السيناريو التربوي المنحاز إلى غير القصة
عندما تقرأ ما كتبه "علي مبارك" في مذكراته "حياتي" يبدو لك جناية المعد التربوي الذي كتب السيناريو والحوار للنص المقرر على الصف السادس الابتدائي.
كيف؟
لقد وضع المعد رؤيته في بعض القضايا التي رأى وجوب إقحامها على نص المؤلف فأساء، وليته التزم بنص المؤلف الجيد لغة في المواضع التي حدد وضعها في النص المقرر تربويا.
كيف؟
سأذكر مثالين أوازن فيهما بين نص المؤلف لغة وكما وبين النص المقرر على التلاميذ ليتضح المراد.
ما النص الأول؟
إنه النص الخاص ببيان تجربة علي مبارك في كتاب الشيخ أحمد أبي خضر.
ماذا قال عنه علي مبارك؟
تجد كل ما كتبه سبعا وعشرين (27) كلمة حملت رؤيته الكاملة: (ومن خوفي منه كنت لا أعود إليه فارغ اليد، فأقمت عنده نحو سنتين، فختمت القرآن بداءة، ثم لكثرة ضربه لي تركته وأبيت أن أذهب إليه بعد ذلك).
هذا هو نص علي مبارك، فكيف استثمره صاحب السيناريو والحوار؟
زاد وزاد حتى جعلها إحدى وثلاثين ومائة (131) كلمة؛ مما جعله يسيء بتناقضه بين اتهام الشيخ أبي خضر بالضرب لأتفه الأسباب وبين عدم ضرب الذي يحفظ، ويسيء في الحوار بي علي وأبيه.
ماذا قال؟
قال: (عندما ذهب الصبى إلى الشيخ أبى خضر فى كتابه وجده كاشر الوجه قاسى الطبع، بجانبه عصا غليظة، ينظر إليها أولاد الكتاب فى خوف شديد، فملكه الرعب، ثم ازداد ما به من الفزع وهو يرى تلك العصا تهوى على جسد بعض أولئك الأولاد لأتفه الأسباب. فكره الشيخ، وقال لنفسه فى ألمٍ شديدٍ: هل يليق بالمعلم أن يكون بمثل هذه القسوة؟ وهل جئنا إلى هنا لنتعلم الجبن والخوف؟ وبعد فترة أدرك أنه يمكن أن ينجو من شر هذه العصا إذا اجتهد ليتم حفظ القرآن الكريم، وعندئذ يترك الكتاب ويبعد عن صاحبه الذى يقسو على تلاميذه بالضرب والسب والإهانة). (وأمضى سنتين كاملتين على هذه الطريقة، أتم فيهما حفظ القرآن الكريم للمرة الأولى التى تسمى البداية). (وأعود مرة أخرى إلى العصا الغليظة والمعاملة القاسية، وأتعلم الخضوع والمذلة والجبن؟ لا، لن أعود أبدا إلى ذلك الشيخ).
هذا عن النص الأول، فما النص الآخر؟
إنه النص الذي يحكي تجربة علي مبارك في بيت الكاتب.
كيف صاغه علي مبارك؟
حكى علي مبارك في كتابه (حياتي) ص6 تجربته مع الكاتب في ثلاث وتسعين (93) كلمة أورد فيها معلومات حوت حال الكاتب من فقر وقلة عمل؛ مما يجعل الكاتب غير متهم بالتقتير، وبين فيها أن وظيفة الكاتب كانت وظيفة رسمية، فقال: (وكان لوادي صاحب من الكتاب كان كاتب قسم، وإقامته بناحية الأخيوة، فأسلمني إليه، فرأيته رجلا حسن الهيئة نظيف الثياب جميل الخط. فأقمت عنده مدة، ولي من والدي مرتب يكفيني. فدخلت بيته، وخالطت عياله، فإذا هو مجمل الظاهر فقير في بيته، وله ثلاث زوجات وعيال، على قلة من الزاد، فكنت في غالب أيامي أبيت طاويا من الجوع. وكان أغلب تعليمه إياي في البيت أمام نسائه، وكان خروجه إلى السرحة قليلا. وإذا خرج يستصحبني معه فلا أستفيد إلا خدمتي له، ومع ذلك كان يؤذيني دائما. وذهبت إلى والدي أشكو إليه، فلم أنل منه إلا الأذية).
ونسأل: هل تغير استثمار كاتب السيناريو والحوار عن السابق؟
لا.
كيف؟
لقد أوصلها إلى تسع وأربعين ومائتين (249) كلمة لم تحو إلا الاتهامات للكاتب والوالد، ولم تحو المعلومات السابقة.
ماذا قال؟
قال: (وسر الصبى كثيرا حين ذهب إلى ذلك الكاتب، ورأى ثيابه النظيفة وملابسه الحسنة، وجعل يقول لنفسه فى فرح شديد: بلغت يا علي ما كنت تتمنى! هذا هو المكان الذى كنت تحلم به، وسوف تتعلم فيه أحسن تعليم، وتقيم أحسن إقامة مع هذا الرجل الظريف النظيف العطوف الذى لا يضرب ولا يشتم ولا يؤذي، ولن يحرمك شيئاً مثل الشيخ أبو خضر!
لكن ظنه كان خاطئا؛ فقد غره المظهر ولم يعلم ما وراءه؛ فسريعا ما ظهرت له الحقيقة المرة. فلم يجد فى بيت هذا الرجل الهدوء الذى كان ينشده. ووجده يموج بالضجة لكثرة عيال الرجل من زوجاته الثلاث، ثم وجده يقتر عليه فى الطعام، فلا يعطيه ما يشبعه، وفى كثير من الليالى يحرمه منه، فيبيت جائعا. فإذا خرج إلى العمل أخذه معه لا يعلمه، بل ليتخذه خادماً يخدمه مع إهانته وسبه وشتمه. فلم يطق هذا الجو الكئيب، وعاد إلى أبيه يشكو إليه هذا الكاتب المعلم الذى يؤذيه، ولا يستفيد شيئاً منه. فقابل أبوه شكواه بالغضب الشديد منه، وصاح فيه قائلا:
- اخسأ يا ولد وتأدب، ولا تقل هذا عن معلمك! إنه يعلمك ويرشدك،
- لكنه يا أبى لا يرشدنى، ولا يعلمنى حرفا ولا غيره، بل يؤذينى ويجيعنى، فكيف أصبر على هذا الحال؟! ولماذا أكذب وقد اخترت بنفسى هذا الطريق الذى ظننت أنه سيجعلنى إنسانا محترما؟
وفات الشيخ مبارك أن يقرأ ما فى وجه صغيره كما قرأه فى المرة السابقة؛ ليتبين ما فيه من العزم على أمر خطير، ويعرف أن الشدة لا تفيد، وأنه كان ينبغى أن يرق مع ابنه حتى لا يزيده كراهية لما هو فيه، ويدفعه إلى شىء لا يحبه).
وسوم: العدد 850