الظاهرة الأدبية (3) في ضوء نظرية المعرفة القرآنية
ثانياً: مجال التفكير:
1.ومجال التفكير كما حددته الآية الكريمة {في خلق السماوات والأرض} وفي تحديد المجال حكمة ربانية بالغة، هدفها ضبط عملية التفكير ضمن خطوات وقنوات محددة هي الحواس الخمس، وهي منافذ الفكر على (السماوات والأرض)؛ فالعين تبصر الأبعاد والأحجام والألوان، والأذن تسمع الأصوات، واللسان للمذاقات، والجلد لملامسة الأشياء، ناعمة أو خشنة أو حارة أو باردة، والأنف للروائح. وقد منّ الله على الإنسان بهذه النعمة العظيمة، نعمة الحواس الخمس في آيات كثيرة منها قوله تعالى {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78].
وقوله تعالى: {ألم نجعل له عينين. ولساناً وشفتين} [البلد: 8-9].
وقوله تعالى: {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} [الحاقة: 12].
2.وتتميز الحواس بأنها مصممة على درجات محددة، فهي لا تدرك (ما تحت الدرجة) وهي أيضاً لا تدرك (ما فوق الدرجة).
3.وقد أثبت العلم الحديث أن لدى حواس الحيوانات والطيور من القدرات ما تتفوَّق به على حواس الإنسان حيث تطَّلع على عوالم هي عند الإنسان من الغيب.
بينما لا تستطيع حواس الإنسان أن تدرك إلا من خلال الدرجة المحددة لها، ولهذا يعيش الإنسان في وسط عالم الغيب، ولا يعلم عنه إلا بحدود ما تسمح به قدرات حواسه، وقد شبَّه القرآن الكريم الحواس بالغطاء الذي لا يمرر له من الحياة التي تحيط به إلا بحدود طاقات هذا الغطاء، حتى إذا انفصلت الروح عن الجسد، وتحررت من هذا الغطاء، الذي يشبه غطاء الغواص، رأت حقائق عالم الغيب التي كانت محجوبة عنها في الدنيا، قال تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22].
وتظهر أهمية الحواس في كونها تربط الإنسان بواقعه، وحيث تساعده على نقل صورة الحياة المحيطة به، ليستوعب وظيفته ومقصد وجوده، ولا يشتّ عن هذه الوظيفة بالهرب إلى ذاته، فيعجز عن الاستمرار في الحياة.
4.وعلم الحواس معرض للخطأ، ولكن التفكير يكشف أغاليط الحس ويصوبها، وعلم الحواس أيضاً علم متفاوت، فأكثر العلم يأتينا عن طريق حاسة (السمع) ثم يليه علم حاسة (البصر) ثم تليها بقية الحواس، ولكن علم (البصر) أكثر دقة وتأكيداً من علم (السمع) الذي يحتاج إلى التروي قبل قبوله، لأن آفتي التحريف والنسيان تلعبان به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى ذلك (ليس المخبر كالمعاين)
5.وقد حددت الآية الكريمة مجال التفكير بـ(السماوات والأرض)، وهو بحاجة إلى معرفتها وإعمارها، ولذلك فالبقاء مع الحواس أثناء عملية الإدراك أسلم للتفكير المسلم، لأن ذلك يحميه من الانفلات مع التخيلات الخرافية والأوهام، التي قد يقع فيها الإنسان، وتكون نابعة من اختراع قوة المخيلة، ومن حملها بعض المحسوسات على بعض، دون التأكد من أصولها الحسية في الواقع، وهو ما حصل بالفعل في الأديان الصوفية التي صنعها خيال شعوب شرق آسيا (كالبوذية والطاوية والبرهمية وغيرها) حيث حالة الهروب الصوفي من الواقع مع الخيال الحر المتحرر من تكاليف الواقع.
6.وتعلَّم المسلم من منهجه أن علم الحواس وجهود الفكر مرتبط باكتشاف العالم المادي المحسوس لتخسيره في حياته، أما (عالم الغيب) الذي لا يقع في متناول الحواس، والأسئلة الكبرى عنه، التي تذهل عقل الإنسان، فيترك أمر العلم فيها إلى علم الوحي، الذي ثبت في أصوله عن طريق العقل والإعجاز، لأنه المصدر الوحيد القادر على الإجابة في مثل هذه الأمور.
ثالثاً: نتائج التفكير:
لا يمكن لعلم الدماغ أن يرتقي في الاتجاه السليم ويحقق الأهداف المنشودة للتفكير، إلا إذا امتلك الأمور التالية:
1.أن يقصد تعلم الحقائق والخضوع لها، ويكون ذلك بقبول الحقائق والسنن التي تحكم الأشياء في واقعها المستقل عن ذواتنا، حتى يصل إلى الحق الذي صدرت عن مشيئته جميع الحقائق.
2.كثرة التجارب التي تزيده قرباً من حقائق الأشياء، حتى تنكشف الملابسات المحيطة بها فتجلو عنها الأوهام وتزيد من خبرته في فهمها وتمييزها وهو ما قصده الشاعر بقوله:
ألم تر أن العقل زينٌ لأهله وأن كمال العقل طول التجارب
3.أن يمتلك قاعدة واسعة من المعلومات والحقائق والخبرات والبيانات والمفاهيم عن الحياة من مصدري العلم: (علم الوحي وعلم حقائق الوجود).
وترتبط النتائج المستخرجة من تلك العمليات الفكرية بصحة المدخلات وصحة قواعد المنهج، وصحة قواعد المحاكمة ومراحلها، حتى تأتي النتائج (المستخرجات) في غاية الوضوح والسداد.
ويفترض في العمليات الفكرية أن تحافظ على حيادها، وأن لا تسمح لعواطف القلب ومشاعره بالتدخل في مسار المحاكمات الفكرية، حتى تكتمل الحقائق والمفاهيم من فرض نفسها، وهذا هو الوضع الطبيعي للتفكير المحايد السليم الذي لا يخضع لهوى القلب، وبذلك يحقق الدماغ وظيفته العظيمة التي أوكله الله بها وهي: الاتصال بالواقع المحسوس والتفكير في فهم هذه الحياة، ليصل إلى الحقائق والفرضيات والمفاهيم الواضحة عنها.
وبذلك يشكل الدماغ بعملياته الفكرية مركز إرشاد للقلب عن حقائق الحياة، حتى يكون الناصح الأمين والوزير المعين لفطرة القلب، والقلب بعد ذلك حر في قبول هذا الإرشاد أو رفضه، وعندها تنتفي العبثية عن الكون من فكر الإنسان، ويطل على مشارف عالم الغيب، بما امتلك من التفسير
والوضوح، ليلهج بالحقيقة التي توصل إليها فهمه وتفكيره {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وقد أشارت آية قرآنية إلى قضية الفهم باعتبارها حصيلة التفكير النهائية في قوله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً} [الأنبياء: 79
ثم نتحدث عن المعرفة في القرآن من خلال قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191]؛ باعتبارها تمثل معالم نظرية المعرفة القرآنية، وذلك من خلال المراحل التالية: مرحلة التفكير، مجال التفكير، نتائج التفكير، حكم القلب وقيمة الحقيقة.
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 850