيها يثور غزيل على هواجس العصر، ويتمسك بالشعاع المنير من حراء وسيناء والفتوحات:
رسالة الحرف تأبى أن نضيعها سدى هباء مع الأوهام لا هينا
لا ..لن نمرغ في الأوحال فطرتنا ما دام نور كتاب الله يهدينا
3 – الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الدين والأرض. ويتوضح ذلك في القصائد التالية: إيمان، إشراق، القافلة، الصبح القريب، التحية، العباب .
وقد هتف بالزحف العظيم والبطولة الرائدة من أجل تحرير الأرض والإنسان من العبودية والذل والاستعمار في قصيدته (صلصلة الجرس):
إنه زحفنا الكبير المرجى إنه الركب إنها الأبطال
إنه زحفنا العظيم ستطوى في زحام انطلاقه الأغلال
فهو يرى في الأعداء ذلك الطاغوت الذي يريد هلاكنا ..فهب في وجه الطغيان مناضلاً بالحرف كداء الرصاص ..ولعل الجزائر وفلسطين والأمة العربية أخذت طريق نضالها إلى قلبه فبات ثائراً:
قم يا صلاح الدين عاد عدونا عادت جحافله بلا صلبان
عاد العدو فيا جموع تحفّزي للقائه في حومة الميدان
عاد العدو فيا جموع تجلدي واستمسكي بسلاحك الرباني
الفنية في شعر غزيل:
وشاعرنا عندما يلتزم طريقاً سار فيه كما قلنا فإنه يحتاج إلى عزيمة وإرادة، وكان له ذلك، ولا بد له من أسلوب وخيال وفنية حتى يؤثر في أعماق الناس.
وشاعرنا على الرغم من واقعيته وأسلوبه الواضح وسلاسته ينوّع شعره ببعض الرموز والإيحاءات التي تأخذ مجراها في الفهم والبساطة .
وأغوار – الشاعر – فعلاً بعيدة المدى فيها التأمل، وفيها صورة المستقبل والأماني ولا يفوتنا تفاؤل الشاعر، ولذا نراه يفكر في اليوم، وينظر إلى الغد ..ولعلمه بأن الغد قريب :
ويظل للمجهول في صدري حنين مبهم ُ
يقتات منه غناءه قلب حزين ملهم ُ
هذا هو شاعرنا (محمد منلا غزيل) الذي شرب من معين الهدى، فكان نبراسه القرآن والسنة، فراح ينهل من هذا العطاء، ولذا جاء شعره صورة مؤمنة داعية إلى الهداية والنور، إلى المعرفة والحقيقة.
وله معجم لغوي خاص ..وقصائده لا تحيد عن لغته بدءاً من ديوانه الأول وحتى البنيان المرصوص، ويعتبر الغزيل ذلك فضيلة.
وفاته:
انتقل الشاعر الإسلامي (محمد منلا غزيل) إلى رحمة الله وعفوه في صباح يوم الثلاثاء في 25 ربيع الأول عام 1437ه/ الموافق 5 كانون الثاني (يناير) عام 2016م
ودفن في مقبرة الشيخ عقيل المنبجي في مدينة منبج بريف حلب الشرقي. عن عمر ناهز الثمانين عاماً، قضاها في العلم والدعوة والجهاد ومقارعة الظلم والاستبداد.
رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
أصداء الرحيل:
كتب د. إبراهيم أحمد الديبو تحت عنوان: (ترجل شاعر الدعوة وفارس الكلمة) يقول فيها:
(اليوم نودع شاعر الدعوة، والأديب المبدع، وصاحب الأثر الكبير، والزهد والعفة، الأستاذ محمد منلا غزيل، تلقينا نبأ وفاته صباح هذا اليوم عن عمر يناهز الثمانين عاماً، وقد واراه التراب في مدينته منبج التي أحبها وأحبته وكان لها عظيم الأثر في نفسه وشعره، بل أصبح ذكرها جزءاً من اسمه، رحمك الله أيها الأستاذ الكبير والفارس المقدام والداعية الحكيم، شآبيب الرحمة تنزل على قبرك، ستفتقدك ميادين الفكر والدعوة، وساحات المساجد وقاعات الفرح ومجالس العزاء التي كانت تأنس بلطائف كلماتك وروعة بيانك وسرعة بديهتك.
إلى رحمات الله تعالى أيها الشاعر، طبت حياً وميتاً، أثنينا عليك في حياتك لأننا نعلم قدرك وجهادك وصبرك وزهدك في الدنيا وزينتها، والتمسنا لك الأعذار في كثير من المواقف التي خالفناك فيها لأننا نعلم صدقك وحرصك وحكمتك، فكم من زلة غمرتها الحسنات وكم من موقف شفعت له صدق النوايا والمواقف السابقات، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
اللهم ارحمه وفسح له في مدخله وأنزل على قبره البهاء والنور واجعله من سعداء شهداء أهل القبور...
الشاعر الكبير محمد منلا غزيل... في ذمّة الله.
عشتَ وحيداً إلا من كتبك، فقيراً إلا من غنى نفسك، عفيفاً، متواضعاً، زاهداً عن الدنيا وملذاتها، عظيم النفس، جليل القدر، حادّ الذكاء، ثاقب الفكر...
عشقتك المنابرُ حين تهزها بعنفوان كلماتك، وتاهت من حولك الكلمات تتسابق إلى بلاغة بيانك، وانسابت الأفكار إلى عقلك لتتفجر على لسانك، فتتسرب إلى قلوب الناس كالماء الفرات لتروي ظمأهم، وتشحذ همتهم نحو العلا...
مضيتَ، ولم تأخذ حقك من الدنيا وفيها، ضُيِّق عليك حين وُسِّع للمتسلقين، وأوصدت دونك الأبواب حين فُتحت للمتزلفين...
ولكن أرجو ألا يخزيك الله حين تلقاه، وهذا ظني بمولاي وخالقي.
رحمك الله أستاذي وحبيب قلبي، شاعر منبج وريحانتها وحكيمها وأديبها محمّد منلا غزيل.
وكتب الأستاذ حسن العويس:
مَيِّلْ يا غزيل يا غزيل مَيّل ... نجاح سلام . كان يقول: عندما أسمع نجاح سلام تُغنيها أهشُّ وأبشُّ .
محمد منلا الغزيل ــ 1 ــ
كان إنساناً، ثابتاً على المبدأ، مُوجِّهاً، شاعراً، حكيماً، خطيباً مُفوّهاً، بشوشاً، كسّاباً وهّاباً، عفيفاً، مكتبةً متنقلة، ذاكرةً عجباً .
أفنى عُمره في التوجيه والإرشاد لما فيه خير العباد والبلاد، تعرّض لنكسات هائلة من الاستبداد، تمثل بالتضييق عليه بعدم الحركة، وطوي لسانه. لكنه لم ييأس، ولم تفتر هِمّته، فظل صدّاحاً بالحق ضمن سياسة فَنّ الممكن . كان دوّاري المدينة يتجوَّلُ بأسواقها، يُقدِّمُ النّصح لشبابها ويجيب عن أسئلة السائلين ما أمكنه . لم يكن فقيهاً، بل كان مُفكِّراً حكيماً، وشاعراً مُرهفاً، يتوق لتحسين حالة الإنسان . لكل شخص من أبناء بلده قِصّة معه، فكان صانعاً من صُنّاع الحياة. يهدي الناس ما يبقى، ويهدونه ما يفنى . كان يلتمس حال الفقراء، فيذهب لبيوتهم، ويعطيهم سراً . كانت كلمته المشهورة: ( قُلْ كلمتك وامشِ ). وقد كان مميزاً بالتوفيق بين التراث والمعاصرة من خلال الندوات والتحليلات، وقد كان بالمركز الثقافي بالبلدة أكثر من عشرين ألف عنوان يعرفها أكثر من الكُتبي القائم عليها. يستفيد من أي كتاب أو مجلة أو قصاصة. حَضرتُ له خُطبة في يوم من الأيام، وقد بنى الخطبة على رواية في مجلة للأطفال . لا يترك حفل عُرس إلا يكون له توجيه وإرشاد مع التملح حسب المقام والحال، وكذلك سيحضر أي عزاء في المدينة وريفها. فصار القاصي والداني يعرف الغُزيل. لقد كنتُ أقول في نفسي: لو مات الغُزيل ستكون له جنازة مشهودة في منبج لم يكن مثلها من قبل ولا من بعد . لكن قَدَّر الله، وما شاء فعل . فقدره يموت وحيداً، ويعيش وحيداً، ونسأل الله أن يبعثه وحيداً . وكان يستشهد بقول ابن دريد:
إنما المرء حديثٌ بعده .... فكُنْ حديثاً حسناً لمن وعى
رحم الله أستاذنا، وأسكنه فسيح جناته.
رثاء محمد منلا غزيل:
وكتب الشاعر المنبجي (علي صالح الجاسم):
تمرّ كـــأنّ الفجرَ مثلَكَ عـــابــــرُ كما همهماتُ الغيث هَوْناً تَمَاطرُ
عبرْتَ غريباً كيف يمكن يـــا تُرَى بمنبجَ أن تنساك هــذي المنابرُ؟!…
نعتْكَ أبـــــا الغزلانِ كــلُّ دروبها وقد شعرتْ باليتمِ حتّى المعابرُ
أأبكيك أم أبكي القوافي كليمةً تسيرُ وراءَ النَّعشِ وهـــي تُكابِرُ؟
مررتَ بذي الدنيا عزيزاً فلم تنؤْ بحملٍ لهــــا والعابرون نواظـرُ
فلا هيَ قــد قرّتْ بعينكَ لحظةً ولا كنتَ مأخـــوذَ الجَنَـانِ تُعاقِرُ
إخــــالُكَ ممهوراً بعفّةِ يوسـفٍ إذا ما إليها قــــد دعتْكَ خواطرُ
لسانُكَ سيفُ الحقِّ مــا فُلَّ عزمُهُ تدينُ لــــه فــــي النَّـــازلاتِ البواترُ
هصرْتَ بــه ظهْرَ الزّمـــان عزيمةً لهـــــا فـــــي ميادين الكفاح مآثرُ…
فكنتَ أميراً فـــي بســـاطةِ زاهدٍ وكنتَ حكيماً ترتجيك الأكــــابـــرُ
قصورٌ بنتْها فـــي التّــلال ملوكها وقصرُكَ شــادتْــه القلوبُ العوامرُ
ملكْتَ نفوسَ النَّاس وهي رضيّةٌ فحاطتْكَ منهــــا أعينٌ وبصـــــائرُ
وقلتَ إلــى الرحمن دربيَ واضحٌ منارتُهُ القــــرآنُ, والحقُّ ظـــاهرُ
مضيْتَ فــلا مــلَّ اليراعُ خصوبــةً ولا أنتَ هزّتْكَ الرِّيــــاحُ الكواســرُ
بسطْتَ لها جِنْحيكَ دعوةَ صادقٍ يفيضُ بيـــاناً «يوم تُبْلَى السَّرائرُ»
وكتب عنه:
وقد كتب عن حياته ودراسة شعره العديد من الأدباء والنقاد، نذكر منهم:
1-الحركة الشعرية المعاصرة في حلب- أحمد دوغان – صدر 1975م.
2-محمد منلا غزيل في ظلال الدعوة – عبد الله الطنطاوي - صدر عام 1977م.
3- في الأدب الإسلامي المعاصر – محمد حسن بريغش – صدر عام 1985م.
4- معجم البابطين : 4 / 594.
5- أجمل مئة قصيدة من الشعر الإسلامي: أحمد الجدع : وقد اختار له قصيدة الله والطاغوت، وقدم لها دراسة نقدية مختصرة.
6-الثورة الجزائرية في شعر محمد غزيل – إبراهيم النويري ( الجزائر).
7-القدس في ضمير الغزيل- إبراهيم النويري - مجلة القدس الصادرة في الجزائر.
8-الأخلاقيات في شعر الغزيل – رسالة دكتوراه تقدم بها الباحث عبد العزيز الغدير – جامعات السعودية.
9-الداعية الحكيم محمد منلا غزيل- د. إبراهيم الديبو – الانترنت.
10- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث- الجزء الثالث.
11- مجلة الفجر – 30 أغسطس 2016م.
12-رابطة أدباء الشام .
مصادر الترجمة:
1- معجم البابطين.
2- فارس القوافي محمد منلا غزيل – عبد الستار إبراهيم السعيدي – دار الإصلاح بحلب.
3- محمد منلا غزيل في ظلال الدعوة – عبد الله الطنطاوي – دار الفرقان – الأردن.
4- الأعمال الشعرية الكاملة – دار عمار بالأردن.
5- مقدمة الأستاذ حسن النيفي للأعمال الشعرية الكاملة.
6- الشاعر الحكيم محمد منلا غزيل – د. إبراهيم الديبو.
7- حوار بعنوان محمد منلا غزيل: رائد التوفيق الثوري بين التراث والمعاصرة، حاوره براء العويس عن رابطة نون للثقافة والحوار، في صفحة حوارات لموقع فضاءات.
8- مقالة الأستاذ محمد عدنان كاتبي .
- يتبع -
وسوم: العدد 850